السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فلاحة التمور في الحضارات القديمة.. النخلة والشجر المقدس

فلاحة التمور في الحضارات القديمة.. النخلة والشجر المقدس
19 ديسمبر 2019 01:50

بقلم: هيلين دانتين
ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

تحتل الشجرة المقدسة في المعالم الأثرية لآسيا الغربية مكانة هامة. وهي تتمثَّل في عدة أشكال، أكثرها عدداً ينحدر، في نهاية التحليل، من نخلة التمر. هذه الشجرة التي هي من الأهمية بحيث تكفي لتغطية معظم حاجيات العيش، تشكل مصدر العيش الأساس لسكان جنوب بلاد ما بين النهرين. فهناك، على ما يظهر، عُرفت فلاحة هذه الشجرة لأول مرة عن طريق السومريين. ذلك أن نخلة التمر، في حالتها المتوحشة، لا تنتج فاكهة قابلة للتغذية، وقد كانت العناية التي أولاها الكلدانيون للشجرة الوحيدة التي تنمو في بلادهم قد حولت النوع المتوحش، الذي لم يعد له وجود اليوم، إلى شجرة مثمرة. وفي مصر، يظهر أن فلاحة نخل التمر لم تكن معروفة قبل الإمبراطورية الجديدة، وهي الفترة التي ربطت فيها روابط متعددة مركزَي الحضارة آنئذ. في البلاد القديمة للسومريين، كانت فلاحة التمور قد عرفت درجة كبيرة من النمو وذلك منذ عهد قديم. فعلى أقدم المعالم الأثرية، تظهر نخلة التمور في حالتها المتطورة. وإذا كانت أساليب الفلاحة السومرية تختلف عن الطرق التي ينهجها العرب اليوم، فإنها تُعدّ أشد قرباً من الأساليب التي تعتبرها الفلاحة العصرية أكثر عقلانية. يتطلب هذا المستوى من العلم خبرة طويلة. إنها حجة أخرى في صالح نظرية نمو الحضارة السومرية في جنوب بلاد الكلدانيين. وهي تفسر في الوقت ذاته وجود تمثيلات على معالم أثرية عريقة في القدم.
في الألفية الثالثة، نجد نباتات أخرى ممثلة إلى جانب نخلة التمر: عند السومريين، هناك على الخصوص نبتة ذات أوراق على شكل رماح وذات زهور على شكل نجوم. إلاّ أن نخلة التمر تظهر دوما بين النباتات المرصعة لمزهرية المذبح. وهكذا تتجلى قيمتها الدينية وأهمية فلاحتها لازدهار البلاد. إن قوة تأثير السومريين على مختلف حضارات آسيا الغربية تفسر لماذا اعتبرت نخلة التمر شجرة مقدسة من طرف شعوب لم تكن تلك الشجرة تمثل بالنسبة إليها منفعة كبرى: ذلك أن ثمار تلك الشجرة لا تبلغ نضجها إلا جنوب بلاد ما بين النهرين، وفي بعض الأماكن المتفرقة في بقية آسيا الغربية. لكن، ابتداء من هذا الوقت، فإن تمثيلات نخلة التمر قد أخذت تبتعد عن الواقع محولة إياه إلى رمز ما يفتأ يغرق في التجريد. في الألفية الثانية، تعددت الأنظمة بأشكال مختلفة، واعتمدت على الخصوص، أسلوب قوس دائرة سرعان ما تحوَّل إلى شكل حلزون، قريب من الأشكال المستخدمة في عالم بحر إيجه. ولكن هذه الأساليب تظل، في بحر إيجه، طريقة زخرفية لتمثيل النخيل. أضاف الأشوريون لنخلة التمر التقليدية عناصر أخرى متنوعة: رمان، براعم، روابط، قرون، شبكة من الأشرطة المتشابكة، يجد معظمها نموذجه على معالم أثرية للألفية الثالثة أو الثانية، إلا أن المجموع، في تعديلاته المتعددة، يبقى خاصاً بالفن الأشوري للألفية الأولى. وفي الوقت ذاته نما عند الفن الفينيقي القبرصي نموذج خاص للأشجار المقدسة، وهو ليس في الحقيقة شجرة بقدر ما هو تراكم لعدة تيمات نباتية. يرجع هذا الأسلوب في التركيب، من دون شك، إلى التأثير المصري، مثله مثل تيمة «السرير» التي نلفيها في هذه المعالم الأثرية. حسب الوثائق التي نتوفر عليها، فإن أقدم مثال على هذا النموذج الخاص للأشجار المقدسة، يتمثل في كأس يعود إلى القرن الرابع عشر اكتشف في رأس شامرا.

شجرة الحياة
إضافة إلى الرمز الديني، فإن نخلة التمر قد ولدت أنواعاً أخرى من أوراق النخيل. السيماء العامة وترتيب العناصر ومظهرها يسمحان لنا أن نميز بوضوح بين السعفات المستمدة من نخيل التمر وبين اللوتس القادم من مصر والمعتمد كتيمة زخرفية عند الآشوريين. أبانت قبرص، التي تبنت الأشجار المقدسة الآسيوية، عن أصالتها في استعمال هذا العنصر. فعندها استعملت أوراق النخلة كعنصر تجميلي زخرفي. بعض هذه التمثيلات ذات الفرعين من الأوراق المتعارضة في قاعدتها، هي التي يظهر أنها كانت وراء الأوراق الميسينية. إلا أن هذا يظل مجرد فرضية. أما فيما يخص الأوراق القبرصية مع لفائفها التي تؤطر باقة النخيل، فهي مستمدة مباشرة من الأشجار الآسيوية المقدسة، وربما سيكون من الأصح وسمها بأنها فينيقية. إذا كانت هناك تأثيرات أجنبية قد فعلت فعلها في شكل الشجرة المقدسة، فإنها لم تنزع عن قيمتها الدينية طابع الأصالة والخصوصية الذي اكتسبته في بلاد ما بين النهرين نفسها. في دراسة الفن الديني لغرب آسيا القديمة، تعتبر الشجرة المقدسة رمزاً للخصوبة والإخصاب، باعتبار أن هذين المعنيين مرتبطان أشد الارتباط.
رغم أن هذا الطابع يربط هذه الشجرة بالحياة، فإننا لم نتبنَّ عبارة «شجرة الحياة»، التي تعطى لها عادة. وبالفعل، فإن هذا النعت من شأنه أن يخلق نوعاً من الخلط، وهو يدل أساساً على نبتة تمتلك خاصية إضفاء الخلود أو بعث الحياة، وهذه ليست خاصية الشجرة المقدسة. وإن رمزية الخصوبة التي نضفيها عليها قد تتقدم تكوينها ذاته. وقد كان السومريون من قبل قد وضعوا في مزهرية المذبحة سعفات النخيل رمزاً لخصوبة البلاد. أما الحتيون فكانوا ينوعون بأشكال مختلفة عدد النبتات، فكانوا يزيدون، بهذه الطريقة، من فوائد الرمز، معبّرين في الوقت ذاته عن خضوعهم للنزعة الباطنية للديانة. أما الأشوريون فكانوا يجمعون في تأليف واحد مختلف العناصر: سعفات، ورمان وبراعم وشبكات و«ريكورات»، وهي كلها تعبر عن فكرة الخصوبة، التي يتم تعظيمها من قبل بعضها البعض، عاملة بذلك على الزيادة في فوائد القيمة الرمزية. هذه القيمة المفيدة تجعل ذلك التوليف قوة وقائية، وحينها تأخذ الشجرة المقدسة المحفورة على الأسطوانات، أو الموضوعة على الزوايا والمطرزة على الملابس، تأخذ قيمة التميمة. هي وليدة النبات، إلا أنها ليست مع ذلك، مثل «شجرة الموت»، رجلاً تقياً اغتنى بزينته. إنها مؤلفة من عناصر نباتية، وهي مسطح يرمي أساساً إلى أن يستعاد في نحت، وتصوير، ونقوش بارزة، أو على مواد كالعاج أو المعدن. إنها لا تمثل أي حامل، ومن ثمة فلا يمكنها البتة أن تماثل الأشجار التي تدل على ميلاد الكون، وتشكل دعامات العالم. ومع ذلك، فإن لهذا المفهوم وجوداً في آسيا القديمة، وبعض المعالم الأثرية حيث يحمل جذع نخلة أسطوانة، مجنحة أم لا، يمكن أن تعود إليها. المبدأ نفسه الذي انتظمت وفقه الشجرة المقدسة، هو الذي يقوم أساساً لتأليف المشاهد التي يمثل فيها، فيختار الشخوص والحيوانات التي تصاحبه، وهي شعيرة طبيعية كثيراً ما تتردد، وأيضاً باستثناء موضوع جنْي التمور، لأن الكائنات والصفات المرتبطة بالشجرة، يكون ارتباطها بفضل نوع من «الرمزية القارة»، حسب التعبير الذي أوحى إلى به السيد دوسان. فتارة هي تعبر عن رمزية الخصوبة نفسها التي تعبر عنها الشجرة، وتارة أخرى تكون أكثر تحديداً في علاقة مع قيمتها الوقائية: هذا شأن ما يزعم أنها الجنِّيات المخصبة التي من الأفضل أن نرى فيها حارسات.

وأخيراً، فإن شجرة النخيل لها أكثر من صفة: إنها يمكن أن تكون في علاقة مع كائنات ذات خصائص جد متنوعة. ومجمل القول، فإن دراسة الفنون الدينية في آسيا الغربية القديمة، لا تجعلنا نعثر على أثر لعبادة الشجرة، بقدر ما نعثر على عبادة للخصوبة ذاتها. في هذا الفن الديني، ولاسيما في تمثيل رمز مثل الشجرة المقدسة، فإن دور الفنان هو دور لا قيمة له، وإن اعتبارات دينية وسحرية هي التي تحدد اختيار عناصره الأسلوبية، وهي التي تنظم المشاهد في كل تفاصيلها، كي لا يحدث ما من شأنه أن ينال من قيمة فوائد التمثيل. وعلى رغم ذلك، فإن رسم الأشجار المقدسة للنقوش البارزة، وأحياناً كذلك في توظيف سعفات النخيل يتم الإفصاح عن إحساس بالتوازن والانسجام في الخطوط، حيث يتم الكشف عن غريزة التزيين الزخرفي التي تظل حصراً على الشرق.

لقد عبرت ديانات الشرق عن نفسها على شكل رموز، وقد ابتدعت عدداً هائلاً منها مازال في معظمه يلفه الغموض. ومن بين هذه الرموز تحتل الشجرة المقدسة في دراسة الفنون الدينية لآسيا الغربية القديمة مكانة ذات أهمية كبرى.
.....
خاتمة كتاب: هيلين دانتين، نخلة التمر والأشجار المقدسة في الرسوم الدينية لآسيا الغربية القديمة، المكتبة الاستشراقية، باريس، بول جوتنر، 1937
HELENE DANTHINE, LE PALMIER-DATT›IER ET LES ARBRES SACRES DANS L›ICONOGRAPHIE DE L›ASIE OCCIDENTALE ANCIENNE, PARIS, LIBRAIRIE ORIENTALISTE PAUL GEUTHNER, 1937

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©