الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تصدعات الثوار...

تصدعات الثوار...
27 يوليو 2011 19:24
على مدى 11 سنة نشر الراحل د. عبدالعظيم رمضان تسعة مجلدات من أوراق سعد زغلول، وتوقف دون أن يكمل نشرها، وبعده حاول د. يونان لبيب رزق أن يكمل نشر الكراسات، لكن لم يمهله القدر فواصلت بعده د. لطيفة سالم وظهر الجزء العاشر من أوراق زعيم ثورة 1919، وهذا الجزء يتناول الفترة من 26 فبراير 1920 الى 11 نوفمبر من السنة نفسها، أي أنها تغطي ثمانية اشهر ونصف الشهر، وهي فترة حاسمة من عمر الثورة المصرية، حيث شهدت المشاورات والمفاوضات بين الوفد المصري ولورد ملنر وزير خارجية بريطانيا، وكان ملنر يعرض تصوراته وتجد قبولا من بعض أعضاء الوفد، الذين وصفوا بالمعتدلين، لكن سعد زغلول كان متشددا وكان يرفض مقترحات ملنر، فقد شعر بأنها لا تقدم استقلالا لمصر، بل بعض حقوق أو استقلال في الداخل، أي على مستوى الحكومة المصرية، كترقيات الموظفين المصريين الى مواقع متقدمة، وان يكون هناك برلمان منتخب وحكومة تأتي بالانتخاب وانسحاب الانجليز من القاهرة، لكن تبقى لهم قواعد عسكرية في مصر، وتبقى شركة قناة السويس كما هي وان تخضع سيناء للسيادة البريطانية. درس تفاوضي تجربة ملنر مع سعد زغلول تكشف عن أن المحتل، ايا كان لن يقبل بسهولة ان يخرج من بلد يحتله، كان ملنر يقدم العرض تلو العرض، لكن أي شيء يتعلق بالسيادة المصرية لم يكن الاحتلال مستعدا للتنازل بشأنه مثلا رفض الانجليز في البداية أن يكون لمصر سفارة باسمها في اي بلد آخر، وكانوا يريدون ألا يكون هناك اتصال أو علاقة مشتركة ومباشرة بين مصر والسودان، والأخطر من ذلك هو إصرار بريطانيا على عدم إلغاء الحماية على مصر وتمسكت بذلك وكان عدلي يكن وبعض أعضاء الوفد يرون القبول بذلك اعتمادا على ان شيئا أفضل من لا شيء، لكن سعد زغلول رفض تماما وأصر على إسقاط الحماية وهدد بريطانيا بانه سيعود الى مصر ويعلن للمصريين انه فشل ويخبرهم بالحقيقة، وقد اشعر تهديده بريطانيا بالخطر ومدى ما يمكن ان يحدث من المصريين، خاصة انهم يثقون بزعيمهم سعد، كان سعد يعرف معنى الثقة التي أولاه إياها عموم المصرين، وفي بعض اللحظات تراه يضيق بالزعامة وبضغوط الجماهير عليه، لكنهم كانوا سنده الحقيقي أمام الانجليز وفي مواجهتهم ويمكننا القول ان الفارق بين سعد وعدلي أن الأول كان يثق بقدرة الجماهير ودورها بينما الثاني لم يكن مدركا لما يمكن ان يفعله الجمهور العادي والضغوط التي يمكن ان يقوم بها. سعد زغلول لم يكن يكتب مذكرات، بل دوّن يوميات، ولذا فهي مليئة بالكثير من التفاصيل، عادة من يكتب المذكرات يركز على الأمور الكلية، فضلا عن انه يكتب من الذاكرة، والذاكرة انتقائية أما اليوميات فلا انتقاء فيها، اذ يضع الكاتب كل شيء، انفعالاته العابرة، نصوص الكلمات التي قالها وتلك التي سمعها، تفاصيل صغيرة قد تتعلق حتى بوجبات الطعام والشراب وحتى الفسح والمقابلات اليومية. على مستوى الأحداث التاريخية الكبرى فإن المفاوضات مع الإنجليز وما دار فيها معروض للدارسين والباحثين والجزء الذي بين أيدينا يقدم تأصيلا لها ويضيف الكثير من التفاصيل لمن يريد التدقيق في الأحداث التي جرت ولمن يريد أن يدرس فن التفاوض بين المحتل ومن يرفض الاحتلال ويسعى الى إنهائه وبين من يمتلك السلطة والقوة العسكرية والسياسية ومن لا يمتلك سوى الحق والمطالبة به والإصرار على نيله، وهي كذلك مفيدة لمن يريد ان يدرس الاعتدال والتشدد، وان كلا منهما ليس محمودا ولا مدانا لذاته ففي بعض المواقف يكون الاعتدال ضروريا وإيجابيا، وفي مواقف أخرى قد لا يكون كذلك ويصبح التشدد هو الإيجابي وهو الأفضل، ورغم ان سعد زغلول وقتها كان عجوزا ومريضا لكنه كان الأكثر صلابة وقوة في مواجهة ألاعيب الانجليز. مصالح ومشاعر الجزء الذي بين أيدينا يقدم وثيقة إنسانية اذ يرصد مشاعر سعد زغلول تجاه رفاقه من أعضاء الوفد، وكذلك مشاعرهم تجاهه، وفيما بعد سوف ينفصلون عنه ويشكلون حزبا جديدا وهم عدلي يكن ومحمد محمود وعبدالعزيز فهمي ولطفي السيد، فلم يكن الخلاف بينهم سياسيا وفكريا فقط، بل كان إنسانيا وشعوريا ايضا. ولنقرأ ما كتبه سعد في اول مارس 1920 “ليس أعجب من شأننا أعضاء الوفد، تشكل الوفد منا وليس بيننا اتحاد لا في التربية ولا في النشأة ولا في المشرب ولا في الأخلاق، وليس المطلب الذي نسعى اليه تمكن من انفسنا تمام التمكن، بل هو ثابت في البعض ومهتز لدى البعض”. وفي سياق آخر يتحدث عن عبدالعزيز فهمي ولطفي السيد يقول “لا ينبغي أن أعد هذين الرجلين من الأصحاب لأنهما غير مريحين وفي قلبهما مرض وحقد، لأن المصلحة الخاصة متغلبة عليهما وسيكون ثالثهما محمد محمود، وأرجو أن يمن الله عليَّ بضبط نفسي معهم وكتم غيظي منهم”. ويبدي سعد زغلول ضجرا شديدا من رفاقه وهم في باريس يقول: “ان حالة إخواننا لا تشجع على الاستمرار في العمل معهم فليسوا على يد واحدة وكلهم لا يشعرون بشعور واحد، فهم يعبرون مالا تعبر، وتعبر أنت مالا يعبرون، فلا يمكن ان تتفق معهم ولا ان يتفقوا معك..”، ثم يقول لنفسه “قلل من مناقشتهم ولا تظهرهم على كل ما عندك”. وفي 20 يونيو يعود الى نفس المعنى: “يؤسفني ان ألاحظ من زملائي ميلا لمعارضتي قبل ان يفهموا قصدي، وهو ميل ربما كنت السبب فيه بكثرة المناقشة فهل من سبيل للإقلال فيها”. وفي بعض الأحيان يلوم نفسه ويكاد يتهمها، يكتب في أواخر اغسطس: “غريب أمري يستفسر مني كل من يقترب مني، ولا أشعر بأنني لا أريد لأحد سوءا ولا أبتغي شرا، فلماذا يكون نصيبي هذا النفور. إما ان يكون كل الناس خبثاء، وإما ان أكون انا الخبيث وحدي”.. كان يقول هذا الكلام عن زملائه في الوفد وكذلك عن أقاربه وأهله. وأهم ما يرد في هذا الصدد، هو معنى الزعامة وعبئها على صاحبها، اذ تفرض عليه أن يضغط على نفسه إرضاء للجماهير يقول “ان الذين لا يعرفون حقيقة ما أنا فيه من الهم والحزن ربما يحسدونني على ما وضعته الأمة من الثقة بيّ، ولكنها ثقة المخدوم بخادمه لا ثقة المأموم بإمامه، فكلما فعلت ما يرضي شهواتهم رضوا عني وان بدا ما يخالف انفضوا من حولي وانقلبوا عليّ، خصوصا أنني في كثير من الظروف لا أستطيع أن أبوح بما في صدري دفعا للوهم عنهم وتقريرا للحقيقة، ولكني تذرعت بالصبر ولا أزال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©