الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود درويش.. توهج الشعر من الميلاد إلى الموت

محمود درويش.. توهج الشعر من الميلاد إلى الموت
17 نوفمبر 2010 19:34
بدأ محمود درويش شاعراً غنائياً حسياً يقتفي أثر أستاذه نزار قباني، لكنه كان يضمر إعجاباً بعروبة المتنبي ومع قدرته على استيعاب تيارات الشعر العربي والغربي بأكملها، لم يلبث أن بدأ يتململ في إهاب الأسلوب الحسي ويطمح إلى كتابة قصيدة ملحمية عظمى، كما كان السياب يتمنى. ذلك جانب من رأي الناقد د. صلاح فضل، في كتابه “محمود درويش حالة شعرية” ونعرف منه أن الناقد الكبير اكتشف الشاعر الفلسطيني الفذ في إسبانيا، كان فضل في مدريد مبعوثاً لإعداد رسالة الدكتوراه، وكان هناك مستعرب إسباني متحمساً للقضايا العربية هو “بدرو مارتينيث مونتابيث” وكان بدرو مشغولاً بترجمة نصوص مختارة لمجموعة من الشعراء الشبان العرب، شعراء المقاومة، يقول فضل: “راجعت معه ترجمة قصيدة محمود درويش (بطاقة هوية) إلى الإسبانية، أخذت بشعريتها الطازجة وهي تنطلق لتعلن مولد إنسان عربي يتمرد على الهزيمة ويعلن انتصاره الروحي”. وهكذا أخذ يتابع هذا الشاعر الذي أصبح بالنسبة له مشهداً نقدياً مثيراً للتأمل، حيث يرى عشرات الآلاف من مواطنين عرب ينتمون إلى مختلف الأجيال يتزاحمون لسماع درويش وهو يلقي قصائده مع أنهم لا يطيقون “قراءة قصيدة حداثية واحدة” وحقق درويش المعادلة المستحيلة بنظر الناقد، وهي الجمع بين الشعر الحقيقي وسحر التلقي وكاريزما الإلقاء، ثم أنه لم يكن يخضع “لابتزاز الجمهور”، حيث رفض أن يعيد عليهم بطاقة هويته الأولى قائلاً لهم: ارحمونا من هذا الحب القاسي. فقد كان يريد التخلص من جاذبية القضية الفلسطينية إلى رحاب الشعر الإنساني الأوسع. ولد محمود درويش في قرية “البروة” التابعة لقضاء مدينة عكا في الجليل الغربي بفلسطين لأسرة فلسطينية ريفية بسيطة، الوالد مزارع وسبعة إخوة من إناث وذكور، ثم تدهمهم حرب 1948 فينزحون إلى القرى اللبنانية، لكن هناك يكتشف رب الأسرة، وهو الفلاح، معنى الاقتلاع من الأرض ومن الدار، ويدرك ضرورة العودة والتشبث بالأرض، فيعودون متسللين ثانية إلى بلدهم، حيث تجد الأسرة أن القرية محيت من الأرض وأحاطت بها أسلاك شائكة ومسميات بكلمات عبرية. حكى محمود لناقده ومؤرخه الأول رجاء النقاش قصة هذه العودة ومشاعره لحظتها التي لم تفارقه أبداً على الرغم من أنه كان طفلاً، ويعيش بلا هوية يتلقى تعليماً باللغتين العربية والعبرية، ويحصل على الثانوية العامة. ثم يرحل إلى مدينة حيفا عام 1960، حيث ينضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وكان الحزب الوحيد الذي يعترف بحقوق الفلسطينيين في المواطنة ويكتب في جريدة “الاتحاد” لسان الحزب ويتعرض للإقامة الجبرية والاعتقال والملاحقة، وفي عام 1970 يذهب إلى موسكو للدراسة، ومنها ينتقل إلى القاهرة نهاية العام نفسه، ويعمل محرراً ثقافياً بمجلة “المصور” مع رجاء النقاش، وأحمد بهاء الدين، ثم يلتقطه محمد حسنين هيكل ليعمل بالأهرام ويزامل كتابه، مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وبنت الشاطئ وتتفجر مواهبه، وكان سعيداً، لأنه في القاهرة يسير في مدينة شوارعها عربية وأهلها عرب يتكلمون العربية ويحاور الشعراء الذين تابعهم من قبل. صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالرحمن الأبنودي وغيرهم ثم غادر القاهرة إلى بيروت ومنها إلى باريس على النحو المعروف بعد ذلك. والحق أن رجاء النقاش لعب دوراً مهماً في حياة محمود درويش في تلك المرحلة، فقدمه بحماس للقراء وأعدّ عنه كتاباً مهماً، دافع فيه بحرارة عن درويش الذي كان قد تعرض لهجوم من بعض المتشنجين بسبب عضويته في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. برز محمود درويش إلى العالم العربي شاعراً، حين قدم قصيدته “بطاقة هوية”: سجل/ أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون ألفاً/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعهم سيأتي بعد حين/ فهل تغضب؟. كان الموقف هنا يجمع بين العام والخاص. الإنساني والقومي، وكانت جمالية التعبير مبتكرة نسبياً، تتجاوز ما حاول الرواد والأوائل توظيفه. وتتميز القصيدة ببنيتها المحكمة البالغة التحديد في تنظيمها المقطعي، إذ تتألف من خمس حركات تعتمد لازمة افتتاحية موحدة تمثل ثقل المركز الدلالي في النص “سجل/أنا عربي” ومع وضوح الدلالة وكثرة التفاصيل لا يقع في خطابية مبتذلة أو مباشرة الفجة، ذلك أن كلمة “سجّل” هي فعل أمر، أي أنه يقول للمتسلط المحتل آمراً “سجل /أنا عربي”. إنه الاعتزاز بالذات وقوة الموقف. ويذهب د.فضل إلى أن درويش في هذه الحالة كان متأثراً بنزار قباني في “لمس الواقع الحسي بكلمات يسهل تأطيرها خارجياً”. كان درويش قادراً على التطور والتجدد، بمعنى أنه لم يقف عند مرحلة البداية ولم يستسلم لغواية النجاح الأولى، وقد قال درويش مرة عن نفسه وبحق “إنني أقوم بتنمية طاقتي الإبداعية المستقلة عن أسباب شهرتي، وعدم الوقوع في أسر الخطوة الأولى التي قدمتني للناس والتمرد على أشكالي القديمة بمحاولة التجديد المستمر للذات وبتغيير وجودي المتآكل وبتعميق جوهره الباقي، والخروج من شكل إلى آخر ليس قفزة تقطع الصلة بين “الآن” و”قبل قليل” إنها عملية هدم وترميم تحافظ على قاعدة الهوية الفنية عند أي شاعر”. ويقول أيضاً: “لا أرى أنني أقفز، أنني أنمو ببطء، ولم اكتمل حتى الآن بشكلي الفني، ولا يبدو أنني قادر على الوصول إلى حالة أبلور فيها شكلي نهائياً”. وهذا القول يدفع صلاح فضل إلى القول إن درويش هو “شاعر تحولات تعبيرية كبرى” وهذا ما يبدو في ديوانه الصادر عام 1970 “حبيبتي تنهض من نومها”. كانت كارثة 1967 قد وقعت وتفجر كل شيء في الداخل والخارج، في الحلم وفي القصيدة والمفارقة الأساسية هنا أن القصيدة عنده فقدت نضاليتها المباشرة وانتقلت من الخيال الفلسطيني عبر دروب جديدة لتطل على الجانب الآخر أو تمارس “الحضور في العدو” بعد أن التهم العدو كل الأرض وأخذ يعمل على تهويدها، حيث استبدل أسماء القرى العربية بأسماء عبرية ويهودية، وكان على الشاعر أن يؤكد تلك الحالة ويخاطب العدو مباشرة. كان درويش يحلم بأن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة، ولكن تجربة الشعب الفلسطيني فرضت على نبراته إيقاعاً مأساوياً لم يفسح له مجال القول في البطولات التاريخية المنتصرة، فبقي درويش في المنطقة الرمادية التي لا تخمد جذوتها وقدم تركيبة جديدة للقصيدة المطورة، وديوانه “حالة حصار” نموذج ملتهب لهذه القصيدة التي لا تتعدد فيها الأصوات ولا الشخوص، بل تتراكب اللفتات والمواقف، وتنمو الحوارات المتخيلة المتماسكة، لتصنع كلها رؤية شاملة لحالات الشعر والحصار والحب والحرية. وفي إحدى حركات القصيدة يتوجه إلى العدو باسمه قائلاً: إلى قاتل، لو تأملت وجه الضحية وفكرت. كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز. كنت تحررت من كلمة البندقية وغيرت رأيك. ما هكذا تستعاد الهوية، ورغم اتجاه درويش إلى مرحلة من التجريد الإدونيسية في وقت من الأوقات، فقد حافظت الرموز والشفرات الفلسطينية في قصيدته على تماسكها وارتباط الناس بها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©