29 يوليو 2011 21:23
من السهل أن يعتد النرويجيون بأنفسهم خلال الأسبوع الجاري عندما سيحتشد مئات الآلاف منهم في الساحات العامة دون صراخ أو إعلاء لمطالب الانتقام والثأر.
والحقيقة أن ردة فعل النرويجيين على الأحداث الإرهابيـة التـي هـزت البـلاد فـي 22 من الشهر الجاري كانـت استثنائية، إذ بعد الفوضى والارتبـاك في البدايـة حل الهدوء وسادت مشاعر التعاطف بين المواطنين.لكني أخشى أن هذا الهدوء المخيم حالياً على النرويج ما كنـا لنراه ونستشعـره لـو أن الجرائم الأليمـة اقترفتهـا يـدا نرويجـي مسلم يتعاطف مع "القاعدة" بدلاً من رجل أبيض، فنحن على مـدى العقـود الأخيرة تعودنـا على التفكير والتصرف على أساس التقسيم بين "نحن" و"هم"؛ وأعتقـد أنـه حتى يكون المرء قادراً على ارتكاب جرائم بنفس فظاعة تلك التي شهدتها أوسلو في 22 يوليو الجاري، لا بد أن يكون مجنوناً، لكن هناك ضربين من الجنون في هذه الحالة: الجنون العقلي المرضي، والجنون السياسي.
فهذه الأيام عندما يرتكب أحد المسلمين جريمة إرهابية يسارع الجميع تقريباً إلى إلقاء اللوم على الدين الذي ينتمي إليه، ويتحول الجنون العقلي والمرضي الذي يحتاجه الشخص لاقتراف الفظائع إلى جنوب سياسي يتجسد في الأصولية المتطرفة التي بها تُفسر أفعاله وتعلق عليها كل أخطاء المسلمين.
أما حين يكون الإرهابي غير مسلم، وينتمي إلى الجناح "اليميني" المتطرف مثل مجرم أوسلو وجزيرة "يوتويا"، أو مفجر "أوكلاهوما سيتي" في أميركا فإن الجنون السياسي يصير جنوناً مرضياً وخللا عقلياً دون إشارة إلى علاقته بالدين.
ولعله من الأشياء الزائفة والمريعة في الوقت نفسه، التي كشفت عنها الهجمات الإرهابية في النرويج أن بيان "أندريس بيهرينج بريفيك"، الذي نشره على الإنترنت قبيل تنفيذ هجماته هو أمر غريب علينا.
وكأننا لم نكن على اطلاع بأفكاره وتصوراته المتطرفة، والحال أننا سمعنا العديد من كلماته خلال السنوات الأخيرة ونعرف تماماً خطورتها.فعبارات مثل "الأسلمة السرية لأوروبا" و"الاجتياح الإسلامي للقارة" لم يقتصر تداولها فقط على بعض المواقع الإلكترونية المغمورة، بل ظهرت على شاشات التلفزيون وسمعها الناس في الإذاعة، فضلاً عن المقالات الصحفية والنقاش العام، بحيث تحولت الإسلاموفوبيا، أو الخوف المرضي من الإسلام، إلى عملة دارجة في حياتنا العامة لا تزعج أحداً.
واللافت أنه قبل ثلاثين عاماً كان الوضع مختلفاً، ففي النرويج التي نشأت فيها ما كان الناس ليأخذوك على محمل الجد لو ادعيت بوجود اختلاف جوهري وتفاضل بين الناس من ديانات وعرقيات مختلفة، فمثل هذا الحديث كان معيباً من الناحية السياسية والأخلاقية.
وكان المدرسون يوقفون أي شخص يتحدث في صفوف الدرس عن المسلمين "الأشبه بالقتلة"، أو السود "الأكثر غباء"، أو أن البيض "أذكى من غيرهم" وما كانت الصحف لتسمح بنشر مقالات تبث الأفكار العنصرية، ولا أحد كان يتجرأ على إعداد برامج تلفزيونية أو إذاعية تستضيف أشخاصاً يحذرون من الأجانب وتهديدهم لنمط الحياة في النرويج، لكن الاستقامة السياسة تحولت خلال العقدين الماضيين إلى جدار واطئ يقفز عليه الجميع، وفقدنا بذلك الاحترام في نقاشاتنا العامة.
والحقيقة أنه بعد عشرين عاماً من الحروب في أو ضد بلدان شرق أوسطية، وعشر سنوات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لم يعد يخطر على بالنا أن أشخاصاً من دين مختلف وبلدان مختلفة قد يكونون بنفس درجة إنسانيتنا، بل ننظر إليهم كأعداء يتعين الاحتراس منهم، وفي سائر أنحاء أوروبا تعودنا على السماع عن مؤامرات "الغزو العربي لأوروبا". وكيف أن النساء المسلمات ينجبن أطفالاً أكثر من غيرهن للاستيلاء على أوروبا، أو كيف أن ثقافتهم أقل تطوراً من ثقافتنا ودينهم أكثر ميلاً للحرب والعنف، وهكذا تحول ما كان يعد تطرفاً صريحاً قبل 25 سنة إلى أمر عادي اليوم.
ومع أن البعض اعتبر جريمة 22 يوليو لحظة فقدت فيها النرويج براءتها، إلا أن ذلك ليس صحيحاً، فقد كانت بالفعل بلداً مريحاً لمن يعيش فيه ترحب بالجميع وتعاملهم على قدم المساواة، لذا آمل أن تساهم مشاعر التعاضد التي أظهرها الشعب بعد الحادثة الأليمة في تعزيز هذا المنحى وتعميق المساواة.
وبرغم أنه لا أحد عدا المجرم يتحمل مسؤولية القتل، إلا أنه على المجتمع تحمل مسؤوليته في إعادة صياغة النقاش العام حول الآخر، فنحن مسؤولون عن الحروب التي نشنها وعن الكلمات التي نتلفظ بها.
وعن الطريقة التي نعامل بها الناس المختلفين عنا، وإذا كان من شيء إيجابي يمكن الخروج به من الحادث الإرهابي، فيتمثل في تغيير الأسلوب الذي نتحدث به عن الآخر.
فعلى أنقاض المبنى الحكومي في "أوسلو" وباسم الضحايـا الذين سقطوا نحن أمام فرصة لإنشاء مجتمع يُنظر فيه إلى الجميع بنفس درجة الإنسانية بصرف النظر عن العرق أو الدين، كما يتعين على النرويج استعادة جزء من اللياقة المفقودة في النقاشات العامة.
أسلاك سيرا ميهر
مدير "بيت الأدب" في أوسلو
ينشر بترتيب خاص مع خدمة
«واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»