الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الأساطير تعود بها إلى زمن البدء.. علامة على سحر الشرق وغموضه

الأساطير تعود بها إلى زمن البدء.. علامة على سحر الشرق وغموضه
19 ديسمبر 2019 01:50

الفاهم محمد

يقول المثل: ثلاثة مظاهر تذهب الحزن عن المرء: القمر في ليلة البدر، والماء الجاري، وسعف النخل حين يعانق السماء. يصعب حصر الدلالات الرمزية للنخيل، فهذه الشجرة تتميز بالصبر والكبرياء والكرم، تمتد سامقة نحو الأعالي، كما لو أنها تربط بين السماء والأرض. لقد استطاعت أن تعبر كل العصور محافظة على قيمتها ومكانتها الاعتبارية حتى وقتنا الراهن. يعود أصلها لآلاف السنين إلى منطقة بلاد الرافدين وكذلك إلى شبه الجزيرة العربية. والبعض يرى أن أصلها يحتمل أن يعود تحديدا إلى جزيرة صغيرة توجد بالبحرين اسمها حاراقان. يقال أيضا إن تاريخ النحيل يعود لحوالي ثمانين مليون سنة قبل الميلاد. بل إن الأساطير تعود بها إلى زمن البدء، عندما نزل آدم عليه السلام إلى الأرض. ويقال أيضا إن آدم عندما رأى ثمارها سماها ديت مور أي «أصابع النور». وهكذا تضرب هذه الشجرة في الجذور الأسطورية للوجود البشري.
أصالتها هذه تشهد عليها النقوش التي عثر عليها ببلاد الرافدين ومصر والشرق الأوسط، وفي الحضارة الفينيقية والإغريقية، حيث كانت ترمز للقوة الإلهية وللرخاء وخصوبة الطبيعة. كما رمزت أيضا للسلطة والجلال الملكي. في مصر زمن الفراعنة اتخذ النخل طابعا مقدسا، فالثمر واحد من الأطعمة الأساسية التي ينبغي أن ترافق الميت إلى العالم الآخر. وعلى العموم يمكن القول بأن قدرة هذه الشجرة على الصمود والتأقلم مع قساوة المناخ الصحراوي، جعلتها ترمز بشمل عام إلى الحياة والرغبة في البقاء. يقول البدو إن النخيل يعيش ضاربا بقدميه في الماء ورأسه في السماء.

صمام الحياة
يوجد حوالي 2500 نوع من النحيل حول العالم، تنتشر عبر القارات الخمس وخصوصا في المناطق الجافة. في تونس والجزائر يوجد حوالي 300 نوع وفي المغرب 150 وفي العربية السعودية أزيد من 28 مليون نخلة. أما في الإمارات فيوجد أكثر من 72 نوعاً من أجود الأنواع، بينما يفوق عددها 40 مليون نخلة وهذا ما يجعلها الدولة الأولى في العالم، ففي أبوظبي لوحدها عدد الأشجار يزيد على 33 مليون شجرة مما أهل هذه المدينة لتصبح عاصمة النخيل في العالم. وبسبب هذه الأرقام الفلكية دخلت الإمارات موسوعة غينيس للأرقام القياسية. ويعتبر النخيل بصفة عامة في الخليج العربي ثروة وطنية ومكونا أساسيا من مكونات الهوية الحضارية، كما يحتل الإنتاج من التمر مكانة اقتصادية مهمة. ويقدر عدد أشجار النخيل حول العالم بمائة مليون نخلة. يقال بأن العرب لعبوا دورا كبيرا في هذا الانتشار، لأنهم قديما كانوا يحملونه معهم في سفرهم وترحالهم كزاد أساسي، ويزرعونه في كل مكان يصلون إليه.
تنتشر شجرة النخيل اليوم في العديد من البلدان مثل العربية السعودية، والإمارات ودول المغرب العربي، وبعض الدول الإفريقية، أما الموطن الجديد لها فهو الولايات المتحدة الأميركية، وبالضبط في ولاية أريزونا حيث تم استحداث أول مزرعة سنة 1912 وهي تضم أجود الأنواع كما أنها تحقق نتائج باهرة نظرا لعنايتهم الفائقة بها.
والنخلة المثمرة يبلغ طولها ما بين 15 إلى 30 متر أما أوراقها المسماة بالسعف فتصل إلى ما بين 4 إلى 7 أمتار. ويصنف النخيل إلى ذكر وأنثى، وهو يلقح بوساطة الريح، رغم أن الإنسان يمكنه التدخل لمساعدة النخلة على التسريع في عملية التلقيح.
عندما تلوح أشجار النخيل للمسافر في الصحاري الشاسعة، فهذا دليل على وجود الماء، لذلك فهي علامة على القوة والمقاومة واستمرارية الحياة، وربما هذا هو ما يجعلنا ننجذب إلى هذه الشجرة المضيئة، لأنها تجسد بشكل مادي التجربة الإنسانية في العيش. كما تعتبر واحات النخيل ملاذا آمنا يقي الإنسان من حر الصيف ضمن ما يعرف خليجيا بظاهرة القيظ، والمقياظ هو الرجل الذي ترك المدينة، واتجه قاصدا الواحات والقرى حيث يكثر النخيل والهواء العليل.
وبالفعل للنخيل خصائص طبيعية غريبة، فهي شجرة غير عادية. على سبيل المثال عند قطع لحائها فهي سرعان ما تلتئم وتستعيد عافيتها. كما أنها عكس أغلب الأشجار لا تتساقط أوراقها بل تستمر في النمو على طول السنة ويذكر أن النخل يختلف عن باقي أنواع الأشجار فهو يظل حيا حتى وإن غمرت المياه جذوره.
كما أن أوراقها على خلاف أغلب الأشجار لا تتساقط على الأرض. ثم إنها لا تحب العزلة لأنها لا تنمو وحيدة متفردة، بل هي مثل الإنسان كائن اجتماعي تحب أن تعيش إلى جانب أخواتها.
وإذا زرع النخيل في المناخات الرطبة فهو يتضرر كثيرا ويكون معرضا للموت. وحتى في حال نجاحه فهو لا يعطي ثمارا وإذا أعطاها فهي تكون ضعيفة وهزيلة. ويدخل منتوج النخل في عدة صناعات مثل دبس التمر، أي عسل التمر وأنواع من المربى والخل وزيت النخيل الذي يتم الحصول عليه من لب التمرة، كما تدخل في العديد من الصناعات الغذائية والدوائية ويدخل خشبها في صناعة الأثاث وأعمدة الدعامات وغيره. وكذلك الحبال والقفة أو ما يسمى في الإمارات بالجفير. كما يستخدم خشبها الذي يعتبر من أجود الأخشاب في صناعة الأثاث وغيره. وهكذا لا شيء يضيع من النخلة بل كل شيء يتم استعماله. ويعتبر التمر أحد أهم العناصر التي تضمن الأمن الغذائي في المجتمعات التقليدية الشرق الأوسطية خصوصا في بيئة صحراوية قاسية معرضة لقلة التساقطات. أما في بعض الدول الإفريقية وإضافة إلى الاستعمالات السابقة فهي تتخذ بمثابة يومية سنوية طبيعية ما دام أنها كل شهر تنمو لها ورقة جديدة على طول الجذع.
لكل هذه الاعتبارات أوليت النخلة الكثير من العناية والاهتمام، فقديما نجد في شرائع حمورابي قوانيناً تنص على عقوبات لكل من اعتدى على نخلة واقتلعها من مكانها. وبملف عربي مشترك تحت قيادة الإمارات اعتمدت اللجنة الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لليونيسكو ما بين 9 و14 من الشهر الجاري إدراج النخيل ضمن التراث الإنساني الذي ينبغي صونه والحفاظ عليه.

شجرة مقدسة
في أراضي الحجاز والخليج العربي، تبرز شجرة النخيل كرمز مشحون بالأبعاد الدينية والوجودية للإنسان، هي علامة على سحر الشرق وغموضه. منذ الحضارة الفرعونية، عرف النخل ومنتجاته كأحد أنواع الأشجار التي تدخل في الطقوس الدينية الجنائزية، حيث كان يتم وضعها على التابوت أو على صدور المومياءات، كطعام يغذي الموتى في رحلتهم إلى العالم الآخر. كما استخدم لحائها لتنظيف الأحشاء أثناء التحنيط. أما في المسيحية فينظر إلى المؤمن كما لو أنه يشبه نخلة في الصحراء رأسه مرفوع نحو السماء، وإيمانه ثابت لأن قلبه مثل قلب النخيل يتغذى من الداخل. إن الجذع قاس وصلب لكن القلب لين ورقيق قلب النخل يمكن أن يأكل وهو بذلك يستطيع أن يتكيف مع كل الظروف القاسية ساعيا لإشاعة الخير على الجميع. وقد استعملت سعف النخل لاستقبال المسيح وهو ذاهب إلى الصليب. كما استعمل كذلك لاستقبال النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، حين دخوله المدينة. لذلك فالنخل هو علامة القديسين والشهداء ورمزا لانتصار الخير والفصيلة.
نفس الدلالات تحضر في السياق الإسلامي، يقول ابن عربي في كتابه شجرة الكون ص 41: «إني نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كله شجرة»، هذه النبتة الطيبة أو شجرة الحياة أخت آدم حسب بعض التوصيفات، نحن نأكل ثمارها ونستظل بظلالها ونستعمل سعفها. وقد ذكرت في جل الكتب السماوية وفي القرآن بالخصوص مرارا وتكرارا، حيث يظهر النخل كشجر إلهي نزل كهدية سماوية، قادمة من الجنة كي تمنح الحياة للأرض. يقول تعالى: «فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون» سورة المؤمنون 19.
لكل هذه الأسباب فقوتها الرمزية ما تزال إلى يومنا هذا حاضرة في ثقافتنا المعاصرة. فهي تستخدم في بعض الأيقونات المسيحية كصفة للشهداء. كما تقدم كجائزة سينمائية: السعفة الذهبية. وتوضع كنقش فوق بعض العملات. كما تستعمل رمزية سعفها للدلالة على الجانب الأكاديمي والمكانة العلمية. هكذا ومنذ قديم الزمان لا تتوقف الدلالة الرمزية للنخيل على الجانب التزويقي فقط، بل هي دلالات مكثفة تحيل على الانتصار على الموت، والشرف والمجد وعلى معاني ودلالات دينية أخرى. لقد أكد العديد من الفلاسفة على الوظيفة الرمزية للفكر والثقافة الإنسانية أبروهم إرنست كاسيرر الذي يرى أن الرمز هو طريقة غير لفظية تسمح للذهن البشري بالاستمرار في فهم العالم الذي يعيشه وإضفاء المعنى عليه.
في البدء كانت النخلة، شجرة يعتمد عليها قديما في الحجاز والخليج العربي كنشاط زراعي أساسي يضمن استمرارية الحياة. واليوم مع التقدم الصناعي والنهضة الحضارية، أضحت رمزا اجتماعيا وتقليدا تم توارثه منذ الأجداد، لكنها في كل الأحوال ما تزال تحظى بالكثير من القيمة، بحيث يستحيل الاستغناء عنها ما دام أن أي مشروع للتنموية المستدامة، لا يمكنه أن يتجاهل التنمية الريفية. لهذا السبب فالنخيل ليس فقط عنصرا أساسيا في توازن الأنظمة البيئية للواحات الصحراوية، بل هو رمز للهوية التراثية وعلامة على التنمية المستدامة التي توازن بين ما هو صناعي وما هو فلاحي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©