الأربعاء 1 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التحوّلات الكبرى في الرواية الحديثة

التحوّلات الكبرى في الرواية الحديثة
26 ديسمبر 2019 00:05

للرواية، كما للشعر والأنواع الأدبية الأخرى، قوانينها الخاصة، وهذه القوانين تخضع للتطور في حدود معيّنة، لا تختلف عن الخط العام الذي تتخذه الرواية، فهي- على سبيل المثال- تخضع للزمان، ولكن هذا الزمان نفسه يخضع لرغبة الروائي، فيلعب به، ويسخره، وأحياناً يخلط الماضي بالحاضر، وزمن الحلم بزمن الوقائع.. وهذا عبارة عن منمنمات تقع على هامش الخط الكبير الذي تسير فيه الرواية، والتلاعب في الزمن يحدث أيضاً لبقية أركان الرواية، فيجد الروائي حرية كاملة في هندستها وفق الهدف الذي ترمي إليه الرواية، فهو يبدع الشخوص والبيئة والجوّ العام والعلاقات بحسب ما يرتضيه لروايته، ليضع كل ذلك في تطوير الأحداث نحو الهدف العام الذي ترمي إليه الرواية، لكن كل هذه المنمنمات الروائية، التي يتمتع فيها الروائي بحرية كبيرة في الصناعة والإبداع، تظل من خصوصية الكاتب ولا تحسب من جملة التحوّلات الكبرى للرواية.

ولكن ماذا نقصد بالتحوّلات الكبرى؟
نقصد المشهد العام، إنها الميادين الجديدة التي ترتادها الرواية، فلو قلنا الرواية النفسية لعرفنا أن منظورها العام هو النفس البشرية، ولو قلنا الرواية الاجتماعية لكان غرضها اللعب في مجال العلاقات الاجتماعية الكبرى... وهكذا، ولكن كل ذلك لا يعتبر تحوّلاً كبيراً في الرواية، وإنما التحوّل الكبير الذي نقصده هو الانتقال من ميدان مألوف وشائع (الأسرة) إلى ميدان جديد كل الجدة (ألغاز الإنسان والقوى الخفية)، من غير أن يعني ذلك أي خرق للقوانين الخاصة بالرواية.

تحوّلات في الرواية القديمة
أبرز التحوّلات في الرواية القديمة جرت في العصور الوسطى، بعد ظهور المدن الجديدة، وأوّل مدينة جديدة ظهرت في القديم كانت «الإسكندرية» التي شيّدها الإسكندر الكبير، ثم أخذت المدن تظهر في العصور الوسطى، بعد أن شاعت الحرف وظهرت الأسواق الكبرى، انتبه الروائيون، وبعضهم مجهول الاسم، أمثال كاتب رواية «أوكسان ونيكوليت»، إلى المدن الجديدة ووجدوا فيها ميداناً فسيحاً للاستخدام الفني، وقد سميت هذه الرواية باسم «الرواية السكندرية» أو «رواية الإسكندر».
تعالج الرواية موضوع الحب والعشق، وتسير بحسب خط معيّن لا تكاد تحيد عنه: تعارف ولقاء، يعقبه افتراق وعناء، إلى أن يلتقي العاشقان مرة أخرى، وبذلك تنتهي الرواية، وبين اللقاء الأول واللقاء الثاني هناك فسحة كبيرة جداً، يجعل فيها الروائي بطله العاشق يبحث عن عشيقته، فيطوف المدينة بعد المدينة، وفي كل دخول إلى مدينة نجد وصفاً أخّاذاً لها، وكلما طاف البطل مدينة ولم يجد فيها عشيقته، أصابه الهم والغم، وانتقل إلى مدينة أخرى ليصاب بهم وغم كبيرين من جديد، إلى أن يعثرَ عليها في إحدى المدن، فتكون الفرحة الكبرى، وتنكشف الأسرار، فإذا العشيقة من أصل نبيل جداً، وإذا الباحث عنها من أصل نبيل أيضاً، وقد اختار الأدباء «النبيل الجميل المغامر» ليوكلوا إليه مهمة البحث عن العشيقة، فلا نجد عاثراً في أي رواية من روايات الإسكندر، كان منطقهم أن حبّ العاشق الفقير يكون فقيراً مثله، فإذا فاتته عشيقة بحث عن غيرها، فليس بين يديه ما يؤهّله لتلك الرحلة الشاقة، التي تذكرنا بالسندباد وبعودة أوليس من طروادة إلى وطنه ليرى بنيلوبي زوجته، وابنه تليماخوس، والمحطات التي توقفت «الأوديسة» عندها ووصفتها، أو الأماكن التي زارها السندباد، استبدلت بالمدن الجديدة، ومعالمها التي لم يسبق أن ظهرت قبل هذا العصر.
مثل هذا الطواف كان موجوداً حتى في «الإلياذة»، حيث يكتسح أخيل كل القرى التي كانت تحيط بطروادة، قبل الهجوم المباشر عليها، وكان هذا سبباً في النزاع بينه وبين قائد الجيوش أغاممنون حول إحدى الأسيرات، بيد أن الوصف كان مقتضباً، فهومر قصد الحدث، واعتمد عليه، وليس بوصف القرى المحيطة بطروادة.
إن التحوّل في القصة السكندرية قدّم أشياء مدهشة عن المدن الجديدة، فلقيت هذه الروايات رواجاً كبيراً، وصار الرواة يروونها على جمهورهم في أماسي الشتاء، فتأخذهم الدهشة لهذا العالم الجديد الذي لم تقع أبصارهم على أمثاله.

رواية القرن التاسع عشر
معظم الروايات السابقة على الرواية الحديثة تنطلق من الأسرة: الحب والعشق والزواج والعداء والتفرق أو التشرد أو الانحراف أو تجارة الجسد أو الخيانة الزوجية... ثم الاجتماع أو الطلاق أو تحدث مأساة للبطل أو البطلة، والنظرة العامة للأدباء تقوم على إدانة مؤسسة الزواج، كأنهم يذهبون إلى أن الأسرة منبع الدمار للمجتمع، وهذا ما يجعل العلاقة بين أسرة وأسرة تخضع لكثير من الاضطراب إلى درجة العداء والتشاحن أو الاقتتال، وتعتبر رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير مثالاً نموذجياً لهذا النوع من الرواية، وكثير من الأدباء فتحت لهم هذه الرواية نافذة انتقاد مؤسسة الزواج القائمة في وضعها الحالي، فـ «أنا كارنينا» تكاد تكون «مدام بوفاري» أخرى، واستلهم تولستوي تجربته الزوجية، فكتب عدة روايات في هذا المنحى مثل«موت أيفان إيليتش» و«لحن لكرويتزر»... إن كل ما ينتج عن الزواج عولج في رواية القرن التاسع عشر تقريباً، وحتى الحب الفاشل بين عاشق وعاشقة يعتبر نوعاً من الرواية الأسرية، لأن سبب الفشل في معظم الأحيان يعود إلى أسرتي العاشقين، وقد تفنن الروائيون في موضوعات الأسرة، أو الظروف المختلفة التي تعاني منها الأسرة، فهناك أسرة فقيرة تغتني وهناك أسرة غنية تفتقر، وهناك أسرة تعاني من القمع الطائفي فترحل، وهناك أسرة هربت من الاضطهاد الديني أو المذهبي، مما أطلق عليه «الرواية النهر» أي معالجة تاريخ أسرة لعدة أجيال، وقد عالج نجيب محفوظ هذه الناحية في ثلاثيته، إن كل روايات العشق والحب الفاشل تعتبر من هذا النوع أمثال «آلام فرتر» لغوته و«رفائيل» لألفونس لامرتين، ومرّت فترة على المسرح الفرنسي كادت تقتصر على الثلاثي الفرنسي المشهور: الزوج والزوجة والعشيق (أو العشيقة)، وقد استوحى كتاب المسرح هذا الثالوث من الروايات التي تعالج مشكلات الأسرة. وليس من الضروري أن يكون هذا النوع من الرواية أو المسرحية ينتهي بمأساة أو ملهاة، بل اكتفى النقاد بإطلاق اسم «الدراما» على هذا النوع من الأدب، وحتى الحديث عن رجال الدين كان يجري ضمن مؤسسة الزواج والأسرة، وما الآثار الروائية التي تركها أونوريه دي بلزاك سوى عرض للملهاة الإنسانية المضحكة، بالطبع لا تتحطم الأسرة وتنهار من تلقاء نفسها، بل بفعل العلاقات الاجتماعية الجديدة، وظهور طبقات لم تكن موجودة من قبل.
وحتى «الأب غوريو» لا يخرج في جنازته سوى كاهن وصديق وكلب، بينما بناته الثلاث، اللواتي أفنى عمره ليقيهن ذل السؤال، يعتذرن عن حضور الجنازة، بذرائع لا تستساغ، ولو أن هناك أخصاماً يدمّر بعضهم بعضاً، لما تفرقوا كما تفرقت أسرة كرامازوف، بحكم علائقها العائلية التي رصدها دستويفسكي بدقة ورهافة... إلخ، ففي العائلة التي تجمعها القرابة وتفرقها الثروة تنشأ عوامل الدمار.

الرواية الحديثة
جرى تحديد فترة الحداثة، على الرغم من اعتراض المعترضين، بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وفي هذه الفترة بدأ التحوّل الكبير في الرواية يظهر هنا وهناك، وهذا التحوّل هو الانتقال من السرد العنقودي المتضافر إلى الألغاز والأسرار والمغامرات، ففي ملحمة الإلياذة يعرف القارئ كل الموضوع من الكلمات الأولى لهومر، فهو يخبر القارئ أنه بصدد سرد «غضب أخيل»، وما أعقبه من تأثير في الحرب الطروادية، وفي ملحمة الأوديسة يفعل الشيء ذاته، فيقول إنه سيخبر القارئ بما لاقاه أوديسيوس من مخاطر، وما قام به من مغامرات، عقب سقوط طروادة.
بدأت الرواية في فترة الحداثة تنزاح عن هذا الإعلان، وتؤجل التصريح بسرّ الموضوع حتى النهاية، على اعتبار ذلك ضرباً من التشويق الضروري لشدّ انتباه القارئ، ومن أبرز الروائيين في هذا المجال أرثر كونان دويل، مخترع شخصية المحقق شرلوك هولمز. وينافسه في ذلك جاك فوتريل، الشاب الذي قضى غرقاً على ظهر سفينة التيتانيك: لغز العقد المفقود- لغز الراديوم المفقود- لغز الشفرة القاتلة- لغز الشبح المشتغل... وكذلك صاحب العدد الضخم من روايات الأسرار إدوارد بيدج ميتشل: العودة من العالم الآخر- جنازة الشيطان- قصة الطوفان- تبادل الأرواح- رجل بلا جسد- الساعة التي دارت إلى الوراء... وتابعت هذا النوع من الرواية الكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي، التي زارت كثيراً من بلدان الشرق، بلدان الأسرار والألغاز والمغامرات، وتعتبر تلميذة لروائي سبقها إلى شخصية المحقق المدقق الذي يكشف جميع الأسرار، هو روبرت بار صاحب: لغز الثروة المفقودة- لغز الماسات الخمسمائة- لغز رامي القنبلة.

الرواية المعاصرة
ما سردناه سابقاً يكفي حتى نستنتج أن الروايات المعاصرة ليست سوى متابعة لهذا الاتجاه، إن الأسرة وما تقدمه من موضوعات دسمة للروائي قد تلاشت أو مُحت أو تضاءل تأثيرها، بعد ما أصاب الأسرة من تفكك نتيجة نموّ الروح الفردية بل تضخمها، بات الفرد بنزوعه المتشعب محوراً أساسياً، وقد استغل الكتاب حبّ الاستطلاع لدى الفرد فاقتادوه إلى «رواية الأسرار» إن صح التعبير، خذ أي رواية لكاتب معاصر مشهور، أمثال دان براون، وستجد أن العنوان وحده يدلك عن الاتجاه الذي ستتخذه الرواية: شيفرة دافنشي- الحصن الرقمي- ملائكة وشياطين، أو أمثال روايات باولو كويلو، وما رواية «العطر القاتل» لزوسكيند سوى تعميق هذا الاتجاه، للكشف عن القدرات الإنسانية الهائلة الكامنة في الأعماق، وربما لاحظنا في شخصية البطل ما يذكرنا بالرواية القوطية التي كتبتها ماري شيلي «فرنكشتاين»، وحذرت فيها من الإيغال في تقوية الفرد المنفلت، مما يهدد المجتمعات الإنسانية.
وحتى لو نظرنا بعمق في «الواقعية السحرية»، التي انتهجتها أميركا اللاتينية لوجدنا أنها حققت شهرتها من اعتمادها الألغاز والأسرار والقوى الخفية، بأسلوب استمدّ الكثير من الموروث الشعبي للسكان الأصليين، وبالأخص بعد أن اختلطت ديانة الفودو الإفريقية بالديانة الكاثوليكية،
كما أن بذور هذا التحوّل موجودة في أقدم الروايات، كذلك ظلت معالم الرومانسية والواقعية والطبيعية والسيريالية والوجودية العبثية تظهر في الرواية الحديثة، لكن الواقعية النقدية التي ارتقت على يد بلزاك وديكنز وأناتول فرانس باتت قليلة الظهور في الرواية الحديثة، ونعتقد أن ذلك يعزى- على الأرجح- إلى عدم الاهتمام بالعلاقات العائلية، التي تعكس قضايا المجتمع وتناقضاته وصراعاته، فقد زال الاهتمام بالأسرة التي كانت مصدراً للروائيين.
لا حاجة إلى القول: إن التكنولوجيا الحديثة خلقت لنفسها أدبها الخاص في المغامرات الكونية الفضائية التي احتلت حيّزاً كبيراً، وبخاصة في السينما.
باختصار: البارع في صوغ الأسرار والسحر والألغاز هو من يحرز الشهرة الروائية.

«ألن بو» وروايات البولب
البولب pulp كلمة تعني من جملة ما تعني «الورق الهش» أو الورق الرخيص، كما يعرفه عامة الأمريكيين، وبعد أن شاعت طريقة إدغار ألن بو في السرد الروائي، الذي يدخل القارئ في متاهة الرعب والأحلام والعبثية في بعض الأحيان... وخاصة في روايته «انهيار بيت أشر»، وكذلك «جرائم في شارع مورغ»، إلى جانب القصص القصيرة الممتلئة بالرعب، إلى جانب الاحتفاظ بالسر حتى نهاية الرواية... ظهرت في الأسواق ما يسمى الروايات الرخيصة أو روايات البولب، ويباع الكتاب الواحد بعشرة سنتات أمريكية، ومن هذه الروايات روايات طرزان وروايات الأدغال وروايات الكاوبوي أو رعاة البقر، إلى جانب أنواع كثيرة كلها تقوم على الأسرار والمغامرات والجاسوسية والغراميات التي تواجه الكثير من الأخطار، والجرائم التي يصعب كشفها إلا عن طريق المصادفات، والشخوص أصحاب الشذوذ النفسي، فتبدو تصرفاتهم أشبه بألغاز لا تدرك ولا تكشف، والنسوة عاشقات الثروة، حيث يدفعن ثمناً باهظاً للحصول عليها، وشخصيات المغامرين الذين يذهبون إلى كاليفورنيا للحصول على الذهب، فيتعرضون لكثير من المواجهات القاسية والأسرار الغامضة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©