الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحرافيش.. تاج الرواية المحفوظية

الحرافيش.. تاج الرواية المحفوظية
13 ديسمبر 2018 03:10

(1) في الحادي عشر من ديسمبر الجاري حلت الذكرى الـ 107 لميلاد أديب نوبل؛ عميد الرواية العربية الأكبر؛ وباني مجدها نجيب محفوظ (1911-2006). ما زال أدب نجيب محفوظ يمثل لنا، وسيظل، شيئًا فريداً لا نظير له، فهناك إحساس يخامرك منذ الصفحات الأولى بأنك تقرأ لروائي «استثنائي»، لا تقل مكانته أبداً عن أساطين فن الرواية في العالم أجمع عبر تاريخها الطويل، «إنه روائي من الدرجة الأولى الممتازة في أية لغة»، هكذا وصفته مجلة «فانيتي فير» العريقة.
لماذا الانشغال بنجيب محفوظ حتى الآن؟
لأن نجيب محفوظ أول كاتب مصري وعربي في العصر الحديث، يُعبر من خلال الكتابة الروائية، وباللغة العربية، عن جوهر مصر التاريخي والاجتماعي، وعن صراعات الثقافة المصرية والعربية في العصر الحديث، عن كل إشكاليات التحضر والتمدن، والعدل الاجتماعي.
فمن يُرد أن يعرف مصر والشرق الأوسط؛ العربي الإسلامي، يجب أن يقرأ نجيب محفوظ دون خلاف؛ هذا أولاً.
وثانياً، كان نجيب محفوظ يكتب وهو مغرق في المحلية لتكون طريقه بأصالة إلى العالمية، كان يكتب النماذج الإنسانية التي يقرأها المصري والعربي فيشعر أنه يعرفها، ويعيش معها، ويلتقي بها في الطريق، وفي سائر حياته اليومية، ويقرأها غير المصري وغير العربي فيكتشف أن هناك صلاتٍ بينه وبينها في المشاعر والأفكار والهواجس والمخاوف والآلام، وبهذا الشكل هو كاتب إنساني، عالمي.
وثالثاً، أنه لم يكن يكتب بمنطق الكاتب المحلي (دون أي تناقض مع غوصه في محلية ثقافته وناسه) كان يعلم أنه لا يقدم منتجاً محلياً يتم التعامل معه في دائرة صغيرة ضيقة؛ اسمها الشرق الأوسط أو مصر أو العالم العربي. لقد كان يكتب وفي ذهنه أنه ليس أقل من «دوستويفسكي»، أو أقل من «وليم فوكنر»، لم يكن أقل من أي كاتب عالمي كبير، وكان يعتقد اعتقاداً حقيقياً بأنه لم يكن أبداً أقل من أي كاتب أميركي أو ألماني أو فرنسي أو روسي.. إلخ، كان يكتب بهذا المعنى، وتلقاه العالم بهذا المعنى أيضاً.
في هذه المناسبة، ولكل عشاق الأدب المحفوظي الشاهق، ولمحبي الرواية العربية نقدم كنزاً حقيقياً من التفاصيل والصفحات «المصورة» من أرشيف صحفي نادر؛ ونكشف عن الظهور الأول لدرّة نجيب محفوظ الروائية، وأهمّ ما كتب، بإجماع أغلب نقاد الأدب ومؤرخي الرواية؛ أقصد «ملحمة الحرافيش» التي ظلت تصدر مسلسلةً على صفحات مجلة أكتوبر المصرية لما يزيد على العام تقريباً (52 أسبوعاً)؛ حتى ظهرت بين دفتي كتاب مطبوع للمرة الأولى عام 1977.
صدر العدد الأول من مجلة (أكتوبر) في 31 من أكتوبر سنة 1976، لم تكن كأي مجلة تصدر في ذلك الوقت؛ كانت مجلة سياسية ثقافية اجتماعية بامتياز، ذات طابع خاص وجديد ومميز، ولكنه ليس مختلفاً عن الذوق العام للمجلات الكبرى في العالم؛ وفي الوقت نفسه حشد لها رئيس تحريرها أنيس منصور صفوة منتقاة من أكبر الكتاب في مصر والعالم العربي.
وكانت المفاجأة الكبرى لعشاق الأدب عامة وجمهور نجيب محفوظ خاصة، صدور العدد الأول من مجلة (أكتوبر) مزداناً بنشر أولى حلقات الرواية الجديدة لعميد الرواية العربية وشيخها الأكبر، «ملحمة الحرافيش» التي سيجمع النقاد والجمهور ومحترفو الأدب والرواية، فيما بعد، أنها تقريباً أعظم ما كَتبَ في تاريخه. نُشرت الرواية برسومِ الفنان الراحل محمد إبراهيم؛ وهي بالمناسبة من أندر الرسومات المصاحبة لروايات نجيب محفوظ حتى ذلك الحين. صدّر أنيس منصور الرواية الجديدة بهذه الأسطر:
«في كل مرة تظهر قصة لنجيب محفوظ يقول القراء والنقاد: هذه هي أروع أعماله.. ثم يكتب بعدها تحفة جديدة. ولكن نستطيع أن نقول دون مبالغة: إن هذه الرواية هي خلاصة فلسفة نجيب محفوظ في الحياة والناس في مصر».. لقد أدرك أنيس منصور أن هذه الرواية سيكون لها من بعد الأثر واتساع الأصداء ما يكاد يشبه بل يتجاوز الأثر الذي أحدثته رواية «أولاد حارتنا» لدى نشرها مسلسلة في الأهرام عام 1959..
لكن مهلًا.. لا بد من رواية القصة من البداية.
كيف وصلت «الحرافيش» إلى أنيس منصور؟ وكيف ظهرت على صفحات مجلة (أكتوبر) رغم أن نجيب محفوظ كان في ذلك الوقت واحداً من أبرز كتاب صحيفة (الأهرام)، ونشر على صفحاتها أهم رواياته وقصصه القصيرة، طوال حقبة الستينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين؟
وما هي «ملحمة الحرافيش» أصلاً؟ ولماذا عدّها النقاد وجمهور الأدب أعظم ما كتب محفوظ؟ بل إن بعض النقاد عدّها من بين أهم الروايات التي ظهرت في تاريخ الرواية العالمية كلها... هذا ما سنحاول كشفه هنا.

(2) بدأ نجيب محفوظ نشر رواياته مسلسلة وحصرياً في جريدة (الأهرام) عام 1959 (التي كانت آنذاك واحدة من أعلى الصحف توزيعاً في العالم كله)؛ حينما تلقى عرضاً من رئيس تحريرها آنذاك الأستاذ محمد حسنين هيكل؛ وكان الأجر الذي قدمه هيكل لمحفوظ نظير نشر الرواية مسلسلةً على صفحات الجريدة ألف جنيه دفعة واحدة! وهو مبلغ ضخم جداً بمقاييس هذا الزمان.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1971 لم ينشر نجيب محفوظ قصة جديدة أو رواية مسلسلة إلَّا على صفحات (الأهرام) وقبل صدورها مكتملة بين دفتي كتاب مطبوع. وبسبب التحولات السياسية التي جرت عقب رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في سبتمبر عام 1970، صادفت نجيب بعض المشكلات في (الأهرام)؛ وبدا أن ثمة عوارض تلوح في الأفق إزاء نشر أعماله الجديدة مثل «الحب تحت المطر»، و«الكرنك»، و«المرايا» التي ظهرت مسلسلة على صفحات مجلة «الإذاعة والتليفزيون» عام 1971، وكان يرأس تحريرها آنذاك الصحفي المرموق والناقد القدير رجاء النقاش.
ثم استمر محفوظ في نشر رواياته في (الأهرام) حتى عام 1975. وفي أكتوبر من العام 1976 كان محفوظ قد انتهى من كتابة «الحرافيش» ودفع بها للنشر فعلاً في جريدة (الأهرام)؛ وقدمها إلى رئيس تحرير الأهرام آنذاك علي حمدي الجمال. وفي الوقت الذي كان نجيب محفوظ يقدم فيه روايته الجديدة للنشر في (الأهرام)، كان أنيس منصور في زيارة لمكتب رئيس تحريرها ووجد الرواية على مكتبه؛ وقرأ عنوانها وتصفح بعض فصولها، وقرر فوراً وجازماً أن يحصل عليها وينشرها في مجلته الوليدة (أكتوبر)!
يحكي محفوظ الحكاية، كما رواها لرجاء النقاش في «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»؛ يقول:
«نشرت الرواية لأول مرة مسلسلة في مجلة «أكتوبر» عندما كان يرأس تحريرها أنيس منصور. وكنت قد أرسلتُ الرواية بعد كتابتها إلى علي حمدي الجمال لنشرها في «الأهرام»، ودخل أنيس منصور إلى مكتب علي حمدي الجمال فلمح الرواية على مكتبه، فصمم أن يحصل على الرواية، وينشرها في مجلة «أكتوبر» التي كان يرأس تحريرها، وهو ما حدث، وكان ذلك في عام 1976».
ويروي أنيس منصور: «عندما أخذت من نجيب محفوظ رواية «الحرافيش» لنشرها في مجلة أكتوبر قدمها بذراعيه كأنه أم تعرض طفلها على الأهل لكي يقبلوه ويتأملوه ويدعوا له بالعافية والسعادة،‏ وقال ضاحكًا‏:‏ آخر العنقود‏!‏».

(3) حتى ذلك الوقت، منتصف السبعينيات من القرن الماضي؛ كان نجيب محفوظ قد أنجز معماره الروائي الشاهق بمراحله الفنية المعجزة؛ المرحلة التاريخية الرومانسية (3 روايات)، والواقعية الاجتماعية (10 روايات)، والواقعية الرمزية التي اختتمها بميرامار (7 روايات). ثم أعقبها بمجموعاته القصصية العبثية الرائعة؛ «تحت المظلة»، و«خمارة القط الأسود»، و«حكاية بلا بداية ولا نهاية»، و«شهر العسل».
أي أن محفوظ قضى أكثر من ربع القرن في سبر أغوار الواقعية وكشف مغاليقها وخباياها، ثم جاءت المرحلة السبعينية «الخطيرة» من كتابة محفوظ كمرحلة مفصلية ودقيقة في مسيرته الروائية الطويلة. لقد كتب في هذه المرحلة مجموعة من أهم وأعظم أعماله الروائية والقصصية على السواء. استهلها بـ «المرايا» عام 1972 وهي معرض بشري غاية في الثراء وتشريح في منتهى الذكاء لنماذج وأنماط من المثقفين المصريين، في الثلث الثاني من القرن العشرين (الفترة من 1930- 1970).
وخلال الفترة من عام 1973 حتى عام 1976 نشر رواياته المهمة «الحب تحت المطر»، «حكايات حارتنا» «قلب الليل»، و«حضرة المحترم». وفيها لون من التصوف والتأملات الفلسفية والإنسانية الكبرى في الحياة والوجود والمصير.
في هذا السياق كتب نجيب محفوظ ملحمته الروائية الكبرى «الحرافيش»، وتلاها بجوهرته الإبداعية التي لا تُنسى «ليالي ألف ليلة».
يقول محفوظ في مذكراته التي أملاها على رجاء النقاش:
«كل رواياتي التي كتبتها في فترة السبعينيات تتميز بوجود خط نقدي صارم وتعرية واضحة لمرحلة الانفتاح. ولكن هناك رواية واحدة يمكننا أن نستثنيها من هذا الخط، وهي رواية «الحرافيش»، فهي مليئة بالبهجة والإشراقات الروحية والفنية، وبعيدة عن جو الحزن والمشاكل، والتفسير الوحيد لذلك هو أنني كتبتها عقب انتصار أكتوبر 1973، وكانت الأجواء في مصر وقتذاك توحي بالتفاؤل والأمل والإشراق. فانعكس ذلك على جو الرواية».

حلم العدل الإنساني
بعد نشر الرواية مسلسلةً على صفحات مجلة (أكتوبر) عام 76، ظهرت كاملة مطبوعة بين دفتي كتاب عام 1977. وبدا للجميع من قراء ونقاد، وأدباء ومثقفين ومفكرين، أن نجيب محفوظ يقدم لهم شيئًا لم يعهدوه من قبل، للدرجة التي دفعت الأديب والناقد علاء الديب أن يقول:
«لأول مرة أشعر أنني أمام بناء فرعوني خالص في الأدب، بناء يستحضر عظمة المعابد، ونقوش الجدران، ويستحضر كذلك روح العدل والتوازن، بل والتحدي المباشر لفكرة الزمن وجوهره. إنها أكمل وأنضج ما قدم فكر نجيب محفوظ وفنه».
نعم. هي كذلك بالفعل، درة روائية غير مسبوقة في الأدب العربي كله، كما أنها من أكبر أعمال محفوظ وأطولها من حيث الامتداد الفكري والزماني ومن أكثرها ازدحاماً بالشخوص والأبطال والوقائع والمعارك والصراعات..
في (قاموس الأدب العربي الحديث)، وفي مادة «ملحمة الحرافيش»، يقدم الناقد والأكاديمي المرموق د. محمد بدوي تعريفاً نقديّاً مركزاً للرواية الأهم بين إبداعات محفوظ؛ يقول:
«إحدى روايات نجيب محفوظ كبيرة الحجم، ذات الطابع الملحمي. كان محفوظ قد حاول كتابة تاريخ العالم بالاعتماد على الموروث الديني السامي، فكتب روايته «أولاد حارتنا» ذات الطابع الأليجوري «الرمزي الكنائي»، وهو في الحرافيش، يكتب رواية أسرة مقدسة من خلال تتبع سلالة «الناجي» المؤسس، أو الأب الأول.
وقد حدّد النص المكان بأنه «الحارة» تلك البقعة من الأرض التي تشير واقعياً إلى حي «الحسين» في القاهرة الفاطمية، لكن الشخصيات والأحداث تجعلها رمزياً بيتاً للعالم. أما الزمان، فيكاد أن يكون قبيل العصر الحديث. ومن ثم يبدو كأنه سرمديّ لا يتغير، بل يوحي بالعلو على التاريخ، برغم تاريخيته.
والحرافيش نص شاسع، متعدد الشخوص أو هو على وجه الدقة مجموعة من سير الأبطال المتتابعة المصوغة بقدر عال من التكثيف، واستبعاد ما ليس دالاً، وضغط الأزمنة، ومن ثم يلحظ القارئ أنه أمام شكل روائي ينطوي على قدر كبير من الجدة والابتكار، والجدة أساسها إنتاج شكل ملائم للنهاية التي يعرفها القارئ منذ البداية، وبرغم ذلك فهو لا يحسها ثقيلة الوطأة. إن الغاية في الحرافيش لا تتصدر المشهد، بفضل طرائق معقدة تحبط توقع القارئ.
وسير الشخصيات لا تعدو أن تكون تركيباً متشابكاً من حيوات أخرى، متحدرة من نصوص تنتمي إلى ثقافات عدة، ولذلك تتميز الحرافيش عن «أولاد حارتنا» بتعدديتها البنيوية والدلالية.
ويرى كثيرون أن الحرافيش بحركتها بين السرد والمجاز، وسعيها للتكثيف اللغوي، وانفتاحها على نصوص كثيرة من ثقافات عدة، قد حققت مكانة خاصة في الأدب العربي الحديث..».
إذن، فملحمة الحرافيش تقوم سردياً على عشر حكايات متصلة، يروي خلالها محفوظ سيرة أسرة أسطورية يتتبع فيها سلالة «عاشور الناجي» الجد المؤسس، أو الأب الأول وصولاً إلى «عاشور» الحفيد العاشر في السلالة.
و«بين العاشورين» تتخلقُ ملحمةٌ إنسانية فريدة، ويُسطر نص شاسع، متعدد الشخوص، يستعرض سير أبطال، فتوات نبلاء وأوباش، صاغها محفوظ بلغة شعرية شديدة الصفاء والتكثيف. إن قيم العدل والحرية، والبحث في أسرار الوجود والخلق والمصير، والسعي الدائب بلا بداية أو نهاية وراء «الحقيقة» وتشوّف الإنسانُ لعالمٍ تتحققُ فيه العدالةُ الاجتماعية وتسودُه المحبُّة والسلام، لتتجلى كأبدع ما يكون في هذه الملحمة الروائية الخالدة. «الحرافيش» من أكبر أعمال نجيب محفوظ وأطولها من حيث الامتداد الفكري والزماني (هي أكبر أعماله بعد الثلاثية فعلاً)، وليس مصادفة أن يأتي هذا العمل الروائي الضخم بعد ما يقرب من عشرين عاماً من عمل آخر لا يقل عنه اتساعاً وامتداداً وانبساطاً، وهو «أولاد حارتنا» التي حملت في أحشائها بذور (الحرافيش)؛ فأولاد حارتنا تمثل الجذور الضاربة بعمقها وامتدادها في التربة المحفوظية الخصبة، ثم أثمرت بعد ذلك الأغصان المورقة الوارفة في (الحرافيش).. ولعلني لا أبالغ إذا قلتُ إنّ خلاصة المشروع الروائي لنجيب محفوظ قد تمثل أبلغ ما يكون التمثيل في «أولاد حارتنا»، و«الحرافيش» والتنويعات القصصية والروائية البديعة التي انبثقت من رحم هاتين الروايتين: (قصة «زعبلاوي» في مجموعة «دنيا الله»، ورواية «الطريق»، ورواية «حكايات حارتنا»، وقصة «الرجل الثاني» في «الشيطان يعظ»، ورواية «ليالي ألف ليلة»...).

(4) سنحاول أن نلمّ - مجرد إلمام - بالإطار العام والملامح الكلية لهذا العمل الفخم، الضخم؛ سنحاول أن نتلمسَ وصفاً لا تحليلاً، وعرضاً لا استعراضاً، وإشارة لا تفصيلاً، لهذه العمارة السردية الشاهقة؛ زماناً ومكاناً وبناء وشخوصاً وتلخيصاً نرجو ألا يكون مخلًا.
زمنياً، على مدى قرنين كاملين تقريباً، تدور أحداث عشر حكايات، متصلة، تتتابع فيها سيرة العائلة التي أسسها «عاشور الناجي»، يقدم نجيب محفوظ (ملحمة/ سيرة/ منظومة سردية) رائعة يظهر فيها تعاقب الأجيال.
بنائياً، تتألف الرواية الضخمة (تقع في 600 صفحة من القطع المتوسط، طبعة دار الشروق الثامنة 2017) من عشر حكايات طويلة؛ كل حكاية منها مقسمة إلى وحدات فرعية مرقمة، تمثل الهيكل الأساسي للرواية، وكل حكاية تتوزع بين الطول والقصر، وتبلغ الحكاية في المتوسط خمسين فصلاً، قد يتكون أحدها من جملة واحدة مثل قوله «لو أن شيئاً يمكن أن يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول» أو يستغرق صفحات عدة.
وتبدأ كل حكاية منها باسم صاحبها أو بطلها، فالحكاية الأولى تبدأ كالتالي: (عاشور الناجي، الحكاية الأولى)، ثم (شمس الدين الناجي، الحكاية الثانية).. وهكذا، ثم تتوالى الحكايات بالترتيب الآتي:
[الحكاية الأولى/ عاشور الناجي - الحكاية الثانية/ شمس الدين الناجي - الحكاية الثالثة/ الحب والقضبان (سليمان الناجي) - الحكاية الرابعة/ المطارد (سماحة الناجي) - الحكاية الخامسة/ قرة الناجي - الحكاية السادسة/ شهد الملكة (زهيرة الناجي) - الحكاية السابعة/ جلال صاحب الجلالة - الحكاية الثامنة/ (الأشباح) - الحكاية التاسعة/ (سارق النعمة)- الحكاية العاشرة/ التوت والنبوت (عاشور الناجي)].
ونلاحظ أن الحكاية الأولى بطلها «عاشور الناجي»؛ الأب والجد المؤسس، والحكاية الأخيرة بطلها «عاشور الناجي» الحفيد أيضاً الذي انتهى إليه سلسال أسرة الناجي، أطلق محفوظ على الحكاية اسم بطلها الذي من نسله يأتي أبطال الملحمة يتتابعون في حلقات متصلة تشهد صعوداً وهبوطاً، وهذا يتفق والتقليد السائد والمتعارف عليه في السيرة الشعبية، بأن تُسمى السيرة باسم بطلها صاحب السيرة.
مكانياً؛ تقيم الحرافيش «الحارة» نموذجاً مصغراً للكون كله، وتجعل منها الصورة المصغرة للعالم الأكبر، وترى فيها الماضي السحيق والحاضر القريب والمستقبل المرجو. ويصف لنا نجيب محفوظ في ملحمته الرائعة سعي النفس البشرية الدائم إلى الخص وتمردها على نفسها التي ارتضت بالواقع المرير، فتحثها دائماً إلى الخروج من نفق النفس المظلم، ولكنها تصطدم دائماً بحب الدنيا وإغواءاتها المحدودة، وهنا يكون مفترق الطرق الذي تختار فيه النفس إما السير على خطى الصالحين اوائل أو الحياد عن الطريق الذي سلكوه وإيثار شهوات النفس الداخلية.
كما يصف لنا ببراعة الخنوع والذل الذي يصيب النفس من جراء يأسها من خصها، وجهلها بأن الخص الحقيقي هو النابع من داخلها  المسلط عليها من الخارج، فهو خص زائف سرعان ما يتبخر ويذهب ريحه وتبقى النفس في ظلماتها تبكي على ماض قد تولى وذكريات لن تعود.
وهكذا، صارت الرواية أيقونة إبداعية تعرض لفلسفة الحكم، وتعاقب الحكام، ودور الشعوب. ولم تبتعد رواية الحرافيش كثيراً عن المنحى الوجودي الذي انتحاه نجيب محفوظ في الكثير من رواياته رغم اكتسائها الطابع الواقعي الاجتماعي (شخصية «جلال الناجي» تنشد الخلود بعد قهر الموت المفاجئ لها، وسلوكيات أخرى في نفس الاتجاه).
تتشعب أحداث وشخصيات الحرافيش في ذهن القارئ كما في قلم الكاتب لتعرض وتناقش أفكاراً عديدة، وتصب في فكرة تواتر الأجيال وضياع الأصول (والبحث عنها في الآن ذاته) من جيل إلى آخر، مع الاعتراف بالأثر الذي يؤمن به المصريون لعوامل الوراثة والجينات «العرق يمد لسابع جد»، وفي المثل «العرق دساس»!
يحضر الدين أيضاً في «الحرافيش» كالروح التي لا يستطيع الإنسان إخراجها من بدنه رغم محاولات تمرده عليها والانفكاك منها؛ لكنه يكتشف دائماً نزوعه الحي للبحث عن الله والالتجاء إليه والتسليم بمحبته..
إنها رواية تحتوي كل الحياة، وتكتسي كل الطوابع، وتسرد جلّ القيم بسخاء. وتترصع الرواية بأبيات من الشعر الفارسي التي استخدمها محفوظ كرمز للمجهول الذي تهيم به أرواح البشر، وتتوالى الحكايات كمعزوفة رائعة تختلط بها القوة والضعف، الخير والشر، الأمل واليأس.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©