الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عودة إلى حضن «حتشبسوت» الجنائزي.. عايدة الشغف الأوبرالي!

عودة إلى حضن «حتشبسوت» الجنائزي.. عايدة الشغف الأوبرالي!
21 نوفمبر 2019 00:07

إميل أمين

مرة جديدة تمزج الأقصر في صعيد مصر بين الماضي وعظمته، والحاضر وتطلعاته، متخذة الفن كأداة، والأوبرا تحديداً وسيلة لجذب أنظار العالم، إلى أقدم مدينة أثرية في التاريخ، حيث معابد الفراعنة شاهدة على عظمة مدينة تركها الأجداد منذ بضعة آلاف من السنين.
في نهاية أكتوبر الماضي، وبحضور الآلاف من المشاهدين جلهم (60-70%) من الأجانب من خارج مصر، والكثير من المشاهير من العالم العربي، شهدت محافظة الأقصر عرض أوبرا عايدة، على أرض معبد الملكة حتشبسوت، ما جعل العرض يجري فوق مسرح غير اعتيادي، إذ تحرك العارضون على أرض المعبد مباشرة، وباستخدام كافة عناصر الإبهار، المتمثلة في أحدث تقنيات أنظمة الإضاءة، وأدوات العرض الثلاثية الأبعاد، والشاشات الضخمة الحديثة، ما جعل العرض أكثر جذباً، ومنح الحياة من جديد إلى المعبد، من خلال تقنيات المبدع الأسترالي الشهير «وولفجانج فون زوبك»، صاحب البصمة المتميزة في الصوت والإضاءة، وقد أشعل العرض أحلام الحب والرومانسية في نفوس الحضور من شمال الأرض وجنوبها، شرقها وغربها. ربما يتوجب علينا قبل الحديث عن أوبرا عايدة، الإشارة إلى المسرح الذي قدمت عليه، وهو معبد الملكة حتشبسوت الجنائزي، الذي يرجع تاريخه إلى زمن الأسرة الثامنة عشرة في تاريخ الفراعنة، وأفضل ما بقي من المعابد المصرية القديمة التي بنيت منذ نحو 3500 سنة في منطقة الدير البحري في مدينة الأقصر الخالدة، وبنته الملكة حتشبسوت على الضفة الغربية للنيل المقابلة لطيبة، والتي كانت عاصمة لمصر القديمة، ومقر عبادة الإله آمون.
كانت حتشبسوت ابنة للملك تحتمس الأول، وهي التي أمرت ببناء هذا المعبد، المتميز بتصميمه المعماري الخاص والمنفرد، ويتكون من ثلاث طبقات مفتوحة على شرفات، وقد بنيَّ المعبد من الحجر الجيري، ونصبت أمام أعمدة الطابق الثاني تماثيل من الحجر الجيري، للإله أوزوريس وللملكة حتشبسوت، في توزيع جميل، في الأصل كانت التماثيل ملونة، وإن لم يبق من الألوان اليوم إلا بعض الآثار، غير أن هذا لا ينفي وجود بعض التماثيل في حالة جيدة تماماً، تدل على أناقة تصميم المعبد وجماله.
كانت حتشبسوت من جميلات الفراعنة، وهي أول من ارتدت القفازات وطرزتها بالأحجار الكريمة، وذلك لوجود عيب خلقي بأصابعها، وكشف ذلك بعد رؤية موميائها، على عكس أغلب تماثيلها التي صنعت لها، وكانت يداها تبدوان طبيعيتين لأنها كانت تأمر النحاتين بذلك.
اشتهر حكم حتشبسوت بالسلام والازدهار، حيث كانت تحاول أقصى وسعها لتنمية العلاقات خاصة التجارية مع دول الشرق القديم لمنع أي حروب معهم، رغم ذلك واجهت حتشبسوت مشاكل عديدة في البداية بسبب حكمها من وراء الستار من دون شكل رسمي، حتى تردد أنها قتلت زوجها للاستيلاء على الحكم، وكانت المشاكل التي واجهتها مع الشعب لكونها امرأة ولا تستطيع حكم البلاد، إذ كان الملك طبقاً للعرف ممثلاً للإله حورس الحاكم على الأرض.

الفراعنة وفن الأوبرا
أحد الأسئلة ذات الأهمية التي يطرحها عرض أوبرا عايدة، هو ذاك المتعلق بعلاقة الفراعنة بالموسيقا خاصة، وبفن الأوبرا عامة، وعليه يبقى السؤال ماذا عن تلك العلاقة؟
المؤكد أن المصريين القدماء قد عرفوا الموسيقا في العصور القديمة جداً، الأمر الذي يتبدى من النقوش والصور المنقوشة على جدران مقابر ملوك الدولة القديمة، وكان استخدامها في شتى نواحي الحياة، وإن كثر بنوع خاص خلال الطقوس الجنائزية في المعابد.
غير أنه كان لها أيضاً استخدامها في الحياة اليومية للتسلية، والطرب والعزف على رؤوس الغيطان الزراعية بآلات مازالت موجودة حتى اليوم، منها «الناي» صاحب الألحان الحزينة، وبعض الألحان المستخدمة في الأفراح، حيث كان يصاحبها آلات وترية وإيقاعية ونفخية أخرى.
على أن المثير في المشهد أن كثيراً من الأثريين والباحثين في علوم المصريات القديمة، يؤكدون على معرفة الفراعنة ما يشبه العروض الأوبرالية قبل عدة آلاف من السنين، عطفاً على الكثير من فنون الترفيه، ولم تكن حياتهم كداً وتعباً، كما يظن البعض، إذ تعددت لديهم طرق وألوان التسلية ووسائل الترفيه، وهو ما تسجله مقابر النبلاء والنبيلات في جبانة طيبة غربي مدينة الأقصر.
يخبرنا محمد عباس سلامة، المدير العام لمركز الأقصر للتراث، إن قدماء المصريين عرفوا الكثير من المظاهر التي تشهدها العروض الأوبرالية اليوم، ومن بينها الأناشيد والموسيقا والرقص، ومشاركة الرجال والنساء في الرقص والإنشاد والغناء في حفلات جماعية.
وحسب سلامة، كانت الموسيقا فناً مقدساً في المعابد المصرية، حيث كان قدماء المصريين ينشدون الأناشيد الدينية للآلهة بمصاحبة القيثارات وآلات الهارب.
- هل عرف الفراعنة الأوبرا قبل عايدا بآلاف السنين؟
يمكن القطع بأن المصرين القدماء قد عرفوا ما يسمى بـ «رقص المحاكاة»، أي تقليد حركات الحيوانات والنباتات والظواهر الطبيعية، وعرفوا أيضاً ما يعرف بـ «الرقص التمثيلي»، وكانوا يقومون من خلاله بتمثيل الحوادث التاريخية وقصص الحياة ومظاهرها.
كان أول من اكتشف علاقة المصريين القدماء بالموسيقا، علماء الحملة الفرنسية، أولئك الذين كتبوا في موسوعتهم الكبيرة «وصف مصر»، أن المصريين القدماء كانت لديهم فكرة سامية عن الفنون، وأنهم كانوا ينسبون ازدهار حضارتهم إلى «الآثار البهيجة للموسيقا»، وأن المعبودة إيزيس كانت تصور وهي تجلس بين الموسيقيين، فيما صور المعبود حورس كرئيس لربات الفنون.
كانت تلك الصورة تشير إلى تقديس قدماء المصريين للموسيقا والفنون، وإلى أن الحقيقة والجمال والحيوية ودقة التعبير وعذوبته، كانت تشكل الموضوع الأساسي للموسيقا في مصر القديمة، وأن عودة عروض أوبرا عايدة إلى ساحة معبد الملكة حتشبسوت مجدداً، هي محاولة لإحياء صور تلك الفنون التي عرفتها مصر القديمة قبيل آلاف السنين، وفي وقت كانت فيه غالبية شعوب العالم القديم تعيش في منطقة زمنية مغايرة من الحضارة.

قصة عايدة
تقول الدكتورة «نيفين واصف» المدير التنفيذي لمشروع أوبرا عايدة، إن العرض الذي احتضنه معبد الملكة حتشبسوت، تزامن مع مرور 150 عاماً على افتتاح قناة السويس، بما يعيد إحياء العلاقة الوثيقة، حيث كلف الخديوي إسماعيل الموسيقار الإيطالي «جوزيبي فيردي»، بكتابة أوبرا عايدة، لتعرض خلال حفل افتتاح القناة عام 1869، والذي شهد حضوراً رسمياً مميزاً. وتضيف: «إن أوبرا عايدة قصة مصرية خالصة، مقتبسة من لوحات حضارتنا الفرعونية الخالدة، وتربط بين مصر والحبشة في قالب درامي محكم، ولا تزال تحظى بشغف العالم وإعجابه، ويتم تنفيذها من خلال خبرات عالمية بارزة للوصول إلى عرض أكثر تشويقاً.
قصة هي إذن من أربع صفحات كتبها عالم المصريات الفرنسي «ميريت باشا»، وضاعت في وادي النيل، ليكتشفها عالم الآثار الفرنسي «أوجست ماريتا»، فيعجب بها «جيسلا نزوني»، فيكتب نصاً غنائياً يتماشى معها.
والشاهد أن «ماريتا» لم يكن الوحيد الذي أعجب بها، فعندما قرأها الخديوي إسماعيل هو الآخر، طلب من الموسيقار العالمي فيردي، أن يؤلف موسيقاها مقابل 150 ألف فرنك، لتصبح رائعته العالمية المتكاملة، ولتقدم على مسرح الأوبرا المصرية القديمة في 24 ديسمبر 1871.
لم تكن أوبرا عايدة الأولى التي تستلهم تاريخ مصر القديم في أحداثها المسرحية، فقد سبقتها «الناي السحري» لموزار، والتي قدمت في باريس في 20 أغسطس عام 1801، بعنوان «أسرار إيزيس» فضلاً عن أوبرا «موسى» للموسيقار، روسني عام 1827، و«الابن الضال» لدانيال فرانسو إسبري أوبير عام 1850.
بحسب الموسوعة العالمية «بريتانيكا»، فإن الأوبرا هي عمل درامي موسيقي يتخلله حوار غنائي، وأوبرا عايدة عبارة عن قطعة تياترية (مسرحية) تشتمل على مناظر ولوحات راقصة تتخللها أغانٍ موسيقية متوزعة على 4 فصول تجسد الصراع بين الواجب والعاطفة، وتحكي عن قصة الحب التي نشأت بين الأسيرة الحبشية عايدة وراداميس قائد الجيش المصري، الذي حكم عليه فرعون مصر بالإعدام بعد أن ثبت عليه محاولته للهرب مع عايدة إلى الحبشة.
تتكون أوبرا عايدة من 6 شخصيات رئيسية هم:
1- عايدة: بطلة القصة، الأميرة الإثيوبية التي وقعت في أسر الجيش المصري.
2- أمينريس: ابنة فرعون مصر التي تنافس عايدة في حبها لراداميس.
3- راداميس: قائد في الجيش المصري يهيم حباً بعايدة.
4- الفرعون: ملك مصر وأبو أمينريس.
5- أمونسيرو: ملك الحبشة وأبو عايدة بطلة القصة.
6- رامفيس: كبير كهنة فرعون مصر الذي يحكم على راداميس بالموت.
قصة أوبرا عايدة باختصار غير مخل، تدور حول تلك الفتاة الإثيوبية جميلة الشكل السمراء البشرة «عايدة» ابنة الملك «أمونسيرو» أو«أوموناصرو»، والتي وقعت أسيرة عند الفراعنة المصريين وأصبحت جارية للأميرة «أمينريس» ابنة ملك مصر، والتي كانت تعشق قائد جيشها «راداميس»، بينما أغرم هو بـ«عايدة» وأهملها.
في هذا الإطار التراجيدي، تقع «عايدة» في صراع وتمزق بين حبها للقائد الفرعوني، وبين وفائها وولائها لوطنها، حيث تلجأ إلى الآلهة لنجدتها من هذا الصراع.
تنتهي الحرب بانتصار قائد جيش الفراعنة «راداميس»، على الأحباش، ويقع والد «عايدة» أسيراً عند الفراعنة، ويقيم الملك الفرعوني احتفالاً رسمياً بذلك، ويعلن خلاله زواج ابنته «أمينريس» من «راداميس» مكافأة له على انتصاره.
أوبرا عايدة الأقصر الأخيرة، شارك في حفلها أكثر من 100 موسيقي أكاديمي، عبر الأوركسترا الرسمية للحفل من أوكرانيا بقيادة المايسترو الأوكرانية الشهيرة «أوكسانا لينيف»، بجانب كورال فريق دومكا الأوكراني، كما شارك أيضاً 80 مطرباً و6 مطربين رئيسيين و40 راقصاً، وقد أدت المغنية الأوبرالية الكورية «ساي كيونج ريم» دور عايدة، وتشتهر باسم المغامر العظيم في السوبرانو الحديث، فيما قدم دور قائد الجيش المصري «راداميس» البلجيكي «مايكل سباداكسيني»، أما الملك المصري فجسده اليوناني «أرجيرس»، وأخرج العمل المخرج المسرحي الألماني «مايكل شتورم».

فيردي.. الموسيقي البارع
المؤكد أن عايدة لم يكن لها أن ترى النور من دون موسيقا المبدع العالمي «جوزيبي فيردي» الإيطالي الجنسية (1813 – 1901) المؤلف الموسيقي للعديد من الأعمال الأوبرالية مثل عايدة وعطيل، وصاحب القداس الجنائزي الشهير Requiem وقد كان صاحب حس طبيعي أهله لكتابة الأعمال المسرحية، وقد عمل على مواصلة مسيرة مواطنيه «بليني» و«جواكينو روسيني»، في ترسيخ التقاليد الأوبرالية الإيطالية، في مواجهة التيار الجديد المتأثر بأعمال «ريتشارد فاغنر».
ويشير الكاتب والمؤرخ الفرنسي «روبير سوليه» في كتابه «مصر ولع فرنسي»، إلى أن الخديو إسماعيل أراد أن يضع فيردي موسيقا أوبرا عايدة، وكان فيردي قد سبق وقدم أوبرا «ريغو ليتو»، «ولاترافياتا» المقتبسة عن قصة غادة الكاميليا للأديب الفرنسي ألكسندر ديماس الأب.
ويشير سوليه في كتابه إلى أن فيردي رفض في البداية، قائلاً:«ليس من عادتي تأليف قطع موسيقية للمناسبات الخاصة»، فألمح وسطاء الخديوي بإسناد المهمة إلى موسيقيين آخرين مثل فاغنر وجونو، إن أصر على رفضه، فوافق بشروط مالية خاصة.
وقّع «ماريت باشا» العقد مع فيردي، نيابةً عن الخديوي في 29 يوليو 1870، بعد أن قدم له والي مصر 150 ألف فرنك فرنسي بالذهب، ونَص العقد على أنه إن لم تعرض عايدة في القاهرة في يناير 1871، فمن حق فيردي عرضها في مكان آخر بعد مضي ستة أشهر من الموعد المتفق عليه، لكنه تغاضى عن هذا الشرط.
عرضت أوبرا عايدة في القاهرة أول مرة في 24 ديسمبر عام 1871، وحققت نجاحاً غير متوقع، وعرضت في الثاني من فبراير شباط عام 1872 في لاسكالا في ميلانو، وبارمي في وسط إيطاليا. استمر تقديم أوبرا عايدة سنوياً على مسرح دار الأوبرا المصرية «الخديوية»، حتى احترقت بالكامل عام 1971، فيما شهدت منطقة الأهرامات أضخم إنتاج للعرض عام 1987، عندما شارك فيه 1600 فنان على مسرح مساحته 4300 متر مربع، وحضره 27 ألف متفرج، واستمر تقديمه على مدار ثماني أمسيات متتالية. كما قدمت عرض أوبرا عايدة عام 1994 أمام معبد حتشبسوت في الدير البحري بالأقصر عام 1999، متخذة من عمارة المعبد خلفية لها.
ومازالت تجتذب عروض أوبرا عايدة في مصر والعالم الكثير من الجمهور، فضلاً عن إثراء المنافسة بين المخرجين والقائمين على تنظيمها لتقديم كل ما هو جديد من الناحية الفنية، وهنا يشير روبير سوليه إلى أن «الولع الموسيقي بمصر التاريخية، يسمح بكل شيء، إن لم يكن يسمح بالشيء ونقيضه في ذات الوقت».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©