السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

شجرة عشقها الشعراء.. وذكرتها الأساطير

شجرة عشقها الشعراء.. وذكرتها الأساطير
19 ديسمبر 2019 01:50

علي كنعان

حين نتأمل الطبيعة من حولنا نرى أن حياة الإنسان مرتبطة بالنبات ارتباطاً وجودياً، خاصة أن علاقة الشجرة بالإنسان تعود إلى بدء الخليقة، أي منذ أن كان جدنا الأول في جنة النعيم. ولا شك في أن النخلة شجرة مباركة، كما وردت في سورة مريم في قوله تعالى: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) ونداء السيد المسيح لأمه العذراء: (فهزِّي إليكِ بجذعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَليكِ رُطَباً جَنِيّا). ومن عجائب أشجار النخيل ومحاسنها الجمالية وقيمتها الغذائية أنها تنمو في الواحات، وتقاوم جفاف الرمال في البوادي والقفار، كما أنها ترتبط بحياة العربي منذ أقدم العصور. فالرطب من ناحية ولبن النياق والأغنام من جهة ثانية كانا، إلى جانب الخبز، قوت الإنسان العربي عبر الأجيال، وهما العنصران الأساسيان فيما تنتجه تلك الواحات وعلى أطرافها من خيرات. لكن لي حكاية خاصة وذات أطياف متعددة مع هذه الشجرة المباركة يطيب لي أن أسردها، كما أن للنخلة صوراً فنية في الشعر العربي والعالمي مقرونة بالروعة والجمال.
ولتكن البداية من مدينة تدمر في بادية الشام. لقد أطلق الرومان على هذه المدينة اسم «بالميرا»، أي مدينة النخيل في عهد ملكها أذينة وزوجته الملكة زنوبيا من بعده. وفي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، أتيح لي أن أعمل معلماً بالوكالة في «مدرسة العشائر»، وهي مدرسة ابتدائية خاصة بتعليم أبناء البادية، وتقع على مقربة من مطار المدينة في ضواحي تدمر. كانت آثار المدينة مذهلة بشارعها الطويل ومسرحها المدرج وسائر معالمها التاريخية. وكانت بساتين النخيل حولها تسر الناظرين وتملأ النفوس بهجة وتشرح الصدور بخضرتها الناضرة وأقراط البلح المتدلية من بين تيجانها. وكان بين الآثار والنخيل جدول جوفي من المياه الحارة، يهبط إليه مرتادوه على درج حجري ليستمتعوا بالغوص في مياهه الدافئة. فالماء والخضرة هما بهجة الحياة وروعتها.
كانت المسافة بين المدرسة والمدينة لا تزيد على عشرين دقيقة، نعبرها كل يوم جمعة لنطوف بين المدينة وبساتينها ومياهها الدافئة المنعشة. وكانت أشجار النخيل تذكرني بأنشودة النهر الخالد من شعر محمود حسن إسماعيل وغناء محمد عبد الوهاب:
سمعت في شطك الجميلِ ما قالت الريحُ للنخيلِ
يسبح الطيرُ أم يغني ويشرح الحبَ للخميلِ؟
وأغصنٌ تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيلِ؟
وإذا تابعنا القصائد التي استلهمها مبدعوها من النخيل نرى أن الشاعر الجزائري محمد ناصر نشر ديواناً بعنوان «أغنيات النخيل»، وكان الشاعر يومئذ يتابع دراسته في جامعة القاهرة، وهو يعبر في أكثر من قصيدة عن عمق ارتباطه بأرض وطنه الجزائر، وليس هناك من رمز شعري يدل على شدة ارتباط الإنسان بوطنه أجمل وأقوى من النخلة.
وخلال سنواتنا الدراسية في جامعة دمشق كنا نردد «أنشودة المطر» مع بدر شاكر السياب:
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر
وشرفتان راح ينأى عنهما القمر
هي الظلُّ
وإذا تنقلنا بين العصور نكتشف أن أحيحة بن الجلاح، وهو من سادات قبيلة الأوس في الجاهلية ومن أثرياء مدينة يثرب، وكان يملك كروما وبساتين ويهتم كثيراً بشجرة النخيل حتى أفرد لها قصيدة يرد فيها على قومه ويستغرب كيف يلومونه على اقتناء أشجار النخيل والاعتناء بها وهي التي يلجأ الإنسان إلى ظلها في أجواء القيظ، كما أن منظرها الجميل لا ينكره إلا الذين لا يشعرون بالجمال. ثم يواصل وصفه لها وكيف يقطع سعفها وفروعها من أسفلها حتى يبقى جذعها عارياً، بينما سعفها يظل تاجا على رأسها حافلاً بالثمار الشهية من أقراط البلح، يقول:
يلومونني في اشتراء النخيل.. قومي فكلُّهم يعذلُ/‏‏‏‏ وأَهل الذي باع يلحونه.. كما عُذل البائع الأَوَّلُ/‏‏‏‏ هي الظلُّ في الحر حقُّ الظليل.. والمنظر الأحسن الأجملُ/‏‏‏‏ تَعشّى أَسافلُها بالجبوب.. وتأتي حلوبتها من علُ/‏‏‏‏ وتصبح حيث يبيت الرِّعاء وإنْ ضيَّعوها وإنْ أَهملوا/‏‏‏‏/‏‏‏‏ (واللحي والعذل: اللوم، والتعشِّي: قطع السعف من أسفلها وتقليم فروعها لتبقى شامخة، بينما يتركون الحلوبة في أعلاها: وهو يرمز بالحلوبة إلى بلحها الذي يتغذون به كالحليب).
ونتابع صور هذه الشجرة الملهمة، فنرى أن أمير الشعراء أحمد شوقي تغنى طويلاً بالشجر، وخص النخيل بإحدى روائعه، موجها عتابه للشعراء العرب الذين لم يعطوا هذه الشجرة حقها، واصفا جمالها وفوائدها الغذائية في المدن والأرياف، وفي الحل والترحال، ولجميع الناس من فقراء وأغنياء، إذ يقول: فيا نخلة الرمل، لم تبخلي ولا قصَّرت نخلاتُ التربْ/‏‏‏‏ وأعجبُ: كيف طوى ذكرَكنَّ ولم يحتفلْ شعراءُ العربْ/‏‏‏‏ أليس حراماً خلوَّ القصائدِ من وصفِكنَّ وعطل الكتب؟ وأنتنَّ في الهاجرات الظلالُ كأنَّ أعاليكنَّ العببْ/‏‏‏‏ وأنتنَّ في البيدِ شاةُ المعيلِ جناها بجانب أخرى حلب/‏‏‏‏ وأنتن في عرصات القصور حسان الدمى الزائنات الرُّحَبْ/‏‏‏‏ جناكُنَّ كالكرم شتَّى المذاقِ وكالشهدِ في كلِّ لونٍ يُحَب.
وفي الأساطير الإغريقية أن ليتو زوجة زيوس وضعت توأمها، أرتميس وأبولو، تحت شجرة نخيل في جزيرة ديلوس، وكانت هاربة من ضرتها الشريرة الغيور هيرا التي تزوجها زيوس كبير الآلهة، في حين كانت ليتو حبلى بالجنينين ولا تعرف أين تضعهما، لكن إلاه البحار بوسيدون أسعفها بتلك الجزيرة. ونرى أن ذكر هذه الشجرة يرد مراراً في قصائد أويد، الشاعر الروماني، صاحب كتاب «فن الحب».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©