الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جيل دولوز.. الفصل الأخير للحرية

جيل دولوز.. الفصل الأخير للحرية
13 ديسمبر 2018 03:10

أحمد حميدة

يعدّ جيل دولوز من الوجوه الفكريّة الأكثر إثارة للجدل ومن أشدّها جاذبيّة في تاريخ الفلسفة المعاصرة، وإنّ فكره الفذّ، الذي قد يرى فيه البعض فكراً غريباً، لحقيق بأن نتوقّف عنده بالدّراسة والتّمحيص والتّدقيق، حتّى نستكشف أغواره ونفكّ بعضا من رموزه. لا جدال في أن الرّجل كان ولا يزال، قامة فلسفيّة سامقة، بل منارة فلسفيّة يستضيء بها كلّ الكادحين على درب الحقيقة، المتطاولين للآفاق القصيّة للمعنى. وإنّه لمن المستغرب حقّا أن تكون أعماله ظلّت إلى حدّ ما غير معروفة، مقارنة بأعمال مفكّرين وفلاسفة آخرين كانوا من مرافقيه ومعاصريه. والحقيقة أنّه ليس من الميسور الاقتراب من فكر دولوز وفلسفته، وهو الذي تناول قضايا جوهريّة غاية في العمق والتنوّع، معتمدا في ذلك لغة قد لا يطالها المرء ما لم يستأنس بها، ويكون قد خبر أسرارها وخفاياها.لئن وسم دولوز الفلسفة المعاصرة بدمغة عميقة، فإنّ كلمات مفردات من كتاباته قد تجعلنا نكتشف رحابة تطلّعاته: «عندما يُعطى الإنسان جسداً بلا أعضاء، يعطى منفذاً للتحرر من ردود فعله التلقائية، عندها فقط يسترجع كامل حريته»، أو.. «الجسد بلا أعضاء هو حالة إبداع، حيث يوضع التحامل جانباً. هي حالة ما قبل الخلق، حيث يكون كل شيء متاح».
فأن نجعل من دولوز وجهتنا الفلسفيّة، فإنّ ذلك يعني حينئذ أن نكتشف عالما آخر شِيدَ بمفاهيم ومصطلحات غير مألوفة، بل غير مسبوقة.

مثقّف محتدم الحماس
لقد كبر جيل دولوز في وسط عائليّ برجوازيّ باريسيّ، ودرج منذ صباه على قضاء عطله الصّيفيّة في مدينة دوفيل. وقد جعله ذلك يلتحق في شبابه بمدرسة خاصّة بهذه المدينة أثناء الحرب، وكانت مدينة دوفيل يومذاك أكثر أمناً من العاصمة. وهناك تحديداً.. سيبدأ تحمّسه للأدب واستكشافه لعالم الفلسفة. وعاد دولوز بعد ذلك إلى باريس سنة 1941، حيث احتكّ بمفكّرين مرموقين خلال تلك الفترة، من أمثال غي موكي، ميشال تورنييه، ميشال بيتور.. وآخرين كثر. وقد أبدى حينها اهتماماً متزايداً بالفلسفة ولكن أيضاً بعلم النّفس.
وكان تفكير سارتر وقراءة أعماله هو الذي استوقف اهتمامه بشكل خاص في بداية رحلته الفكريّة. وكان كتاب «الوجود والعدم»، الذي انطوى على فكر جديد، هو الكتاب الذي ترك بالغ الأثر في فكره، في فترة كانت أوضاع فرنسا لا تزال تتّسم بالكثير من التوتّر بفعل الاحتلال الألماني. ولكن سرعان ما سيُصيب المُعلّم.. مريده.. بخيبة أمل موجعة. ثمّ كان فكر هنري برغسون الذي ساهم إلى أبعد الحدود في تشكّل تفكيره الفلسفي ورؤيته للوجود. وقد تأكّدت نباهة جيل دولوز، وأثبت للجميع أنّه تلميذ استثنائي بالغ التألّق، غير أنّه كان يشكو منذ الصّبا الباكر من صعوبة في التنفّس لن تنفكّ عن إرباكه وإعاقته. ومع ذلك سيغدو وبسرعة مبرّزا في الفلسفة، ثمّ في سنة 1948، أستاذا في هذه المادّة بمدينة ليون. وفي تلك الأثناء سوف يثير الرّجل كما فكره اهتمام القرّاء والمفكّرين وعشّاق الفلسفة، ما بين ممتدح ومنتقد، ليثبت زخمُ الكتابات النّقديّة عنه إلى أيّ مدى غدا جيل دولوز مفكّراً مجدّداً وأحد رموز الفكر الفلسفي المعاصر بفرنسا.

مؤرّخ للفلسفة
لقد عُرف جيل دولوز لفترة طويلة كمؤرّخ للفلسفة أكثر من كونه فيلسوفا. وفي نهاية الخمسينات وبداية الستّينات كانت علاقته المثمرة بميشال فوكو الذي غدا من أصدقائه المقرّبين. وفيما لم ينشر دولوز غير القليل من أعماله حتّى تلك الفترة، غدا في الستّينات كاتبا غزير الإنتاج ومتعدّد التّآليف. وقد كانت كتب دولوز الأولى مهداة إلى فلاسفة أو كتّاب أثيرين، ولكن سرعان ما نشر دولوز كتابات أفصحت بشكل بليغ عن مدى أصالة تأمّلاته الفلسفيّة وعمق أطروحاته التّجديديّة. وكمؤرّخ للفلسفة اعتُبر دولوز صاحب نظرية في مجال التّاْريخ للفكر، بيْد أن تأريخ دولوز للفلسفة، لن يكون تأريخًا خطيًّا أو أفقيًّا، إذ كان يؤرخ للفلسفة من منطلق فلسفي. وتأريخ دولوز للفلسفة، لم يكن ليهتم بنقطة بداية أو نهاية، كما لن يهتم إطلاقًا بالأسئلة الفلسفية التقليدية، حول ما إذا كان نيتشه مثلًا ينتمي إلى تاريخ الميتافيزيقا، أم أنه قد توفّق في تجاوزها، لقد اهتمّ دولوز بالفلاسفة المنتمين لتاريخ الفلسفة، ولكن تحديدا بأولئك الذي كانوا ينفلتون من أسر ذلك التّاريخ ويزيغون عنه، فيرتدّون إلى هامشه، أو ينخلعون منه كليّة، ومن هؤلاء.. برغسون وسبينوزا ونيتشه وهيوم وليبنيز.
وكان دولوز يرى أنّ تاريخ الفلسفة ليس تاريخًا موحدًا، ولا متجانسًا، بل إنّه تاريخ متقطّع ومنفصل، تسود فيه الفراغات والهوامش، أكثر من مواطن الامتلاء والتّمركز، وهو تاريخ للتكرار، ينتج أوجها للتشابه بوسائل مخالفة تمامًا.
لذا اهتم دولوز ببرغسون.. كفيلسوف للاختلاف والمحايثة، على أن أهم مفهوم أثار انتباهه، هو الحدس البرغسوني، فإذا كان الحدس الديكارتي يدرك الفكرة الواضحة المتميزة والعقلانية، فإن الحدس البرغسوني أو الدولوزي، كان يعمل على إدراك الوجود دون شروط معرفيّة، أو مقولات جاهزة، فهو يدرك الديمومة كما تتجلى في الوجود، والديمومة هي شكل من أشكال التغير الأنطولوجي، الذي لا يدرَك بمنطق الثبات والحساب، لأنّها حركة حيّة عصيّة على التكميم.

ابن زمنه
لم يكن دولوز أبداً غير مبال بما كان يدور حوله، فقد عُرف في تلك الأثناء بمناصرته لانتفاضة الطّلبة في أحداث ماي 1968، وكان لا يزال يومذاك أستاذا للفلسفة بمدينة مليار. واحتلّت السّياسة بسرعة حيّزا هامّا من اهتماماته الفكريّة، فبدا الرّجل شديد الاندماج بأحداث عصره وسريع التّفاعل مع الأحداث الهامّة التي كانت تحكم نبض الشّارع الفرنسي. وسوف يظلّ في نظر الجميع، الخبير المتمكّن بالأحداث الكبرى للتّاريخ، التّاريخ الذي سوف يلهم جزءا غير قليل من أعماله.
دولوز وفيليكس غاتّري
يكون من المتعذّر حقّا الحديث عن جيل دولوز دون ذكرٍ لفليكس غاتّري الذي كان صديقه الحميم، والذي طالما تقاسم معه رغيف الفلسفة، حتّى أنّ البعض اعتبر هذا الأخير على سبيل المغالاة.. لِسانَ حال دولوز وتُرجمانه، والحال أنّ الفكر الذي جمعهما لم يكن متماثلاً بقدر ما كان قائماً على التّكامل.. ويعترف دولوز ذاته أنّه مدين لغاتّري بالكثير، لأنّ هذا الأخير مارس بالفعل تأثيرا بليغا في مقاربات صديقه الفلسفيّة. لقد كان فيليكس غاتّري هو الآخر فيلسوفاً، ولكنّه كان أيضاً عالم نفس ومناضلاً يساريّاً، ومتمرّداً دائم التأهّب لدعم قضايا العدل والدّفاع عن حقوق الأقليّات. وفي غمرة أحداث 1968 كان قد انضمّ إلى حركة «الإذاعات الحرّة»، وناصر كولوش أثناء الحملة الرّئاسيّة لسنة 1981، وكان غاتّري في ذات الوقت مناضلا حركيّا شديد التحمّس لقضايا البيئة في أبعادها الطّبيعيّة والإنسانيّة والعقليّة.

دولوز.. وجيلبار سيموندون
أمّا جيلبار سيموندون، فقد كان على غرار دولوز أستاذا مبرّزا في الفلسفة، سخّر حياته للبحث والتّعليم، وساهم في مهمّات عديدة لتحسين الأوضاع المعيشيّة للسّجناء والأطفال المعدمين. وإنّه لمن المدهش أن يكون سيموندون قد تحمّس أيضا لقضايا تهمّ ظروف العملة الزّراعيّين، أو أن يكون قد شارك في حملات من أجل أن تصنّع مصابيح أماميّة للسيّارت تكون أقلّ إبهارا لسالكي الطّرقات. رجل غريب.. ولكنّه كان شديد القرابة من دولوز في تناوله للعديد من المفاهيم الفلسفيّة.

فكر.. بالغ الثّراء
يظلّ دولوز مثقّفا شاهقا ومفكّرا مبدعا، أثرى المعجم الفلسفي بعديد المفاهيم، التي تناولها في كتاباته بالكثير من الشّرح والتّدقيق. وفيما غيّبه الموت سنة 1995 وهو في سنّ السّبعين، غدا فكره محلّ بحث وتدقيق وتأويلات عديدة، وإن ظلّت آراءه في أغلب الأحيان بالغة التّعقيد وصعبة المنال. إنّه لينطلق من فرضيّات يكون أسلافه قد تناولوها بالدّراسة، ولكن قبل أن يتوصّل هو إلى بثّ روح تجديديّة فيها ويجعل منها نظريّات جديدة ومختلفة.
ويرى دولوز أن الإنسان هو ليس ذلك الكائن الفطن والحكيم الذي يتعقّب الحقيقة، وإنّما هو ذلك الذي يطرح أسئلة هي أبعد ما تكون عن كونها أسئلة جديدة. أمّا الفلسفة، فقد كان يرى أنّها لا تمتلك ترياقا سحريّا لتلك التّساؤلات، يسمح بطرح الإشكاليّات وبالوصول إلى حلول أو فرضيّات، لأنّ الإنسان في الحقيقة، لا ينفكّ يتأرجح بين هاتين الوضعيّتين، مأخوذا على نحو موصول، في مدّ الحيرة ودوار التّساؤل. لماذا؟.. لأنّ «الأنا» هي أيضا «الآخر» بلا اِنتهاء، ولأنّ التّفاعل بين البشر يجعل الإنسانيّة في حال التّأرجح.

عمل منذور للبقاء
«ضدّ أوديب» أو بالأحرى «الرأسماليّة وداء الانفصام»، كتاب صدر على إثر أحداث 1968 بإمضاء دولوز وشريكه فيليب غاتّري وحاز في الأوساط الثّقافيّة حينها نجاحا إعلاميّا مدويّا، إذ عارض فيه دولوز نظريّتي فرويد وماركس. أمّا المقاربة الفرويديّة، فقد نبذها الاثنان لأنّها ضيّقة الأفق ولا تتجاوز المحيط الأسري، ومن هنا كان اختيار شبه العنوان «ضدّ عقدة أوديب». كما اُتّهمت نظريّات فرويد بتعريف الكائن البشري اعتمادا على الإحباطات التي يكون قد عاشها في طور الطّفولة، وهي النّظريّة التي لا تخدم في الواقع غير مصالح الطّبقة البرجوازيّة والنّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ الذي يسندها، وهو النّظام القائم على الاستبداد.
ويؤدّي علم النّفس كما الدّين دورا متماثلا، يرى فيه البعض عنصر توازن ملائم للسّلام الفردي والجماعي. غير أنّ دولوز يرى أنّهما لا يساهمان إلاّ في قتل الرّغبة بإثارتها موقفا سلبيّا أمام حالة الاستعباد التي يخضع لها الأفراد في حياتهم، فيما يعمل النّظام الرّأسمالي من ناحيته على قمع الرّغبات الحقيقيّة للإنسان. قريبا من إسبينوزا على هذا المستوى، كان دولوز يفكّر في ثورة 1968 وفي إخفاقها. فلا تكون الثّورة بالنّسبة له كما بالنّسبة لغاتّري، إلاّ فرديّة ومتعلّقة بالأقليّة. وقد تابع الإثنان بعد ذلك التأمّل في هذه المسألة ليكتبا سويّا «كافكا، من أجل أدب هامشيّ»، ثمّ كتاب «ما الفلسفة؟».
وإذا كان كتاب «ضدّ عقدة أوديب» حظي بمثل ذلك القبول المدوّي في الأوساط الفلسفيّة، فذلك لأنّه كان كتابا مستفزّا على مستوى المضمون كما على مستوى الشّكل. ولكن ينبغي الآّ نأخذ بظاهر الأشياء، فنحن حقيقة بصدد تحليل فلسفيّ لظاهرة الرّغبة، ولا بصدد شعار «السّلام والحبّ» الأثير لدى جيل تلك الفترة، وذلك لأنّه كان يرى أنّ «التزهّد كان دوما شرطا لبروز الرّغبة، وليس كبحا أو تكميما لها».

مفردات أم «مفاهيم» دولوزيّة؟
لقد كان لنظريّات دولوز وغاتّري أثرا مدوّيا في أوساط المثقّفين والفلاسفة، حتّى أنّها غدت تعرف في الولايات المتّحدة بالنّظريّة الفرنسيّة (فرنش ثيوري). وحتّى نشرع في فهم ذلك الفكر، ينبغي لنا أيضا تبنّي مفردات واصطلاحات دلوز، ومنها مثلا..

مفهوم الجذرمور
نحن نعرف المعنى الأصلي لهذه المفردة، التي تطلق على ساق نباتيّة غالبا ما تحتوي عل المخزون الغذائيّ لنبتة معمّرة، وعامّة ما توجد تحت الأرض أو تحت الماء. واللاّفت أنّ الجذمور يتميّز بشكله الأفقيّ. وفي المجال الفلسفي يستلهم دولوز تلك الخاصيّة الأفقيّة لوصف أنموذج فكريّ لا تدرّج فيه ويغيب فيه المركز، وحيث يؤثّر كلّ عنصر في الآخر، دون أن يكون ثمّة هيمنة لأحدها على الآخر. فبإمكان الجذرمور أن يغدو هكذا ساقا وفروعا أو جذرا، وكذلك يكون النّظام المعرفي الذي يتنامى بفعل التشعّب.
وأبدع جيل دولوز جملة من المفاهيم الأخرى التي تركت بصمتها في الفلسفة المعاصرة، قد نذكر من بينها: المفهوم أو الأفهوم، الزمان، الاختلاف، السيمولاكر، الهويّة، العادة والتكرار... إلخ. ومن المتعارف عليه أنّ دولوز يعدّ فيلسوف المفهوم، وكما هو مشاع، فقد اعتبر هذا الأخير الفلسفة فنّ إبداع ونحت المفاهيم، وتبدع الفلسفة المفاهيم لبعث الحركة في الفكر، وتحرير الممكن الحي الكامن في التجربة، ولتقرّب العقل من الوجود والحدث، فالمفاهيم عبارة عن أحداث وأفراد، والسبب الذي يجعل الفلسفة تعمل على إبداع وتجديد المفاهيم، هو حرصها على التخلص من المفاهيم الجامدة، والثابتة. كما لا يعبّر المفهوم الدولوزي عن الوحدة، بل عن التعدد، ولا عن التشابه وإنّما عن الاختلاف، كما أنه لا يهتم بالمركز، وإنّما بالهامش والأطراف، ولِنقل بالجذمور، أي حقل ترابط محايد لذاته، ولا يأتي المفهوم جوابًا على الماهية، بل على الكيف، كونه يجاور المكونات ولا يجمعها.
ويرى دولوز وغاتّري أنّ البنية الأفقيّة للجذمور تمكّن من معارضة الأنموذج التدرّجي الكلاسّيكيّ والتعسّفي، سواء في المجال المعرفي أو في مجال علم النّفس.

مفهوم الزّمن
يعبر مفهوم الزمن عند دولوز عن العادة والتكرار، فالأنا الحاضرة في الزمن، ليست سوى إعادة وتكرار لذاتها، داخل العادات البسيطة والصغرى التي تكسر بنية الزمن، والحاضر لا يعبّر عند دولوز، عمّا هو موجود، بل عما يكون قد مضى، والذات التي تشكل الحاضر توجد في الماضي، فما نحياه تجريبيًّا كتعاقب للحاضر، هو في العمق، عبارة عن «مستويات جزئية من الماضي، تتزايد وتتحقق في تركيب هذا الحاضر المنفعل».
وزمن دولوز ليس زمنًا مترابطًا وخطيًّا، إنه زمن من دون حركة، يتمثل فيه الماضي في الحاضر، فهو زمن العوْد الأبدي، زمن التنافر والاختلاف والتباين، إنه العوْد الذي يتمّ من سبيل أخرى، أي عودة الاختلافات بما هي تكرار، والاختلافات هي وحدها التي تعود، لذا.. فدورة الزمن عند دولوز تعبّر عن الوجود المشترك للكل.
مفهوم السيمولاكر
حسب أفلاطون.. السّيمولاكر هو صورة شيطانية، تخلق فعل التشابه الخادع، لأنّ السّيمولاكر بكل بساطة.. يحل ويفكك الهويات، والأسباب ذاتها هي التي جعلت دولوز يهتم بالسيمولاكر، فهو عندما يحلل الوحدات والهويات، يعبّر عن فعل حياة. والسيمولاكر.. نسخة تنفي ضمنيّا الشّبيه، فإذا كانت الأيقونة تكرر النموذج- الأصل، فإنّ السيمولاكر يخونه. والخيانة بهذا المعنى، نفخ في حياة النصوص، ومجاوزة لها، وهي أشبه بعملية قطع حبل السرة، فهي تفصل الطفل عن أمه، ليعود إليها من جديد. حينئذ ليست الخيانة هنا فعلًا شيطانيًّا سالبا، وهي التي تنفخ في النصوص فتجعلها نابضة وحيوية.

مفهوم الحيّز الأملس والمحزّز
ظهر هذا المفهوم في بادئ الأمر في كتاب «ألف هضبة». والحيّز المحزّز هو إلى حدّ ما المعيار. فالأمر يتعلّق بفضاء مؤطّر ومسمّى، يساعد على تحديد مسارات دقيقة. ويكون الموطن محزّزا لأنّه محدّد بقطع صغيرة. والحيّز الأملس هو نقيضه، متمثّلا في الفضاءات الصّحراويّة وسهوب الشّرق، حيث يكون بوسع البدو الترحّل حسب حاجتهم. إنّه مكان منفتح يلمس فيه الإنسان جسديّا حريّته.
ويرى دولوز وغاتّري أنّ تلك المفاهيم تفضي إلى نظم محدّدة: ففي الحالة الأولى تتشكّل بنية النّظام بطريقة عموديّة، فيما يتشكّل نمط التّفكير في الحالة الثّانية بطريقة حرّة وشاملة، دون أن تكون مهذّبة ومقيّدة بالمؤسّسات القائمة.
فلو قمنا بتطبيق هذه المفاهيم على النّظام الرّأسماليّ، ينبغي الاّ نخطئ لنعتبر أنّ هذا الأخير يندغم بالضّرورة في ما هو «محزّز». ففي العالم الحديث.. الأمر هو على العكس من ذلك، حيث غدت الرّأسماليّة العالميّة متنقّلة مثل البدو، فيما تُنشأ المؤسّسات الكبرى فضاءات ملساء خاصّة بها. وبهذا المعنى تكون شبكة الإنترنيت هي الأخرى فضاء أملسا يتموضع خارج الحدود، يتشكّل ويتفكّك في كلّ لحظة، خلافا لوسائل الإعلام التّقليديّة.
هذه فحسب بعض الأمثلة التي تمنحنا صورة محدودة عن الطّاقة الإبداعيّة الكامنة في معجم وأفكار ومفاهيم دولوز، وتكشف عن مدى ثراء عالمه، الذي غالبا ما كان ثوريّا ومتّسما بقدرة عجيبة على التّجديد.

نهاية مفجعة
في نوفمبر 1995.. اختار دولوز وضع حدّ لحياته بإلقاء نفسه من النّافذة، وكان أرهقه ذلك الدّاء العضال الذي أصاب جهازه التنفّسي منذ الصّبا الباكر، والذي ما انفك يتفاقم بمرور الأيّام. وأحيانا ما أثار البعض بصدده فكرة «الجسد العديم الأعضاء» التي كان دولوز قد تحدّث عنها ملمحا إلى تلك النهاية الفاجعة، فيما جسّمت تلك الفكرة مبدأ، ينبغي للجسد وفقه أن يكون منفتحا، وألاّ يكون أسيرا لباطنه، وألاّ يوحي بأيّ إحساس مرضيّ. وقد بيّن الكاتب بالفعل أنّ الحياة هي عمليّة هدم وتدمير، للجسد على الأقلّ، ولا للحياة في حدّ ذاتها.
ووُصف موته بـ «الفصل الأخير للحريّة»، لأنّ دولوز لن يظلّ على قيد الحياة في تلك الفترة إلاّ بإسعاف طبيّ ميكانيكي لجهازه التنفّسيّ، وكان المرض في تلك الأثناء قد أقعده تماما.. ولم يعد ثمّة من أمل في شفاء مرتقب.
إنّه لمن الصّعب أن نلج فكر هذا الفيلسوف الذي قال عنه ميشال فوكو: «سيكون القرن دولوزيّا يوما ما». ومن أوجه تلك الصّعوبة أنّ أعماله لم تكن متآلفة بالقدر الذي ألفناه لدي الفلاسفة الكلاسّيكيّين، فجاءت تلك الأعمال بالفعل على درجة من التّباين، جعلت من الصّعب الاحتفاء بمسيرة هذا الفيلسوف الذي تظلّ تأمّلاته مربكة بالنّسبة للقرّاء ودارسي الفلسفة.. خاصيّة حملت النقّاد على القول بأنّ فكره غالبا ما كان «ملغّزا»، بل أحيانا ما كان متنافرا..

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©