الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

في الأدب والسينما بالإمارات.. الباسقات

في الأدب والسينما بالإمارات.. الباسقات
19 ديسمبر 2019 01:50

ابراهيم الملا

تصدّر «النخلة» سحرها وتجليّاتها في الموروث الشعبي وفي الذاكرة الجمعية لأهل الإمارات، باعتبارها الشجرة المانحة، والسخيّة التي لا يكاد يخلو بيت منها، ولا تكاد تنمحي صورتها من مشهدية الصحبة والاستئناس والحميمية الدافئة بين أهل الدار وبين سيّدة الأشجار، والضيفة المباركة المقيمة في هذا الدار، إنها أيضاً المشهدية الفارضة لحضورها، والتي انعكست دون شك على المخيلة الإبداعية للكتاب والشعراء والسينمائيين الإماراتيين، فحوّلوا النخلة إلى أمثولة سردية وبصرية مبثوثة داخل النص الشعري والقصصي والروائي، وهي أمثولة ساطعة كذلك بدلالاتها الجمالية وحمولاتها الرمزية في الصورة السينمائية وفي الكادر التعبيري للأفلام التي نفّذها المخرجون المحليون، خصوصاً أن النخلة في الإمارات ظلت وما زالت بنت المكان، وروحه، ومبعثه الأليف، وفردوسه الأخضر الماتع والمزدان بالتفاصيل المرهفة، والتي صنعت مع ساكن هذه الأرض حكايات شفهية ومدونات عميقة ومتشعبة مثل جذور النخلة، ومتألقة وسامقة مثل جذوعها.
إن الارتباط العضوي بين الشعراء وكتاب القصة والرواية وصنّاع الأفلام في الإمارات وبين النخلة، هو ارتباط ذو منشأ طفولي وبيئي، تكتمل فيه الأواصر العاطفية بين جاذبية الوجد وبين الذات الواعية والذهنية المتّقدة للمبدع، ضمن متواليات النوستالجيا التي لا تنفكّ عن استدعاء ظلالها الروحية ونسائمها التراثية، عند أول استجابة لطارق الحنين، وهو يدقّ أبواب القلب، وينقر نوافذ الذاكرة.
ويؤكد الدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس هيئة الشارقة للتراث، ارتباط صورة النخلة بالنسق الجمالي والسردي والأسطوري عند المبدعين الإماراتيين في مجالات الأدب والسينما، عندما أشار لنا إلى أن النخلة كانت هي عمود الحياة، بالنسبة للمحيط العام وبالنسبة لطرائق العيش في مناطق الإمارات المختلفة، حتى فترة قريبة، قبل التحولات الكبيرة التي طرأت على النسق الاجتماعي والعمراني، والتي أخذت معها صورة النخلة في مهبّها العاصف والعنيف، ولذلك فإن ارتباط المبدعين المحليين بالنخلة وبحضورها الافتراضي والمجسّد هو ارتباط يسعى لحماية هذه الصورة من التلاشي والاندثار، وبالتالي يمارس المبدعون نوعاً راقياً من التوثيق والالتزام السردي والتعبيري تجاه النخلة، من خلال استحضارها والاحتفاء بها في أعمالهم الأدبية وأفلامهم السينمائية.
ويوضح المسلّم أن حضور النخلة عند الكتّاب وصناع الأفلام يأخذ أحياناً المنحى الميثولوجي المستند إلى «الخراريف الشعبية» التي توارثتها الأجيال من خلال الحكايات المتناقلة، سواء الشفهي منها على لسان الرواة، أو الحكايات المدونة في المخطوطات والكتب القديمة، مثل خرّوفة: «أم كربة وليفة» التي يرويها الكبار على مسامع أطفالهم لمنعهم من الخروج ليلاً، لأنها خرّوفة تتحدث عن جنيّة تتمثل على شكل نخلة مخيفة، وأحياناً تسمى الشخصية المخيفة في الرواية الشعبية: «أبو كربة وليفة» لأن النخل الفحل يثير خوفاً أكبر في نفوس الصغار، والكرب والليف هي من الأسماء المحلية الكثيرة التي تصف أجزاء من جسد النخلة، والتي يتم استثمارها في المهن والحرف والمشغولات والمنتجات الشعبية المتنوعة.
ومن الخراريف الأخرى التي تم التعامل معها في النصوص السردية وفي الأفلام السينمائية المحلية، خرّوفة: «سويدة خصف» التي تمثّل التمر الموجود في خصافة النخل، أو في سلّة الخوص.
إضافة لما قدمته الأمثال والكنايات والشعر الشعبي من إسهامات في الوجدان الجمعي لتأكيد حضور النخلة وأهميتها في المجتمع الإماراتي قبل ظهور النفط، وبعده أيضاً، وإن كان بدرجة أقل، ولكنه حضور مشفوع بحنين الشعراء والأدباء لظلال النخلة وعطاياها وكرمها المضاعف في محيط الأصدقاء والأسرة والعائلة الممتدة، وفي المزاج الشخصي للمبدعين أيضاً، وكانت الفتاة تسمى في اللهجة الشعبية:«صرمة» إذا كانت دميمة ولا تصلح للزواج لأنها تشبه النخلة القصيرة وغير المثمرة، أما إذا سميت:«بكسة» ففي ذلك دلالة على نضجها وجمالها وأنوثتها، لأنها تشبه النخلة المتوسطة الطول والمثمرة، والمرأة «العوّانة» هي شبيهة النخلة الطويلة والسامقة التي يصعب الوصول لثمارها وهي كناية عن المرأة صعبة المنال، أو التي لا تصلح للزواج.
وفي الأشعار المحلية المجهولة النسب ترد المقولة التالية:

«يوم الزرايب بَكْسٍ وقور وشلي أنا العوّانة راقيه»

أي أنه مع وجود الفتيات الصغار لا ضرورة للانشغال بمن هي أكبر سناً منهن، فالبكس والقور هي أسماء شعبية للنخيل في طور النمو، والعوّانة هي النخلة الباسقة الطول التي لا رجاء من الوصول لثمارها.

القيمة المعنوية
تمثّل النخلة الغذاء والدواء والسكن لأهل الإمارات قديماً، كما أن أرخص وسائل النقل البحري، أو ما يسمى «بالشاشة» في اللهجة المحلية كانت تُصنع بشكل كامل من أجزاء النخلة، وأهم هذه الأجزاء: «جريد النخل» الذي يشكل هيكل القارب الخارجي، و«كرب» النخل الذي يشكل الإطار الداخلي، وتمثل «الشاشة» القارب البدائي التي اتخذه سكان السواحل في الإمارات وسيلة للصيد والتنقل في المياه الهادئة والأخوار الضيقة، حيث تم توثيق «الشاشة» في عدد من البرامج التلفزيونية والأفلام التسجيلية والروائية التي تصدى لها المخرجون السينمائيون المحليون.
وكانت أماكن الاصطياف في الإمارات قديماً تسمى «نخل»، الأمر الذي يؤكد القيمة المعنوية لهذه الشجرة، باعتبارها رمزاً للأمان والاستقرار والراحة النفسية، كما أن المزرعة رغم احتوائها على أصناف متعددة من الأشجار والنباتات، فإنها تسمى: «نخل» أيضاً، ما يجعلها الشجرة المهيمنة والفارضة لحضورها وسطوتها على الوعي الجمعي الشعبي مقارنة بغيرها، وهناك مجموعة قصصية للكاتب والأديب الإماراتي عبدالحميد أحمد حملت عنوان: «البيدار» والتي تعني في اللهجة المحلية المزارع المهتم بنباتات وأشجار البساتين الخاصة، وعلى رأس هذه الأشجار تأتي النخلة التي يوليها البيدار بالغ اهتمامه، من خلال سقايتها والعناية بها وتسلقها وجني ثمارها المتنوعة، حسب نوعية النخلة ومصدرها وطبيعتها.
وفي صيغة حوارية ماتعة ومثقلة بالوجع والتمنّي في العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، كتب شيخ الرواية الإماراتية علي أبو الريش نصاً بديعاً حمل عنوان: «النخلة والنار، والشوق العتيق.. بنت التراب أم الإنسان» يقول فيها: «في البدء كانت النخلة وفي البدء كان الإنسان، ضمن علاقة وجودية وقاسم مشترك، وحد الدم في الشريان مع الماء في العروق، ومن يستدعي التاريخ، ويستدرج التفاصيل، يرى ما بين السطور، لا شعور جمعي، يتحرك بعنفوان الصحراء، ويفوع النخلة، وبريق العيون التي تشظت جراء اللهيب، ونتوءات الأقدام الحافية التي تلظت بأسنان التراب المحتسى حتى النشوة من عرق الذين اختطفوا الزمن».
مضيفاً: «يا سيدي، هذه السعفة التي تسأل عنها، هي خصلة النجابة التي كانت تلوح بها النخلة منادية “البيدار” ليخطف “حابوله” ويمتطي جذعها العتيد، وعند شوائب الرأس، كان يستقر العذق الملون، بمسحة الانعتاق، من جوع وشظف، متدلياً بعناقيد الفرح، ساعة يمارس البلوغ سطوة الاستيلاء على بهجة اللقاء.. في هذه الساعة، تختلي يدا “البيدار” بحبات العذق، وثالثهما الصوت الرقيق مصدحاً:«القيظ ما طوّل زمانه.. شهرين والغالي مشوبه»، حيث بعد رطب القيظ تأتي ثمرة الشتاء، المخزنة في وجدان المساطيح تحملها الأيادي الناعمة إلى حيث مضارب الخيام».
مختتماً الحوارية بتساؤل مرّ: «كيف يمكننا أن نذهب بالصحراء بعيداً، وكيف باستطاعتنا أن نختزل البحر، ونطفئ النار ونهجر النخلة.. يصمت قليلاً، ثم يبدأ في ترديد كلمة النخلة.. نخلة.. نخلة، ثم يلتف ناحيتي قائلاً: هل تعرف أن سفن الماء وسفن الصحراء، كانت تتحمل عبء العناق، ما بين النخلة والإنسان، فمن ليف النخلة، وكربها وجذعها، وسعفها، وعسوها، وجريدها، تشيد خيام الدفء وعريش البرودة، وبساط الطعام ومكبته، ومهفته، كل ذلك كانت النخلة تجدله من جسدها، لحفظ ود الوجود مع الإنسان».
يذكر أبو الريش في هذه الحوارية التفاصيل المشبعة برائحة النخيل، غائصاً في خباياها المنسية، ومشيّداً معماراً أدبياً مرهفاً وحادّاً أيضاً من ذاكرته اللصيقة بالماضي، معتبراً النخلة رمزاً للوجود الشخصي والعام، وكائناً حيّاً له مشاعره ونشواته وانكساراته في زمن يصعد لاهثاً نحو الانفصال عن الجذور، وارتكاب النكران والتخلّي عن أمّنا:«النخلة»، وهجرها، رغم كل ما بذلته يدها المباركة، ورغم كل ما قدمته من خير وعرفان، ورغم كل تضحياتها لهذا الإنسان الظلوم الجهول، إن النقد والاحتجاج ضد التحولات الإنسانية السلبية التي يعرضها أبو الريش في هذا النص المؤلم، لم تنفصل عن صيغ احتجاجية أخرى قدمها شعراء وقصاصون وروائيون وسينمائيون إماراتيون، إزاء تشويش الهوية، وغلبة التمظهر الزائف، والتخلّي عن الجذور الاجتماعية القائمة على البساطة والعفوية والفطرة السوية والعلاقات الإيجابية، في إطار التعايش والتسامح والمحبة الذي جمع أهل الإمارات ووضعهم ضمن نسيج متناسق ومشترك، وهو الإطار الذي تمثله النخلة بامتياز واستحقاق كامل، إن العودة إلى الأصل النقي والبراءة المحتشدة في طفولة الماضي تمثل هجاءٍ لاذعاً للمدينة، ومثالاً للنزاع بين التقاليد وبين التحديث في ممارساته المصطنعة والشكلية والمؤقتة.
ففي نص قصصي للأديبة الإماراتية الراحلة مريم جمعة فرج، يرد الحوار التالي بين فتاة وجدّتها: «وضعت جدتي يدها في صفيحة التمر وملأتها به وهرسته. راقبي النخلة - قالت لي. لماذا؟ قلت. قالت: عندما تموت النخلة نعرف كل شيء».
يرقى هذا الحوار إلى مستوى التنبؤ المقلق بمصير الهوية الاجتماعية، التي تمثلها النخلة برمزية تشير وبقوة إلى الهوية والانتماء للأرض، ففي مقابل حركة الهرس والطحن التي تمارسه الجدّة في صفيحة التمر، تصبح النخلة بعد موتها هي المقابل الموضوعي لطحن الإنسان ومحو فردانيته وحريته، وسط رياح التغيرات الخارجية الهائلة والمخيفة، حاضراً ومستقبلاً.

كينونة الشجرة
ولعل في عنوان المجموعة القصصية للكاتب ناصر الظاهري، وهو: «عندما تدفن النخيل» ما يشي أيضاً بهذا المصير الداكن للحضور الإنساني المرتبط روحياً وعضوياً بالنخلة، فلا توجد فواصل أو حواجز هنا بين كينونة الشجرة وبين كينونة البشر المنتمين لها، والنازحين بشوقهم دوماً إليها.
وفي قصة بعنوان «ساعة وأعود» للكاتبة سلمى مطر سيف، يتشكل هذا الدفق الوجداني المتآلف بين النخلة والفتاة الحبيسة في منزل أبيها، والذي يرفض خروجها واكتشافها للعالم الخارجي ولو لمرة واحدة، وبالتالي تتحول النخلة إلى الصديقة الوحيدة لها، تحاورها، وترسم على جذعها أحلامها الطائرة، وخلاصها المحلّق في فضاء متمرد على الكبت والحصر والاستلاب.
وفي السينما الإماراتية قدم الكاتب والمخرج ناصر الظاهري فيلماً تسجيلياً طويلاً بعنوان: «في سيرة الماء والنخل والأهل» وتصدرت النخيل في الفيلم كامل المشهد المرتبط بعلاقة هذه الشجرة الأثيرة بالأرض والإنسان وبالذاكرة والتاريخ وبالوطن والاشتياق للأيام البعيدة.
وقدم مخرجون سينمائيون إماراتيون آخرون كمسعود أمر الله، ونجوم الغانم، ووليد الشحي، وهاني الشيباني، وجمعة السهلي، وسعيد سالمين، وعبدالله حسن أحمد، وغيرهم ملامح تراثية وتكوينات جمالية تتصل بالحضور الساحر والمدهش للنخلة ضمن بيئة التصوير العامة في أفلامهم القصيرة والطويلة والوثائقية، وهو حضور يعزز منهجية:«استحضار القيمة الثابتة في أفق متحرك»، ويؤكد قدرة السينما على توظيف «الموتيفات» الشعبية والمكونات البيئية لإظهار صورة الذات المنعكسة على الشاشة، إنها القيمة المضافة التي تستقي لون وبهاء ورائحة النخلة، فيما يمكن أن يختصر المسافة بين الذاكرة والمستقبل بمعالجة مكثفة وخاطفة، ومن غير شروحات فائضة أو استرسال زائد على حاجة الحكاية والحبكة في ثنايا الفيلم، إنها الشجرة التي تقول بصمتها كل ما يقصر الكلام عن وصفه، وكل ما تعجز الصورة عن توليفه.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©