الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محاولة لجلاء الغموض

محاولة لجلاء الغموض
3 نوفمبر 2010 21:17
في بداية حياتها العلمية أعدت د. سهير القلماوي رسالتها للماجستير حول “أدب الخوارج في العصر الأموي” وأشرف عليها د. طه حسين ونوقشت في الجامعة يوم 11 مارس 1937 من لجنة ضمت كلاً من احمد أمين والمستشرق المعروف ليتمان وصدرت منها طبعة محدودة عام 1945 ولم تطبع ثانية حتى أعادت الهيئة المصرية للكتاب طباعتها هذا العام 2010. وقدمت الباحثة سهير القلماوي لرسالتها بكلمات قليلة، مليئة بالتواضع العلمي وبالثقة معاً “قد يبدو أننا في درسنا لأدب الخوارج أغفلنا اشياء ما كان يجب أن نغفلها وأطلنا حيث كان يمكن أن نختصر...” وتضيف د. سهير “لم نتعرض مثلاً للكلام عن مذهب الخوارج من الناحية الفقهية، ولكن ذلك يرجع الى أننا نريد أن ندرس أدبهم أولاً وقبل كل شيء، وفهم هذا الأدب الخارجي”. وتقع الدراسة في قسمين الأول تاريخي والثاني أدبي، في التاريخي ركزت بشدة على نشأة الخوارج وهنا تبدو واضحة واقعة التحكيم، فقد كانت السبب المباشر لقيامهم، وهي لم تتعرض لمسيرة الخوارج فيما بعد على أنهم “من الأحزاب السياسية التي لم تتغير في شخصيتها طوال العصر الأموي” ومن ثم فالتركيز على سيرتهم قد يبدو تكراراً للحوادث، فالمهم هو لحظة النشأة والميلاد، فهي اللحظة الأشد غموضاً في تاريخهم وسيرتهم وفي هذا الجانب تبدو الباحثة على دراية واسعة بالعلوم الاسلامية، مثل علم الجرح والتعديل في الحديث النبوي، حيث تتعامل بعمق شديد مع الأحاديث المنسوبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حول نشأة الخوارج والفرق الاسلامية وقد قامت بالبحث في كتب السير والتفاسير والطبقات، وما ذهب إليه البعض من أن الرسول تنبأ بظهور الخوارج وقيامهم، حين تحدث عن أن هناك قوماً سوف يظهرون، سيكون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم. وفي دراسة تاريخ الخوارج لا يتوقف الباحث والمؤرخ كثيراً عند هذه النبوءة وهي ترى في الحديث النبوي أنه يدل على بعُد نظر وصدق وأن هناك اسباباً عديدة للتمرد على الإمام علي بن أبي طالب والخروج عليه. وخضع أدب الخوارج تحديداً لدراسات من النواحي الادبية والدينية فقد امتاز شعراء الخوارج بفصاحة اللفظ وقوة الأسلوب، واشتهروا بذلك حتى في عصرهم وزمانهم، ويقول عنهم ابن زياد “كلام هؤلاء اسرع الى قلوب الناس من النار الى الهشيم” وقال عبدالملك بن مروان عن احد الخوارج حين بسط أمامه مذهبه “لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم وإني أولى بالجهاد منهم؟ وقد أمر عبدالملك بسجنه وقال له “لولا أن تفسد بألفاظك اكثر رعيتي ما حبستك”. ويندر أن نجد بين قادة الخوارج من ليس خطيباً مفوهاً قوي الحجة، قوي الإيمان مثل ابي بلال مرداس وعبدالله بن دهب ونافع بن الأزرق وقطري وشبيب وأبي حمزة فكل منهم له خطابة وشهرة في عالم الفصاحة وقبيلة مثل “شيبان” عرفت بكثرة خطبائها وفصاحتها خرجت كلها مرات مع الخوارج، وعموماً عرفت الخوارج بكثرة أدبائهم وشعرائهم وهناك شعر لأحد محاربيهم ورد في كتاب “البيان التبيين” للجاحظ يقول فيه: فترى صريعاً والرماح تنوشه ان الشراة قصيرة الاعمار وكان شعور الخوارج الديني والقراء المتدينون منهم خاصة واضح الاثر في أشعارهم وأدبهم، فاصطبغ ادبهم بصبغة الإيمان العميق والعقيدة القوية، ولم يكن شعورهم الديني شعور المتفلسفين أو المفكرين بل شعور الاعراب الذين لم يدرسوا أو يبحثوا بل آمنوا بتعصب واندفاع، لأن التعصب والاندفاع جزء من تكوينهم وطبيعتهم، ولذا خلا ادبهم من الجدال أو الدفاع بالحجج والبراهين ولكنه امتلأ بالواقع الديني القوي، ورغم أن بعض العلوم وصلت الى العرب في العصر الأموي لكنها لم تصل إليهم أو لم يأخذوا بها، وظلوا على فطرتهم، متمسكين بإيمانهم لا يسعون الى تقديم حجج أو براهين، مثل قول عمران في مدح ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: يا ضربة من شقي ما اراد بها الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا وامتاز الخوارج في شعورهم الديني بشيء انفردوا به عن أهل عصرهم وهو التفافهم حول مبادئ لا حول شخص. فقد جاء في كلامهم لابن جناب قبل أن يقتلوه قولهم له: “إنك لست تتبع الهدى وأنا لا نوالي الرجال على أسمائها”، هذا الشعور بأنهم رجال المبادىء لا الاشخاص، جعل لأدبهم شخصية سياسية قوية. وثابتة على المبدأ السياسي فلم يسمع عن شعرائهم انهم غيروا مذهبهم أو أنهم مدحوا الخلفاء الأمويين اجتناباً لخطرهم أو طلباً لرغدهم كما فعل الكميت وعبيد الله بن قيس من شعراء السياسة في عصرهم. وكان عبدالملك قد أهدر دم عمران فتحمل المطاردة على ان يدخل على الخليفة مادحاً مستأمناً أو أن يستجير بأحد من بيت الخلافة، وكانت الخوارج فئة مضطهدة مكروهة، وموضعاً لصب اللعنات عليهم ورفضهم وتم تأويل الاحاديث النبوية وربما وضعها بخاصة عن الشيعة لتكفيرهم ومن ذلك القول “إن للنار سبعة أبواب وأن أشدها سعيراً لباب الخوارج” ومع ذلك لم يترك الاضطهاد العنيف لهم في شعرهم أثره المباشر، لم يترك أنيناً وشكوى وعويلاً وبكاء وإنما ترك قوة صامدة لهذا العذاب، وانصرف الخوارج في ادبهم عن الأنين الى طلب الثواب وتحقير أمر الدنيا. المشكلة في أدب الخوارج أن معظمه تبدد، ولم يبق للدارسين منه الكثير، مثل أبي حمزة حيث إن ما حفظ من خطبه قليل جداً لا يتجاوز اثنتين أو ثلاثاً، ومن الأدباء الخوارج المجهولين الرهين المرادي فما بقي من شعره لا يتعدى بضعة أبيات ذكرها المبرد في الكامل ومن شعرائهم ابو بلال مرداس الذي بقي من شعره أبيات لا تزيد على العشرة، وكذلك نافع بن الازرق وكان خطيباً وكاتب رسائل. وتوقفت د. سهير القلماوي بالدرس المفصل امام قطري بن الفجاءة المازني وعمران بن حطان وربما يكون الطرماح بن حكيم الطائي هو الشاعر الذي بقي معظم شعره وإن انقرضت معظم خطبه، لذا حظي الطرماح بنصيب كبير في الدراسة التي بين أيدينا. وتنتهي الدراسة بفصل حول الشعر السياسي في العصر الاموي، وتناولت مدارس أو احزابا أربعة، الاول هو حزب الدولة والذي انطلق فيه الشعراء يمدحون الخلفاء ويغدقون عليهم الثناء، وتبدو صورة الخليفة الأموي في بعض القصائد مثل صورة “سيد القبيلة في الشعر الجاهلي” ثم حزب الزبير بن العوام، وهو لم يعمر طويلا، والثالث هم شعراء الشيعة وأخيراً شعراء الخوارج. أنجزت د. سهير القلماوي هذه الدراسة قبل 73 عاما ولا تزال تحمل بصمات الجدة والعمق وتنتظر من يواصل هذا الباب من البحث والدراسة لشعراء وأدباء المذاهب والنحل الإسلامية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©