الجمعة 3 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تحولاته الثقافية والمجتمعية باللون والضوء في «جميل للفنون»

تحولاته الثقافية والمجتمعية باللون والضوء في «جميل للفنون»
22 نوفمبر 2018 04:54

نوف الموسى

يتدفق الأسودُ، لوناً، يرتطم بالأعين كإيقاع طبلات مَيَلان احتفالية «المالد»، بمناسبة انطلاق الأسئلة الأولى لـ «مركز جميل للفنون»، ويستمر اللون في التسريب الخفيّ، عبر صخور الفنان محمد أحمد إبراهيم، الواقفة كشاهد على المدخل الرئيسي للمركز، متسللاً بسؤال الـ «خام» عن كل أشكال التحول الاجتماعي والثقافي لانبثاق «النفط» في منطقة الخليج العربي، مشكلاً المعرض الفني الأول، الذي يرسو على خور مدينة دبي، باتجاه موقع «الجداف». لم يتسرب الأسود كلياً، فلا تزال أشجار «أنوك فيجل»، ترسم ملامح الحدائق السبع في «جميل للفنون». تنظر إلى شجرة غريبة، وفجأة يباغتك صوت إيقاع هندوستاني كلاسيكي، 7 ضربات متتالية، تتبعها برفق، نحو «غرف الفنانين»، وتحديداً عند الفنانة «لاله رُخ»، تتأمل مصدر الصوت، الذي يرافقه إيقاع بصري، يظهر أشكالاً تذكرنا بالرموز البارزة في أنظمة الكتابة «برايل» للمكفوفين، تجعلك ترى النغمة، وتهرول بخطوات سريعة نحو الفراغات المفتوحة بين الغرف، تستوقفك أقمشة الستائر المرقعة، «بحر/‏‏ حرب»، للفنانة «منيرة الصلح»، تدنو من أعمالها التطريزية «تسريحة فلاحية في منتصف الليل»، وتقرأ تلك الحوارات بين الفنانة وعدد من اللاجئين في لبنان وأوروبا. وقبل أن تسأل نفسك عن الحضور الفوتوغرافي للفنانة «هجرة وحيد»، لسحابات دخان أسود، أثر حرائق النفط، ومدى أثر فيلم «حكاية فارسية» (1951)، كأول فيلم بالألوان ينتج في إيران، من إنتاج دائرة العلاقات العامة في «شركة النفط البريطانية الإيرانية»، تتوهم خلالها احتراق قاع القدور في عمل الفنانة «مها ملوح»، يلاقيك القائمون على «جميل للفنون»، في مقدمتهم المدير التنفيذي لـ «مركز جميل للفنون»، انطونيا كارفر؛ وبرؤية جمالية تتأكد إذا ما استشعرت حس «التفاعلية» بالفضاءات الفنية للمكان، قائلة: «هذا ما نريده تماماً، وعي مجتمعي بالفنون، مبني على تفاعلنا العميق، بما يعنيه التجسيد الفني لأفكارنا، وتجربة المكان وسيلتنا لتجربة ذلك».

أعمال الفنانة «مها ملوح» والسؤال عن أُناس القدور وأحلامهم (تصوير: أشرف العمرة)

في قارب شُق قلبه إلى نصفين
تفتح فمك «دهشةً»؛ وأنت تنظر للأعلى؛ رغم أن مصدر الخيوط الحمراء يتجلى من القارب الصغير «عَبرة» الخشبي، وتدرك أنها خيوط من الصوف، تحاول بائسة أن تُلحم كَسرة قلب القارب الصغير، تتصور أن أيدي خفية سهرت سنوات طويلة، في محاولة حثيثة، لخياطة جسد الـ «عبرة»، ولكن ما هو مصدر تلك الخيوط، أين هي رأس الإبرة، كل شيء يشع من القارب الصغير، مثل موجات ضخمة تنطلق أفواجاً إلى كل مكان، تغزو السقف /‏‏ السماء، وتصنع بين جنباتها فجوات، لتمر من حولها، أو بالأحرى تتوه، تسقط نفسك في متاهة السؤال، هل القارب هو الهجرة أم الزمن، أو أنه يشي ببعض من الألم، حسناً ما هي ذاتنا الحقيقية؟ ستتخلى عن كل تصور، لضمان الصعود للقارب، وستقرر أن تريح رجليك وتستلقي بكلك فيه. قبل الاتكاء الكليّ، يستوقفك الوقوف الجانبي للفنانة اليابانية تشيهارو شيوتا ـ صاحبة العمل ـ على استيحاء تقول لك: يسعدني أنها أثرت فيك لهذه الدرجة، وتذهب لتترك وحيداً في مواجهة مع خيوط الصوف، التي ستجعل منكَ، خيطاً رفيعاً يشبه الموجة الدافعة للقارب، ستخاف في الوهلة الأولى، رُعب التحول من شكل إلى شكل، رغم جمال التحرر من الجسد الإنساني، إلا أنها تظل مخاطرة ضخمة، يعجز عنها أحياناً الشعراء أنفسهم، عند كتابة القصيدة الأخيرة، إلا أنه في كل هروب، خلقٌ جديد للتشكل، حتى تصل بك إلى التسليم. النظر إلى خيوط الصوف، يوحي لك بالشباك التي تَصيد ولا تُصاد، ويمكن أن تكون تجمعاً لا نهائياً لشرايين الحياة، في الحالتين، تنغمس في اللون، وتنكوي في احتراق اللحظة التي لا تملك فيها حتى نفسك. بين الرغبة للعودة إلى المعرض (المكان) والغوص في أعماق (القارب)، يختفي فيكَ كل شيء، للأسف ربما لا تنجح في التحول إلى خيط صوفي، إلا أنه ستتسنى لك فرصة التعلق بأطراف خشب القارب وتحظى بـ النجاة!

في محاولة لخياطة قارب شُق قلبه إلى نصفين، تأملات لعمل الفنانة اليابانية تشيهارو شيوتا في مركز جميل للفنون

في برميل النفط وأسلاكه
الخروج من غرفة الفنانة اليابانية تشيهارو شيوتا يجعلك تتنفس الصعداء، فلتَّ بجلدك مؤقتاً، واسترجعت ذاكرتك الآنية، خاصةً عند استشعارك لرائحة النفط، بمجرد رؤيتك لعمل الفنان «أليسندرو بالتيو ـ يزبك»، بعنوان «برميل النفط الأخير»، يستفزك حجمه الصغير، كاشفاً الدور المحوري للنفط في النظام المالي العالمي، إلا أنه يثير في نفس اللحظة، التغلغل والتأثير للنفط في كل تفاصيلنا اليومية: هل يمكننا تخيل الحياة بعد النفط هو سؤال الفنان، ولكن سؤالك قد يكون عن عمل الفنانة منيرة القديري، من جسدت في الجانب المقابل، من المعرض، عملاً نحتياً «أور- بت 1»، وهو عبارة عن رأس آلة حفر لولبية تقوم على نحو غامض، برفع سنتميترات قليلة من وطأة الأسئلة. وكيف أن النفط ساهم في ابتداع ظرف لاحتمالات لا نهائية، على مستوى التصنيع وبث الحياة في الأشياء. فالأخير أثارته الفنانة «ليديا أورحمان»، من خلال عمل «أرض الشمس»، الذي يمثل شجرة ليمون زرعت في دولاب يعوم في طبق بلاستيكي شفاف، وغير عميق، مملوء بزيت محرك مستعمل، وهو عمل يناقش مسألة الطابع الاصطناعي للمنتجات البتروكيميائية، كالبلاستيك والمطاط، وما عمدت إليه «ليديا أورحمان» هو تقديم بيئة رمزية، غير متوقعة، بين ما هو طبيعي وبين ما صنعه الإنسان، ممثلة بالشجيرات والبتروليات، المثير أن التلاقي الذي أحدثته الفنانة قدم واقعاً قائماً، يؤكد الجذور الأصلية الطبيعية للنفط!
بجانب شجرة الليمون، يثير الفنان القدير حسن شريف، بعمله «أخفاف وأسلاك»، كل مكامن التراكم الداخلي، للأفراد. عمل يستخدم رمزية البضائع الرخيصة، التي تنتج بكثافة، والمصنوعة في غالبها من البلاستيك والمطاط، يستدعيك نحو مستوى الاستفزاز فيه. قام بإحضار «خفاف» وعمل على طويه، وتقطيعه، وربطه ببعضه البعض، وكدسه أكواماً فوق أكوام، محولاً تلك الأغراض المرتبطة بمنفعة معينة، إلى أغراض لا فائدة منها، بتجريدها من قيمة استخدامها، وهو بالتأكيد نقد لاذع للنزعة الاستهلاكية التي صاحبت ظهور النفط في المجتمعات الخليجية.

أعمال الفنانة «مها ملوح» والسؤال عن أُناس القدور وأحلامهم

في منحوتة زجاحية
في عام (1954).. الشمس ساطعة، والأمواج الضاربة في مياه الخليج مرتمية على أطراف اليابسة، تنتظر الريح القصية، لبدء موسم الارتحال نحو المجهول، هناك على الطرف الآخر من اللحظة، يستعد الفنان الشاب جاك كوستو، للصعود إلى سفينته الشهيرة، «كاليبسو»، لإجراء مسح جغرافي لمياه الخليج العربي، لتطوير ما أُسمي بـ «الرئة المائية» أو جهاز التنفس تحت الماء، وهو ابتكار تكنولوجي سمح للغواصين ببلوغ الأعماق. والنتائج ساهمت باكتشاف النفط في المياه الإقليمية لأبوظبي. في مركز جميل للفنون، استُحضرت تلك اللحظة مع الفنان مايكل جون ويلان، الذي أعاد تمثيل مهام كوستو، لترتحل بنفسك مع فريق الغواصين الخاص بـ ويلان، وهم ينزلون إلى قاع الزرقة وأسرارها، ليجمعوا عينات من الرمل التي درسها جاك كوستو، ويعودوا إلى الشاطئ محملين برمال حولها ويلان إلى منحوتات زجاجية، مصنوعة من النفخ، ومرصعة بالفقاعات التي تثري كل نَفَسَ زفره الغواصون تحت الماء، في مواجهة مع هشاشة الجسد البشري أمام عظمة المحيط.

جانب من عمل «الحياة المعاكسة: حديقة نباتية مضيئة مخصصة للأشجار»

في ذاكرة الضوء
الفوتوغرافيا؛ لعبت دوراً محورياً في مناقشة دور النفط في تشكيل بيئات جديدة، كتلك التي أظهرتها المنشورات والمطبوعات الأميركية، واكتشفتها الفنانة رجاء خالد. وما خلقته رجاء يتعدى الملامح والهيئات الخارجية لمن تصورهم، وصولاً إلى المشاعر الداخلية والأحاسيس، من بين الأعمال المعروضة، أربع صور صحفية بالأسود والأبيض، التقطت في الخمسينيات، موظفو «أرامكو» وهم يركبون عشباً مبتكراً مصنوعاً من الرمل الممزوج بالزيت، ويقف قروي سعودي ناظراً «بارتباك» في إحدى تلك الصور، اللافت، ما أحدثه النفط بعد ذلك، باستبدال تلك الملاعب البدائية إلى فضاءات احترافية متكاملة لهذه الرياضة، وعمل رجاء إنما هو مكاشفة للمسار التاريخي لمظاهر التحول وما يشوبه من غرابة وانتقال في ماهية مدن الخليج العصرية، التي تبعث في نفسك كمتلقي السؤال عن المكان، وما فاتك في غمرة تشكله، وأثر عليك اجتماعياً بشكل غير مباشر!
بالنسبة لعمل الفنانة منال الضويان: «إذا نسيتك فلا تنساني»، تبرز وجهة نظر ذاتية، في تاريخ شركة أرامكو، ويجدر القول بأنها من بين أكثر المعروضات ذات التأثير، وذلك لاحتواء العمل على مواد أرشيف شخصي وتواريخ شفوية لرواد ورائدات سعوديين عملوا في قطاع النفط، تذهب منال إلى ذاكرتهم وتفاصيلهم اليومية، والصعوبات التي واجهوها والفرص التي عايشوها، خاصة تحديات الأحكام المسبقة حول مجال عملهم، التي قد يتم تصنيفها بحسب الجنس والعرق. لطافة المصور لطيف العاني، وابتسامته أمام أعماله تشبه تماماً تلك الصورة العفوية التي التقطها لـ غداء مدرسي، في بغداد عام 1961، تظهر فيها طفلة تحمل قارورة الحليب، ملوحة بها للأعلى، تعلو شفاهها ابتسامة مطمئنة، توحي بلحظة من الوهج الآمن، والاهتمام المتسامي ببيئة التعليم وقتها في العراق. اللافت في أعمال لطيف، هو توثيقه لتحولات المدينة، وبيان فعل النفط عليها، بعد الفراغ من مشاهدة أعمال العاني، قد يدخلك ما يطرحه أليسندرو بالتيو- يزبك عبر عمله «أنستايبل- موبايل»، (غير ثابت - متحرك)، في نقاش فكري عميق، بخصوص الفلسفة الفكرية التي طرحها حول تاريخ «الدبلوماسية الثقافية»؛ التي كانت مبنية على استخدام الفن الحديث لبث التأثير حول أفكار تلك الدبلوماسية، وبالأخص موجة «النزاع» التي أحدثها النفط في المنطقة، وأنتجت حروباً دامية، تتطلب منّا إلى هذه اللحظة كشف ما تركته في الفكر والروح، في محاولة واعية للتجاوز، ولا بد من السؤال: كيف يمكننا ذلك؟!

في الحياة المعاكسة
تلتقي الفنانتان الكويتيتان عالية فريد وأسيل اليعقوب، بالقرب من حديقة نباتية صممتاها، عبر نباتات مصنعة وهجينة صنعت بتركيبات ضوئية، وضعت في شرفة سطح مركز جميل للفنون، تؤهلك للمرور بينها، كأنك تزور منابت للضوء، لا تسأل عالية وأسيل عن الأشجار، لأن سؤالك سيتركز بطبيعة الحال على كيفية تصميم الضوء في تلك النباتات. في الليل؛ تتحول الحديقة النباتية، كإنارة احتفالية، تبهجك بظلال الضوء الساقط على مياه الخور القريبة، الذي لا يمنعها من التداخل مع أضواء مدينة دبي.
«الحياة المعاكسة: حديقة نباتية مضيئة مخصصة للأشجار»، هو العمل الفائز في النسخة الأولى من برنامج فن جميل للتكليفات الفنية السنوي.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©