الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الخطّ المستقيم

الخطّ المستقيم
3 فبراير 2020 02:37

راح أبي يملي علي وصيته وهو على فراش الموت، لكنه لم يكمل كلماته، وماتت العبارات بين القلب والحنجرة. ذهبت بي التخمينات، إلى عالم من الأفكار، لست أدري ما كان يحاول أن يقول، وداهمني شعور باليتم بعد ذهاب السند، ورعشة مباغتة اعترتني. تخيلت أن الحياة اختصرت عمراً طويلاً مع خروج الكلمات المتبقية من فم أبي ثم أصبحت بعد فترة متسعة جداً.
يغلب علي أحياناً شعور بالوحدة وأشعر ببرد، وأوصالي ترتعش، وكنت أفكر طوال الوقت بحثاً عن ما قيل إنه عالم خاص. تذكرت في إحدى المرات أنّ المدرس قال: الخط المستقيم هو أقصر طريق ما بين نقطتين وأن الأرض كروية ولو قدر للإنسان أن يسير على خط مستقيم فإنه لا بد أن يعود من حيث بدأ.
فقفزت من مقعدي أصيح: كان أبي يريد أن يقول هذه العبارات أو شيئاً شبيهاً بها، وتذكرت ما قاله، فهل كان يقصد أن أبدأ وأنتهي من المكان نفسه أو لا أذهب بعيداً لأنني أسير على خط مستقيم، وسوف أعود مرة أخرى من حيث ابتدأت.
كنت أحاول أن أتحلى بالشجاعة والتأقلم مع الحياة بكل مصاعبها وآلامها، وأتحدث مع نفسي وأقول لها إن كل شيء يحدث في حياتي له حكمة وإن الحياة نعمة وهبة لا يمكن أن نضيعها في الحزن، وأن الرضا والإيمان بأن الغد أفضل والإحساس بالنعمة متعة.
ولذا كان عليّ أن أتعلم نسيان الإساءة، فأنا لا أملك ثروة ولا منصباً ولا أي شيء أركض خلفة بشغف، ولكن ربما كنتُ إنساناً يعرف قيمة الحياة.
بقيت ذكرى وفاة أبي تراجعني بين حين وآخر حتى أصبحت على مشارف العقد الثالث من عمري، وغدوت متأكداً أن ليس الخير كله خيرا وليس الشر كله شراً، وليس كل الجمال جمالاً بل يتخلله شيء من القبح والعكس، وأن الأفكار ليس لها حدود وأن التأمل يزيد في حكمة التأقلم مع الظروف الجديدة. ورجعت إلى فكرة الخط المستقيم بعد أن شغلتني الحياة وانشغلت بدراسة الهندسة وإنشاء المباني ذات الطوابع المستقيمة من زواياها جميعاً.
واكتشفت أنّ أبي كان يريد أن يوصيني بالاستقامة في معاملة الناس، وأنّ الحياة أغلى من قضائها في سلوك الطرق المتعرّجة التي لا تقود إلى الصلاح ومنفعة الآخرين. وحينما ذهبت إلى الفراش في تلك الليلة لاح لي وجه أبي مبتسماً ويده تمرّ على كتفي بحنان كبير.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©