الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مدخل إلى عِلم محمود فهمي حجازي

مدخل إلى عِلم محمود فهمي حجازي
26 ديسمبر 2019 00:06

عن 79 عاماً، ورحلة عطاء ومعرفة وإنجازات كبرى، غاب عن عالمنا الأستاذ الجليل والعالم اللغوي والمترجم القدير الدكتور محمود فهمي حجازي، الذي وافته المنية فجر يوم الأربعاء 11 ديسمبر الجاري، وصاحب المنجزات العلمية الكبرى والمشروعات المعرفية العظيمة، تَشرفتُ بالتلمذة على يد الأستاذ الجليل، أحد أساطين اللغة العربية وعلم اللغة الحديث في الجامعات المصرية والعربية والعالمية، كان يُدرس لنا (مدخل إلى علم اللغة)، وأتذكر أنني كنتُ مبهوراً وأنا أستمع إلى محاضراته العميقة البسيطة في آن، كأنّ ذهني يتلقى موجات نورانية كاشفة تزيح بهدوء رواسب «العكّ»، و«اللا معرفة»، و«التجزيء»، و«التشتيت» التي تجرعناها في المدارس عن اللغة وقواعدها!
كانت المرة الأولى، التي أدرس فيها أفكاراً منظمة وواضحة عن اللغة، وأدرك معنى وقيمة المنهج العلمي والرؤية الكلية، وضرورة فهم الظواهر أو أي موضوع يخضع للدرس، وفق طريقة مخصوصة في البحث، وسياق منظم للدراسة، وترتيب واضح في تناول المسائل أو الموضوعات المدروسة.. إلخ.
كان هذا وغيره أثراً ونتيجة الاستماع لمحاضرات الدكتور حجازي مباشرةً، ثم قراءة كتبه التأسيسية المرجعية التي لم يُسبق إليها في التأليف العربي المعاصر: «اللغة العربية عبر القرون»، «مدخل إلى علم اللغة»، «البحث اللغوي»، «علم اللغة بين التراث والمناهج والحديثة»، «علم اللغة العربية»، «الأسس اللغوية لعلم المصطلح».. وغيرها مما لا غنى عنه، ولا أتصور أنّ مثقفاً جاداً يلزم نفسه بمعرفة عميقة وحقيقية بالأدب العربي، واللغة العربية، قديماً وحديثاً، ويكاد لا يعرف شيئاً من كتب الدكتور حجازي، أو اطلع على بعضها على الأقل.
الدكتور حجازي أنموذج فذ وعبقري لمن استوعب الدرس اللغوي المعاصر في أعمق وأحدث اتجاهاته وأسسه ونظرياته، في الوقت الذي كان مُستوعباً بعمق أبهى وأزهى ما في تراثنا العربي، الفكري واللغوي، من نظراتٍ وآراء وبحوث حول اللغة ودرسها، وأظن أنه كان واحداً ممن أعادوا الاعتبار لكتيبة اللغويين وفقهاء اللغة والنحويين في التراث العربي، منذ سيبويه مروراً بأبي علي الفارسي، وابن جني، والسيرافي، وصولاً إلى اللغويين المتأخرين في القرن الثامن، وما بعده.
ولقد قدّم حجازي في كتابه العمدة «علم اللغة العربية» أفضل تأريخ وتبويبٍ وتقسيم معاصر لعلوم اللغة في التراث العربي القديم، وعلم النحو من بينها بالأخص، ولكتب النحويين وتراجم النحاة، ووضعها في سياق تاريخ علوم اللغة الحديثة ككل، وهو في نظري إنجاز كبير استلفت اهتمام علماء اللغة غير العرب، وجعلهم ينظرون بإعجاب وإكبار لجهود كوكبة اللغويين والبلاغيين الفذة في تراثنا القديم.
ويظهر في أعمال الدكتور حجازي، مع نخبة أخرى من الأساتذة الأجلاء (تمام حسان، عبدالرحمن أيوب، عبدالحكيم راضي، عبده الراجحي، نصر أبوزيد، جابر عصفور.. وآخرون) الإعجابُ الشديد بالجهد الهائل والتفكير الفذ الذي تجلى في كتابات اللغويين العرب، بلاغيين وغير بلاغيين.

نظرات رائدة
كما نوّه حجازي، في عدد كبير من كتاباته ومقالاته وبحوثه العلمية، بصفةٍ خاصة، بالمادة وافرة الثراء والغنى والفرادة، التي تُقدمها الدراسات اللغوية التي دارت حول النص القرآني الكريم، وكذلك ما قدّمه لغويون أفذاذ أمثال «ابن جني»، من نظرات رائدة بالغة القيمة لموضوع البحث في لغة الأدب، (كان هذا الموضوع محل اهتمام الدكتور عبد الحكيم راضي، بارك الله في عمره وصحته، سلّط عليه الأضواء من جديد مع النهضة الحديثة في علم اللغة، والتي واكبها تعاظم الإحساس بأهمية المدخل اللغوي إلى النص الأدبي في كتابه الرائد «نظرية اللغة في النقد العربي»).
واستطاع الدكتور حجازي، بفضل موهبته ودأبه وإجادته الممتازة للعديد من اللغات الأجنبية والشرقية، (على رأسها الألمانية التي أعدّ بها رسالته للدكتوراه حول «منهج السيرافي في التحليل اللغوي»)، أن يقدم ما قدمه من إنتاج علمي وافر وزاخر ومتميز وفريد، إنتاج يجمع بين سَعة المعرفة وعمق الاطلاع، وتوظيف رائع لأحدث النظريات والمنهجيات الحديثة في الدرس اللغوي المعاصر.
كل ذلك، فضلاً على جهوده الواسعة وأعماله الأخرى في تأسيس الجامعات الكبرى خارج مصر (جامعة نور مبارك بكازاخستان)، وعضويته في المجامع العلمية (المجمع العلمي المصري ومجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع اللغوي بدمشق)، واشتراكه في العديد من المشروعات العلمية الضخمة، ومنها إشرافه على ترجمة الموسوعتين العظميين، «تاريخ الأدب العربي» لكارل بروكلمان (صدرت في أحد عشر مجلداً)، و«موسوعة التراث العربي» لفؤاد سزكين (في عشرة مجلدات)، وهذان المشروعان، وحدهما، كفيلان بوضعه في الصدارة بين أهم علمائنا ومثقفينا من أصحاب الإنجازات العظيمة..

دروس الأستاذ
من أهم الدروس، التي يمكن استخلاصها من مسيرة وسيرة وجهود الأستاذ الجليل محمود فهمي حجازي، قدرته الفذة على ضرب المثل الواقعي المباشر على أهمية المزج بين الثقافتين التراثية الحقيقية الأصيلة ومناهج العلم الحديثة في مصادرها الغربية.. الاستيعاب المذهل للمناهج الحديثة كان سبباً مباشراً في اكتشاف أصالة التراث، وإعادة قراءته وليس العكس!
أدرك الدكتور حجازي، أن امتلاك المنهج والتسلح بالمعرفة الحديثة (شأنه في ذلك شأن الرعيلين الأول والثاني، ومن تتلمذ عليهما من الأساتذة الأجلاء في جامعة القاهرة، وبالأخص في أحد معاقلها التنويرية العريقة، قسم اللغة العربية وآدابها)، هما مفتاح القراءة الواعية والمستوعبة لتراثنا اللغوي والفكري معاً..
من يراجع كتابيه «علم اللغة العربية»، و«الأسس اللغوية لعلم المصطلح»، على سبيل المثال، ضمن منظومة كتبه وأعماله العلمية الجليلة، سيجد تبويباً وتفصيلاً وترتيباً وعرضاً مغايراً بالكلية، لكل ما سبقه من مادة علمية تتعلق بدراسة اللغة، ومفاهيمها، وتصوراتها، وما يتصل منها بلغتنا العربية، قديماً وحديثاً، في ضوء مستجدات ثورة اللغة في العصر الحديث. وبالتوازي مع الإسهام اللغوي، قدّم أيضاً الدكتور حجازي نموذجاً علمياً مبهراً في استخلاصاته المقطرة لأفكار رائد التنوير الفكري رفاعة الطهطاوي، السياسية والتربوية والعلمية والتعليمية في كتابه الممتاز «أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي».
الأمر ذاته، في كتابه رفيع القيمة «طه حسين دراسة ومختارات ووثائق»، الذي نشره عام 1998 عن جامعة القاهرة، بمناسبة مرور ربع القرن على وفاة طه حسين، وكلاهما (كتاب الطهطاوي وطه حسين)، من وجهة نظري، نموذجان باهران في الدرس العلمي الدقيق، واستخلاص الأفكار ببراعة وعرضها وتوثيقها.
وثاني هذه الدروس، التي يمكن استخلاصها مما قدمه من كتابات علمية غاية في الثراء والقيمة، الدقة وإصابة المعنى وتجنب الثرثرة والإسهاب، الإحاطة والشمول والسيطرة التامة على المادة اللغوية الهائلة في تراثنا العربي، وعلى النظريات الحديثة وما تفرع عنها من منهجيات ورؤى وأطر نظرية، وكان لديه القدرة على استخلاص الأفكار الأساسية والمبادئ الكلية في التيارات والمذاهب المعرفية الحديثة، ويتضح هذا أكثر ما يتضح في بحوثه العلمية المفردة، التي كان ينشرها في كبار الدوريات العلمية المحكمة، ومنها مجلة (عالم الفكر) الكويتية العريقة. أذكر أنني حينما كنت أقرأ عن تيار البنيوية (رأس الحربة في تيارات الحداثة وما بعدها، ضمن منظومة المناهج النقدية الحديثة)، وأحاول فك طلاسمها وأنا طالب في الجامعة، وأحاول أن أعمق معرفتي بجذورها المعرفية والفلسفية.. كان ثمة ثلاث دراسات كتبت بالعربية لا أنساها، أولاها «البنائية وجذورها الفلسفية» للمرحوم الدكتور فؤاد زكريا، ومقالة الدكتور شكري عياد «موقف من البنيوية»، وأخيراً «أصول البنيوية في علم اللغة والدراسات الإثنولوجية» للدكتور حجازي، وأزعم زعماً أن هذه الدراسات الثلاث هي أهم وأعمق وأفضل ما كتب عن تيار البنيوية في اللغة العربية.

وضعية اللغة العربية
ورابع هذه الدروس، هو وعيه المذهل بوضعية اللغة العربية بين لغات العالم الحية، وموقعها المتقدم بينها، ليس فقط باعتبارها من أقدم اللغات الحية على وجه الأرض، إنما أيضاً بحيويتها وقدرتها على الاستمرار والتجدد، وهذا ما دلل عليه حجازي في المذكرة التي تقدم بها إلى الأمم المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي، لاعتماد اللغة العربية لغة رسمية ضمن اللغات المعتمدة في الأمم المتحدة، ولعل هذا الاقتباس مما قاله قبل رحيله بعدة سنوات في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، يبرز جوهر هذه الرؤية:
«اللغة العربية من حيث عدد المتحدثين بها، كلغة أولى أو ثانية، تحتل المركز الخامس بين لغات العالم، وهذا موقع متقدم جداً، أما الإنتاج العلمي المكتوب باللغة العربية ففي حاجة لأن يضاعف عدة مرات، وللأسف فإن السلوك الاجتماعي داخل البلاد العربية مضطرب للغاية، هناك كثيرون يتخيلون أن هناك اختياراً بين أن يعرف الإنسان اللغة العربية، وأن يعرف لغة أجنبية أخرى، هذا الاختيار غير وارد على الإطلاق.
أنا عشت أكثر من نصف عمري خارج البلاد العربية، تعلمت أكثر سنوات حياتي في ألمانيا، وطه حسين له إنتاج علمي نعرفه بالعربية، وله أيضاً إنتاج علمي نعرفه بالفرنسية، الإنسان المعاصر في مصر والبلاد العربية يحتاج في المقام الأول، إذا كان يحترم نفسه، وإذا كان يتعامل بالاحترام اللائق مع تكوينه الشخصي وهويته الثقافية والاجتماعية، أن يتقن لغته العربية الأم».
أما آخر هذه الدروس، فقد كان يتغيا الوضوح والدقة والتماسك في العرض، وربط الأجزاء بكلياتها وإطارها العام، وبفضل هذه الطريقة أدركت أجيال من الباحثين والدارسين سر وجمال وعبقرية النظام اللغوي العربي، وفتح لها آفاقاً للإجادة والتفوق لغوياً بمنظور وظيفي معاصر، يفيد من اللغة وإمكاناتها وطاقاتها التعبيرية الهائلة، ويوظفها للتعبير عن حاجاتهم الأساسية، وأفكارهم في التواصل والمباشر والإبداع الأدبي والفني، والتنقل بين مستوياتها المختلفة والمتعددة بسهولة ويسر وتمكن.

إضاءات على مسيرة «الأستاذ»
ولد محمود فهمي حجازي 1940، بالمنصورة التي تلقى بها تعليمه الابتدائي بمدرستها الأميرية، ثم بمدرسة الملك الكامل الثانوية. حصل على الليسانس الممتازة في الآداب من كلية الآداب جامعة القاهرة 1958، وكان أول فرقته وأصغر خريجيها. كان موهوبًا وبارعًا في تعلم اللغات الأجنبية، تعلم الألمانية وأجادها بطلاقة. عين معيدًا بكلية الآداب 1959 بقسم اللغة العربية، ثم ابتعث إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللغة، وفي الدراسات المقارنة بالإضافة إلى دراسات متخصصة في اللغات السامية والآداب الشرقية والأوروبية. نال درجة الدكتوراه من جامعة ميونيخ 1965 وكانت في «منهج التحليل اللغوي». عاد إلى كلية الآداب، وتدرج في مراتبها الأكاديمية مدرسًا 1965، ثم أستاذًا مساعدًا 1972، فأستاذًا 1978.
أعير للعمل بجامعة الكويت (1970-1974) وبجامعة قطر (1980-1984). ودعي غير مرة أستاذًا زائرًا بجامعات أوروبية في ألمانيا، والمجر، وهولندا، وفرنسا، وبجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وبالجامعة الأميركية بالقاهرة.
عين وكيلاً لكلية الآداب للدراسات العليا والبحوث بجامعة القاهرة من 1989 إلى 1994. وعين كذلك رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (1994-1997). عُين رئيسُا لجامعة (نور مبارك) بكازخستان من 2001 إلى 2014. كان عضوًا في هيئات علمية وثقافية دولية وعربية، منها مجمع اللغة العربية بدمشق منذ عام 1994، واتحاد الكتاب منذ 1985، والمجمع العلمي المصري 1995.
كان له جهد ملموس في التخطيط وتنفيذ المشروعات في إطار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفي المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بماليزيا. اختير خبيرا بمجمع اللغة العربية منذ عام 1975، ثم انتُخب عضوًا به عام 1999. نال وسام الاستحقاق الاتحادي من الطبقة الأولى لجمهورية ألمانيا الاتحادية لعام 1977، وجائزة جامعة القاهرة التقديرية في العلوم الإنسانية 1998، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1998، والدكتوراه الفخرية بدرجة أستاذ من جامعة اللغات العالمية في كازاخستان، ووسام رئيس جمهورية كازاخستان 2013، وآخر ما حصل عليه من جوائز وتكريمات، جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب 2019.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©