الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أم الصحراء وحاملة عش العنقاء.. شجرة الأبدية

أم الصحراء وحاملة عش العنقاء.. شجرة الأبدية
19 ديسمبر 2019 01:50

لينا أبوبكر

استطاع عالم الأعصاب (كريج كيج) أن يكتشف النظام العصبي لنبتة الـ «ميموسا بيوديكا» التي عرّضها لتجربة فيزيولوجية عبر جهاز استشعار خاص يشبه جهاز تخطيط القلب، النبتة تحركت بشكل سريع بمجرد ملامسته لها، وأصدرت إشارات كهربائية، ناجمة عن الإفراج عن المياه التي تحفظها داخل خلاياها فيتغير شكلها أو حركتها.. وهو ما يحيلك بالضرورة إلى الدراسات التي تعاملت مع النخلة ككائن أسطوري بمواصفات خارقة، وما فوق كهربائية، خصوصاً في الطقوس الدينية، والترميز العلمي لتكامل الطبيعة، كون النخلة مخلوقاً جندرياً مزدوج الهوية، ما يعني أن القيمة الرمزية لهذه الثنائية، تكفل لها توازناً عضوياً يدوزن إيقاع الطبيعة البكر بين الجنسين وسمات كل منهما، ولذلك يبدو شأنها عظيما في الثقافات القديمة، والأديان السماوية والكتب المقدسة، فعداك عن شموخها الباسق ومروحة الريش التي شبهها بعض علماء التنجيم وباحثي الأديان بكف الكاهنة، التي توحي بالحكمة والخصال القياماتية، والصمود العنيد والمقاوم في بيئات قاسية وأمام عواصف عاتية ضمن اتزانها الديناميكي، فإن الفكر الآشوري اعتبرها شجرة الأبدية التي يشتق منها أبناء الآلهة عشبة الخلود، فما هي فلسفة النخيل؟

أم الطبيعة
شجرة من سلالة الآريكاسيا أو النخليات، نالت احترام أرقى الشعوب وتقدير أعرق الأمم عبر التاريخ، حتى اعتبرها البعض أم الطبيعة، إلى الحد الذي سبقت فيه الحضارة، عمرها يمتد في السجل الأحفوري إلى ما يزيد على 80 مليون عام، ينحدر من جذرها الأكبر أكثر من أربعة آلاف نوع، وأكثر من مئتي جنس، بدأ بعضها بالانقراض، والبعض الآخر لم يزل صديقاً وفياً للبيئة، قد يعيش لأكثر من قرن ما يجعلها أقدم الكائنات الحية على المستوى الخلوي، في حين أن الباحثين يعتبرونها لغزا أكبر وأعظم من لغز أبي الهول، وهي الشجرة النبيلة التي سنت نقوش حمورابي قوانين خاصة بها على اعتبارها شجرة ملوكية، تحظى برعاية ملكية سامية.
في آسيا البعيدة، تتجلى القيمة الرمزية لهذه الشجرة كأم للأرض، وقد تكون قصيدة طاغور «شجرة النخيل» أكثر ما يمكنه أن يعبر عن هذه النظرة، وهو يحاول تقمص هيئة النخلة وحكمتها ومعجزتها، فهي كالسحب السوداء، في إحالة إلى أرض السواد «التعبير الذي كان يطلق على أرض العراق التي تبدو مراوح الريش في رؤوس نخيلها كسحب قاتمة» وهو إذ يراوح بين أرضيتها وسماويتها، يتخيلها شجرة مجنحة، ومتشبثة بترابها كأم.. هذا هو طاغور حين يفلسف النخلة، ولم لا يفعل طالما أن أقدم أجداد الحضارة في بلاد ما بين النهرين صوروا آلهة الخصب «عشتار» ممثلة بالنخلة، وحتى الأدب السومري، لم يبخل علينا بتوفير دلائل سخية على استخدام السعف في معابد الآلهة فهو من أشجار الملوك ومسلاتهم الحجرية، وأما التمور، فقد برز حضورها في المقابر الملكية، كزوادة للموتى في رحلتهم إلى الغيب !

كوكب الصحراء
ترتبط النخلة، بمرجعيات مقدسة في الذاكرة الإنسانية، وذاكرة تراثية ضخمة، يتجلى من خلالها التكريس الحثيث لهذه الشجرة كرمز وجودي للوجود، بآلهته ومخلوقاته الأسطورية، وشعوبه القديمة، وحتى كائناته الفضائية طالما أن النخلة كوكب الصحراء السرمدي !
الجميل في أدب ما بين النهرين، هو تلك التجليات الأنثوية الغاوية للنخلة، فلو عدت للملاحم أو الأساطير السومرية مثلا، ستعثر على قصة الغراب الذي يسرق كحل السحرة المحفوظ في وعاء اللازورد ليبذره على تخوم الماء، فتخلق شجرة ليس كمثلها مثل في البلاد.. وهذه الشجرة هي ذاتها التي ترفع أعشاش الفينيق الذي ينبعث من الرماد، كرمز لقيامة طازجة، وهي ذاتها التي ولد تحت مظلتها الإله أبولو، وأنجبت مريم العذراء المسيح تحت فيء رطبها، كأنها سادنة الميلاد، وسيدة المعجزات، شرقية لا غربية، في وطن عربي يملك ما معدله 90 في المئة من مجمل نخيل الكوكب، فماذا بعد؟
ليس لأن بعض الصحابة أوصوا بالنخلة خيراً، بل لأن بركتها تجلت في قيمتها القرآنية، إذ تباهى الله سبحانه وتعالى بجنات النخيل، كثواب للصالحين، وكمعجزة من معجزات الطبيعة في هذا الكون، سواء على صعيد وظائفها الحيوية أو شكلها أو فوائدها الغذائية والصحية، حتى لتشكل وحدة بيئية تامة، وليس هذا فحسب، فقدسية النخلة أيضاً حضرت بقوة في ديانة «الكابالا» و«الكتاب المقدس» والإنجيل « خصوصاً في كون النخيل دلالة على بشرى قدوم المسيح ودخوله القدس ثم قيامته، وكذلك الأمر بالنسبة لقوم موسى الذين فروا من فرعون، فقد اتخذوا من النخلة رمزاً لانتصارهم، حالهم حال العديد من الأقوام في فترات زمنية مختلفة وأماكن متفرقة من هذا العالم، حيث بدت هذه الشجرة رمزاً احتفائياً لهم على الصعيد القومي، خاصة بعد العودة من الحروب بنصر يكللونه بالنخيل، كشارة للشجاعة وللترحيب والفخر بالمحاربين والفرسان، وبما أن جذعها وثمرها يختصران العلاقة الحميمة بين آدم وحواء، فلا بد لها أن تكون أيضاً رمزاً للعشق، وللتفاعل الروحي والجسدي بين ركني الكون والخليقة: الأنثى والرجل، فأية شجرة معجزات يا إلهي هي النخلة؟

كحل النخيل
للنخل زيته الذي كان يدفن به الموتى في مصر القديمة، ولهذا قيمته الاجتماعية العالية، وله بلح الجنة وروح الفردوس، وقد رفع مساجد ورايات ودور ضيافة وبيوت أبناء السماء، فكان رمزاً للسلام، وللصلاة، ولأنه زينة الصحراء، فقد سمي بالواحة، ومركز الطاقة، ومخزن الأرض، وصندوق الطبيعة، وحصن الدفاع، ولم يزل يثير شهية اللغة والدلالات، إلى آخر رمق في الكتابة
يا أيها النخيل، سلاماً لقامتك الباسقة، ولعشك السماوي يحمل وردة القيامة
سلاماً لكحلك الفتان، يبذر النهر فوق سرير الليل.. فتنبت غيمة الجنة كسدرة تظلل المجد أو كستارة تشف عن سرك التهجدي
سلاماً... لعطرك الدائخ الوسنان، كبخور التاريخ البكر..
سلاماً... لراياتك الشماء.. لوشاحك البدوي.. لبرّك الفلكي.. لجناتك الخالدة... لبلادك النبوية.. لخيمتك الصحراء.. لثمراتك الفردوسية.. سلاماً لك وعليك يا أبا الأزمنة وقنديل المحراب وزيت المحارب.. سلاماً سلاماً!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©