20 يوليو 2011 19:40
هناك وهم كبير وخطير في الساحة المسرحية العربية، الحديثة، وذلك على امتداد أكثر من عقدين من الزمن، ويتمثل هذا الوهم في شيء يسمى المسرح التجريبي، والذي لا يمكن أن يكون له وجود حقيقي أبداً، وذلك بحكم أن ما يقدم للجمهور دائماً، ليس هو فعل التجريب، وليس هو التمارين الاختيارية التي تسبق الحفل المسرحي، ولكنهه النتائج الفكرية والجمالية لفعلي التجريب والاختبار، ولقد غذى هذا الوهم وجود التباس بين مصطلحين اثنين متقاربان في اللفظ، ومتباعدان في المعنى، وهما: التجريب المسرحي والمسرح التجريبي.
إن فعل التجريب ليس وليد هذا اليوم، ولا يمكن أن يرتبط بفن دون آخر، وقد كان موجودا دائماً، في كل الأزمان والأمكنة وفي كل الثقافات، وذلك بحكم أنه فعل ملازم للإبداع الفني، وملازم للابتكار العلمي، وملازم للاختراع الصناعي، وهل تحققت كل هذه الحضارات الإنسانية - وعلى امتداد كل تاريخ الإنسان والإنسانية - إلا بفضل فعل التجريب، انطلاقاً من تجريب فاعلية النار، سواء في الإضاءة، أو في الطبخ أو في التدفئة أو في المآرب الأخرى الكثيرة، وأيضاً، من تجريب دور العجلة في تسريع الحركة في التنقل.
ولقد اعتقد كثير من المسرحيين العرب، ومنهم كثير من النقاد ومن الباحثين ومن الدارسين، أن التجريب لا يمكن أن يكون إلا فعلاً إجرائياً بحثاً، وأكدوا على أن من طبيعة هذا التجريب الأساسية أن يكون - بماديته وبرغماتيته - بعيداً جداً عن النظر العقلي، وبعيداً عن التنظير الفكري، في حين أن الحقيقة عكس هذا تماماً، وذلك أنه لا وجود لتجريب جاد وعملي لا تسبقه الفرضيات النظرية، ولا يمكن أن ينتهي إلى نتائج تتم صياغتها في قوانين نظرية أيضاً، ولا وجود لتجريب يشكك في جدوى قوانين السرح الكائن، من غير أن تكون له القدرة على التنبؤ بالمسرح الممكن، ولا على اقتراح المسرح الآخر، ولقد ظل فعل التجريب المسرحي العربي، وعلى امتداد عقود طويلة جداً، مجرد رفض فوضوي لكل شيء، ومجرد تشكيك عدمي في أساسيات الفعل المسرحي، ومجرد استهلاك للتجريب المسرحي المستورد، والذي فقد صلاحيته منذ زمن طويل، وبهذا أصبح مجرد تسكع في دروب التجريب العالمية، والتي انتهت في فرنسا مثلاً إلى إعطاء مسرح حقيقي يسمى مسرح العبث، وذلك باعتباره فلسفة أولاً، وباعتباره أنه حساسية فنية ثانية، وباعتبار أنه قوانين مسرحية جديدة عوض القوانين القديمة التي تم تدميرها، ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن المسرح المستقبلي في إيطاليا، وعن المسرح السوريالي في فرنسا، وعن السرح الملحمي في ألمانيا، وعن المسرح الفقير في بولونيا.
في هذا المسرح التجريبي يتم التركيز على المتغيرات الآنية والظرفية، بدل التركيز على الثوابت التاريخية والأبدية، ويتم الاحتفاء بالمظهر الواقعي، بدل الاحتفاء بالمضمر الحقيقي، ويتم الاشتغال على الأشكال الحسية، بدل الاشتغال على القضايا المعنوية والرمزية، ويتم التركيز على فراغات الصمت الكثيرة والمتنوعة، وذلك بدل البحث عن الامتلاءات المعرفية والجمالية داخل الكلمة الصادقة والحكيمة والغنية بالدلالات والإشارات، ويتم إعطاء الصورة الحسية - والتي قد تكون مجرد خداع بصري - أكثر مما تستحق من القيمة ومن الاحتفاء، وبهذا يكون الرهان على هذا النوع من التجريب رهاناً بلا معنى، لأنه يبقى بلا أفق نظري، وبلا نواة صلبة يمكن أن يمثلها النص المكتوب، وبلا ذاكرة مستقبلية يمكن أن تعطيه امتداده في العروض المسرحية الممكنة الوجود، وعندما نتأمل اليوم عظمة المسرح اليوناني مثلاً، ونتساءل عن سر خلوده لحد هذا اليوم، فإننا بالتأكيد لا يمكن أن نجد وراء ذلك شيئاً يسمى التجريب أو يسمى المسرح التجريبي، ولكننا بالتأكيد نجد الشعر المسرحي في الكتابة، ونجد فلسفة وفكراً في الكتابة أيضاً، وقبل هذا وذاك، نجد رؤية مأساوية للعالم، ونجد موقفاً من الوجود، ونجد بنية مسرحية شاملة ومتكاملة، إن خلود هذا المسرح يكمن أساساً في أننا لا نعرف شيئاً عن الكتابة بالجسد فيه، ولا عن الكتابة بالأشياء، ولكننا نعرف كل شيء عن الكتابة بالكلمات، وفي هذه الكلمات وحدها تكمن عظمة كل المسرح اليوناني.
ثم إن التجريب هو فعل إجرائي مختبري، ولقد ارتبط في أوروبا بمسارح الجيب الصغيرة، والتي هي مختبرات ضيقة ومغلقة على (أسرارها)، والجمهور فيها نخبوي دائماً، وعدده محدود، ومسرحياتها صغيرة جداً، ومضامينها نخبوية أيضاً، ولقد نشأ هذا المسرح التجريبي النخبوي على هامش مسرح كلاسيكي حقيقي، في حين أن تجريبنا أراد أن يكون بديلاً لمسرح كلاسيكي ليس له وجود، وتلك هي المفارقة الغريبة والعجيبة بكل تأكيد، لأنه لا يصح الحديث عن الجديد إلا في ظل وجود القديم، ولا يصح الحديث عن النخبوية، في الوقت الذي لم يحقق هذا المسرح العربي قاعدته الشعبية بعد.
في هذا المسرح التجريبي، نادى بعض المسرحيين بالمسرح الفقير، وكان ذلك سيراً على نهج غروتوفسكي، واعتبروا الفقر المسرحي هدفاً يمكن أن يسعى نحوه المسرح والمسرحيون معاً، ونسوا أن الفقر في مسرحنا هو الأصل، وأن المطلوب و البحث عن مسرح غني بشكل حقيقي، وأن يكون هذا الغنى في المؤسسة المسرحية، وفي الكتابة الدرامية، وفي المواضيع، وي المضامين، وفي اللغة، وفي الإلقاء والأداء، وفي الفضاء المسرحي، وفي المكان المسرحي، وفي الأزياء، وفي الأشياء، وفي العلامات والرموز، وفي التلقي الذي يمثله جمهور مثقف ثقافة مسرحية حقيقية، وأكثر القضايا التي طرحها هذا التجريب، كانت مجرد رجع الصدى، ولم تكن صوتاً حقيقياً.
ويمكن أن نقول بأن المسرح التجاري يمثل الوجه الآخر للتجريب المسرحي العربي، فهما معاً لم يضيفا شيئاً جديداً لحركة هذا المسرح ولا لعلومه وآدابه وفنونه، فالمسرح التجاري أخرج المسرح من المسرح، وجعله شيئاً قريباً من الكباريه أو من السيرك أو من الشو، أما التجريب، فقد حاول أن يؤسس ذاته على حساب فعل التخريب، تخريب النص، وتخريب اللغة المسرحية، وتخريب التمثيل، وتخريب الجماليات المسرحية، وتخريب الذوق المسرحي، وبهذا يكونان معاً - التجاري والتجريبي - وجودين خارج المسرح الحق، وخارج روحه وجوهره، وخارج ثوابته التي تم الاعتداء عليها، ولقد حدث هذا في الوقت الذي كان المسرح العربي في حاجة أكيدة إلى أن يعيش زمن التأسيس الجديد والمتجدد، وأن يبدأ هذا التأسيس - أولاً - من بناء العادة المسرحية لدى الناس، وأن يسعى أثناء ذلك إلى تقديم مسرح مفهوم.
ويمكن أن نقول اليوم، بأن الدور الذي لعبه التجريب المسرحي في العالم العربي كان دوراً تخريبياً بامتياز، وبأنه قد أفقر هذا المسرح، ونزع عنه أجمل وأكمل وأنبل ما فيه، ولم يضف إليه إلا الادعاءات الفارغة، ولقد حاول أن يقيم عروضه المسرحية على أساس الاختزال.. زي اختزال ما لا يقبل الاختزال، وعلى أساس إفقار هذا المسرح أيضاً، وذلك بدل مده بكل العناصر التي يمكن أن تغنيه، وأن تقويه، وأن توسع من مضامينه ومن لغاته، وفي المقابل فقد تم انتزاع شعرية النص من هذا التجريب، هذا النص الذي ترتكز عليه كل العناصر المسرحية الأخرى، والذي يحدد طبيعة الأدوار، ويحدد عددها، والذي يشير إلى الحركات والإشارات في المسرحية، ويحدد طقسها ومناخها.