الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رجلٌ مكتبة

رجلٌ مكتبة
8 نوفمبر 2018 01:14

المهدي اخريف

«إلى مصطفى الحكيم في غيابه المشع»

مصادفة لقيت مصطفى أمس، هنا على المقعد الحجري القديم العائد إلى عام 1929 حيث أكتب اللحظةَ هذه الأسطر الاسترجاعية قبالة مبنى المكتبة الموشك على الانهيار. بدا لي مصطفى أنحف مما كان، أكثر شحوباً، ربما من أثر الزهد، وأقرب إلى سنه الحقيقية التي طالما موهَّها مظهرُه وضآلة حجمه. لم يكن يحمل كتاباً كعادته، كان يحمل باقة ريحان ذاو. أطلْنا الوقوف هذه المرة أكثر مما اعتدنا في لقاءاتنا الأخيرة. سألني عن خليل الغابر في طنجة، وهو يتنسم العبير المكتوم في وريقات الريحان فاركاً إياها بنعومة كَمَنْ يداعب أُذن طفل. تلقائيا استدرَجَ كلٌّ منّا الآخر إلى «المقهى الأزرق» حيث اتّخذنا جلستنا في نفس موضعنا المفضل، قبالة المشهد البحري نفسه الذي توارى في سراديب الذاكرة بعدما حل محله مشروع ميناء جديد. المراكب المسمّرة على الشاطئ الرطب. بقايا «الأرصفة» الأربعة وهي تصارع بلا فائدة مصيراً حبكته يد بشرية قبل الأوان أم بعد فواته؟

لم نتبادل كلاماً كثيراً، تبادلنا الانصات إلى البحر ونحن بجوار بحّارين قدامى يستعيدون ذكريات بحر الأمس. كنا نحاول إنعاش ذلك التيار من التواطؤ المشترك حول «حيواناتنا» الأليفة المبثوثة كالظلال النشيطة هنا وهناك، وأنا أتابع تحركات الريح ومصطفى يرشف شايه رشفات حادة بتلمّظات مهموسة.
هل كنا نحتفي من دون قصد، بذكرى ثلاثين عاماً ونيّف من صداقة مبتدؤها الكتاب ومنتهاها؟ هل جئنا البحر لنقدم النّذْر الرمزي لرباط معرفي وتواطؤ تخييلي خالص كل الإخلاص للكتب؟!

مصطفى الموظف
هو ذا مبنى المكتبة أمامك رمّمه بعينيك، التهم محتوياته الوشيكةَ التلاشي، نشّطْ من خلال جلستك الطليلة هذه، المدّخَر الغنيّ من ترحالك فيه، استنطق الصّدوع والرفوف الشائخة.
لما التحق مصطفى الحكيم في منتصف الستينات بهذا المبنى لم يكن مر على انتقاله (المبنى) من مقهى صاخب (لعب دور حانة محظوظة من قبل) إلى مكتبة بلدية منظمة غير أشهر معدودة؛ ولم يكن مجموع ما تحتويه من كتب يجاوز خمسة عشر ألف كتاب كانت كافية لتصنع حياة ذهنية منتظمة لفئات متعددة من هواة القراءة، ولتصنع الثقافة العامة لأفراد متميزين من أجيال متباينة.
لم يكد يمضي وقت وجيز حتى أصبح مصطفى ضرورياً للمكتبة، بل لم يعد في مستطاعه هو ولا في مستطاع غيره أن يتخيل للمكتبة وجوداً بدونه. جاءها مدفوعاً بشغف للكتب مكين تكوَّن لديه سنوات قبل ذلك بعمل عصامي، وهو الذي لم يتخط في تعليمه الرسمي المرحلة الابتدائية. هكذا أمضى سنوات عديدة متطوعاً بأجر زهيد قبل أن يصبح موظفاً رسمياً ومرسماً في أسفل السلم الإداري.
لقد تمكَّن، في فترة قصيرة، من وضع عناوين الرفوف في جيبه، أعني في حافظته، بحيث صار بإمكانه وبسهولة تامة تلبية حاجات رواد المكتبة إلى كتب بعينها من دون عودة إلى القوائم المفهرسة للمكتبة. وكان يَجد نشاطاً ومتعة خاصّين في استلال أحد مجلدات «نفح الطيب» من ضجعته المغبرّة في الجهة اليمنى قصد وضعه بين يدي قاض متقاعد مهووس بالماضي العربي في الأندلس. وتراه يُسرع إلى استلال نسخة ثمينة من «عجائب الآثار» للجبرتي (مطبوعة في المطبعة الخديوية بمصر المحروسة عام 1887) كي يتسلى أخوه الأكبر «عبد الكبير» بيوميات الحملة النابوليونية على مصر عصر كل أربعاء، وهو وحده الذي كان على معرفة بموقع كتاب: «البحث عن الزمن المفقود» أسفل أحد الرفوف الخلفية لمّا جدّ في طلبه طبيب برتغالي غريب الأطوار اختار أن ينهي سنوات حياته الأخيرة في المدينة بالانكباب على تلك الملحمة البروستية الخارقة في لغتها الأصلية.
ولم يكن التوسّع المطّرد للخريطة المكتبية ليشوّش مهام الذاكرة لديه أو يعقّد من أشغال الوسيط المكتبي فوق العادة، ذلك أنه امتلك دوماً في الجانب الخلفي من ذاكرته عشرات الرفوف الفارغة المترقبة على أحرّ من الجمر احتواء العناوين تلو العناوين. ولقد عرف كيف يدير الأمور اعتماداً على حنكته وفراسته التي كانت تسعفه بنجاح في توجيه القراء انطلاقاً من ملامحهم ومخلفاتها في النفس، مما كان يدفعه إلى إملاء اختيارات كُتُبية معينة مخالفة أحيانا كثيرة لرغبات وطلبات القراء خاصة إذا كانت تلك الطلبات منصبّة على الصنف الرومانطيقي «البليد» – حسب تعبيره – من الأدب. وهكذا اعتاد أن يقترح في مثل هذه الأحوال روايات شيقة من نمط الخيال العلمي أو البوليسي.

مصطفى الحالم
لقد ظلَّ مصطفى، طوال سنوات السبعينيات وبداية الثمانينات شغوفاً تماماً بمهمته، باستثناء لحظات فتور متباعدة. كانت حالات من الانشراح الخاص تعتريه عندما يمر بأشخاص منهمكين في القراءة أو مستغرقين فرادى في تأمل الأشياء من حولهم صاقلين بذلك كينوناتهم الفردية المستقلة التي لا غنى عنها لحياة جماعية راقية. وكان مؤمناً بقدرة الكتب على تغيير الناس، وبمشروعية الحلم بمدينة فاضلة تحكمها الكتب: كتبٌ تعاش وتُستعاد وتُتخيل. كتُبٌ تحرِّر وتشحذ الذكاء. وقد ظلَّ لفترة معينة يعتقد بإمكانية التحقيق الجزئي لهذا الحلم في هذه المدينة حيث نعيش معاً. كان في لحظات جموح طوباوي متطرفة يراها ماثلة، أحياناً، في جزيرته الصغيرة في مركبته المكتبية هذه التي كان هو رُبَّانَها بلا جدال، بقاعتيها العاليتين العاريتين حينما تكتظُّ بالقارئات والقراء ويسودها ذلك الجو الذي يبتهج له مصطفى من الأعماق، جو الهدوء الذي يجعل من طنين ذبابة شبيهاً بصفير في حمَّام.
بيد أنه كان واعياً في دخيلته بحقيقة الأشياء من حوله وهو يميل إلى خلع حلمه البعيد المنال على واقع مفتعل وطارئ؛ ذلك أن الإقبال الحاشد على المكتبة لم يكن غير سحاب عابر تُمليه العطل المدرسية القصيرة وفترات الامتحانات بما تستلزمه من تحضيرات تغري الطلبة باللجوء إلى جو المكتبة «الاجتماعي» المريح حيث يتفرغون لكراريسهم ومحاضراتهم من دون أن يغفلوا «شحن» الأجواء باللغط والضحك الخفيض والعالي، واضعين كتب المعرفة العامة التي طلبوها للقراءة فوق الطاولات لمجرد التمويه ليس غير.
وبإمكانك إن شئتَ الوقوف على الواقع الحقيقي للمكتبة عبر زيارتها في الأيام العادية. ستجد مصطفى يترقب ظهور القراء بأي ثمن حتى يخفف عن هذه القلة القليلة من القراء المداومين مناخ الوحشة الثقيل المخيّم على طقس القراءة البارد. وبإمكانك حينئذ أن تستطلع الوجوه الحاضرة هنا وهناك، وجوه خمسة أو ستة أوفياء مخلصين، وهم مستسلمون لقراءاتهم الخاصة: طالب الآداب القديم منهك في «أسرار البلاغة»، مدرّس الاجتماعيات اللبناني الأصل في «تاريخ الملوك». الموظفة الأرملة في روايات نجيب محفوظ، رجل القوات المساعدة وهو يعاود قراءة روايات «أغاثا كريستي» وبجانبه موظف البريد يتسلى بوضع الكلمات المتقاطعة. وأمامه نسخة من «دع القلق وأبدأ الحياة».

مصطفى القارئ والحكّاء
لم يتبدّل مصطفى منذ أربعين سنة لم يحد قيد أنملة عن عاداته، بين المقهى الأزرق وبين المكتبة والبيت يعيش أيامه يوماً بيوم. لا يسافر أبداً. أسفاره الوحيدة هي تلك التي يقوم بها كل يوم على متن أشرعة الكتب المفضّلة التي قرأها ويقرأها بتمثّل وشغف ويظل يستعيدها وينفخ فيها روح ذاكرته ومخيلته الوقّادتين.
لقد استطاع عبر عمره القرائي المديد استيعاب الأعمال الكاملة لدوستويفسكي وتورجنيف وفلوبير وبلزاك وهمنجواي وغيرهم استيعاباً كاملا بخرائط أحداثها وشخوصها المتشابكة ومعها مئات الأعمال الروائية البارزة في الأدب الغربي للقرنين التاسع عشر والعشرين: من «غوغول» إلى «إيتماتوف» ومن «فولكنر» إلى «توني موريسون» بالإضافة إلى أعمال نجيب محفوظ كافة. غير أنه ليس مجرد قارئ شغوف بالاستيهامات والاستعادات لما يقرأ من روايات بل هو راوي روايات من طراز خاص، ذلك أن الأعمال الروائية التي يلتهمها في المكتبة والبيت لا تكتمل متعة اللقاء بها إلا بعد إعادة سردها على المقرّبين في المقهى المفضّل كل مساء إذا راق المزاج وأسعف «الطقس» بطريقته المشوِّقة الموهوبة ونبرة صوته الحكيم. أغلب النابهين الذين جالسوه مُدداً طويلة من رواد «المقهى الأزرق» حَظُوا بمتعة تتبع خيط الصراعات الرهيبة بين الأخوة كارمازوف ومغامرات «الشيخ والبحر» بل وحتى بالإبحار في عروض معرفية ضافية عن حضارات الإغريق ومصر وبابل والهند واليابان من خلال «قصة الحضارة» لـ «وول ديورانت» التي لا يزال مصطفى يعود إليها من حين إلى آخر منذ أن تناوبنا معاً على قراءة مجلداتها الأربعة عشر في بداية السبعينات.
وبفضل عادة الحكي الروائي المنتظم هذا نجح مصطفى، من دون قصد منه، في زرع فيروسه القرائي في نفوس عديدة كنت شاهداً على انضمام بعضها إلى تلك الكوكبة المحدودة من المهووسين الولوعين بالكتب لذاتها.

مصطفى الكاتب
وحتى تكتمل الصورة، صورة مصطفى الكتاب (هكذا يدعوه مغيث) لا ينبغي أن ننسى أنه كاتب روائي أيضاً، كاتب روايات ومذكرات منتظمة. منذ الستينات عكف، بمجرد اكتشافه عالم الكتابة، على تدوين «حياته» بأيامها المعيش منها والمحلوم بها، المرضي عنها والمغضوب عليها.. لا أظنه أطلع أحداً عليها بمحض رغبته إلا في حالات «حبوط» نادرة. والظاهر أن بداياته كانت عبارة عن تمرينات مطوّلة في نسخ واستنساخ المقاطع وحتى الفصول المفضلة من روايات معينة، ثم انتقل تلقائيا – بتزامن مع تدوين المعيش – إلى محاكاة عوالم السرد وتحولات الشخوص والمصائر، بوضع خطاطات تجريبية لاختبار قدراته قبل أن تستبدّ به لعبة صنع عوالم روائية من نسج متخيّله الخاص.
والحق أن ما تمكنت من الاطلاع عليه – وهو قليل – تتجاذبه ثلاثة خطوط: 1) خط الإفراط في الوصف التفاصيلي للأشياء والأجواء والوجوه. 2) خط التأريخ السردي مشوّشاً في الغالب، بتأويلات مفعمة سوداوية وفِجّة... 3) خطّ سير- ذاتي هلوسي أحياناً يبرز فيه تأثره بأدبيات الوجودية الفرنسية علماً بأنه رفض دائماً حتى مجرد التفكير في نشر كتاباته تلك.
بقي أن أشير إلى أن هنالك شيئاً ناشزاً في صداقتنا المكتبية المديدة ويتمثل في كون مصطفى لا يقرأ الشعر أبداً. صحيح أنه يقدّر بل يهوى كتاباً محسوبين على الشعر مثل نيتشه وجبران بيد أنه لا يحب الشعراء ولا يبغضهم. لقد أقصاهم ببساطة من خرائط شغفه ممّا أثر بعض التأثير على «حلفنا» القرائي الوطيد وشكّل ما يشبه الحاجز الخفي الغائب دوماً والحاضر دوماً. لكنه لم يمنع تواصل حواراتنا وجولاتنا في ضواحي المدينة وحقولها.
إن حياة مصطفى السهلة الممتنعة لجديرة بأن تغبط لأنه عرف كيف يختار أيسر السبل إلى الوجود الفردي الفعال تاركاً عناء التسابق على سلالم العيش لمن أراد، غير آبه بشيء، فتحرر إلى حد كاف من إرغامات وتنازلات محتملة لا مهرب منها. وحافظ، من ثمَّ، على رأسماله الذي لا يقدّر بثمن: شَغَف المعرفة الحر.
بيت مصطفى. مكتبتُه. مقهاه. جسده أو بالأحرى شبحه. خطاه النحيلة. «طرقه السرية» وشعابه اليومية المضاءة بالبحر. جميعها أجزاء متناغمة في أوركسترا وجوده المحدود الشاسع الممتد في حيوات ومصائر سحيقة.
لقد تباعدت لقاءاتنا في السنوات الثلاث الأخيرة قبل وفاته لا لفتور في الروابط، بل لفتور خارجي عام لا يد لنا فيه (أو هكذا خيل إلينا)، فتورٍ تسلّل إلى عموم الناس، إلى الأحاسيس والأفكار والعزائم على نحو دفعنا معاً إلى التواري في خلفية المشهد نراقب ونترقب.. اختفى بديع الرماد صديقي وشبيه ذاتي في دائرة غامضة من نصف حياة باطنية في مدينة العرائش. كما اختفى إلى الأبد معلم مصطفى «خيسوس بنيتي» مع مطلع التسعينات ثم اكتمل مشهد اليتم برحيل البحر ورحيل منارته ومقهاه.
وها هي المكتبة تطل برفوفها عليك وعلي فهل من سبيل إلى انبعاثها الرمزي من رماد النسيان؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©