الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التّفكير في زمن التّكفير

التّفكير في زمن التّكفير
4 أكتوبر 2018 01:13

د. ألفة يوسف

مهما اختلفت المصادر التشّريعيّة فإنّ التّجمّعات البشريّة قامت دوماً عبر تاريخ البشر على أطر قانونيّة تنظّم العلاقات الجماعيّة. وبعبارة أخرى، فإنّ النّاس قد يختلفون في مضمون القوانين ولكنّهم لم يختلفوا في مبدأ وجود القوانين نفسه.
إنّ أصل القوانين منع البشر من إلحاق الأذى بعضهم ببعض، ولذلك نجد قوانين شاملة للبشر مهما تنوّعت مشاربهم وانتماءاتهم شأن منع القتل والسرقة ونكاح المحارم.
على أنّ بعض القوانين تدخل مجال الرّمزية لتحاكم الفكر والإبداع البشريّين. وفي هذا المجال عرف التّاريخ المحاكمات الأدبيّة والفكريّة العديدة. ولعلّ أقدم محاكمة بلغتنا هي محاكمة سقراط المتّهم بإفساد الشّباب وعدم الإيمان بإله المدينة.
ومن أهمّ محاكمات القرن العشرين الفكريّة محاكمة نصر حامد أبي زيد التي سنتناولها نموذجاً بالدّرس في هذا المقال باحثين في آليات المحاكمة وأسبابها وأبعادها.

1- الآلية القانونيّة:
الحسبة سلاح خطير:
نصر حامد أبو زيد باحث وكاتب مصريّ في مجال الفكر الدّيني له كتب كثيرة منها «الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية القرآن عند المعتزلة»، «دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» وسواها. تقدّم بملفّ علميّ لجامعة القاهرة للتّرقية إلى رتبة أستاذ فرفضت ترقيته وأثارت كتاباته حفيظة كثيرين اعتبروه مرتداً عن الإسلام بما دعا إلى محاكمته بين سنتي 1994 و1995.
إنّ محاكمة الفكر لا تختلف عن سائر المحاكمات في ضرورة استنادها إلى القوانين بصفتها المقولة الجوهرية التي تؤسّس لمفهوم المحاكمة ذاته. ومن هنا فإنّ كلّ محاكمة تفترض تهمة ينص عليها القانون. ومن عجائب محاكمة أبي زيد أنّ التّهمة الأساسيّة فيها هي تهمة الرّدّة، وهي تهمة ضبطها الفقهاء وبيّنوا شروطها. على أنّ القضاء المصري لم يستند إلى هذه الشّروط لغياب منطوق التهمة وحيثيّاتها، فكثير من الفقهاء يرون أنّ من ينطق بالشّهادتين لا يمكن أن يعتبر من المرتدّين. ولئن رفض أبو زيد النّطق بالشّهادتين أمام المحكمة احتجاجاً على التّفتيش في ضمائر النّاس، فإنّه نطق بهما في بدء إحدى محاضراته. ولذلك التجأ رافعو القضيّة على أبي زيد إلى الحسبة، وأقرّوا أنّه، وهو المرتدّ في نظرهم، لا يمكن أن يبقى متزّوجاً بمسلمة، ففرّقوا الرّجل عن زوجته ابتهال يونس بما دعاهما إلى أن يغادرا مصر نحو هولندا.
لقد حوكم أبو زيد استناداً إلى الحسبة. والحسبة هي نظام قانوني وُجد في تاريخ الإسلام، منطلقه مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهي أقرب إلى التّشريع العرفيّ، لأنّها تسمح لكلّ مسلم يلحظ خروجاً عن تعاليم الدّين أن يقيم دعوى حسبة. ومن هنا فإنّ هذه الآليّة تتيح لكلّ فرد أن يلتجئ إلى القضاء، إنّها دفاع عن الحقّ العام في يد الجميع بما يجعلها آليّة خطرة تخضع بالضّرورة إلى أهواء النّاس وحساباتهم في أقصى الحالات، وإلى سوء فهمهم وتعدّد رؤاهم في أدناها.
ولئن نتج عن قضيّة أبي زيد تفريقه عن زوجته استناداً إلى الحسبة، فإنّ المنظومة القانونيّة المصريّة شعرت بعد سنوات بضبابيّة مستندات الحسبة وهشاشتها وخطرها، ولذلك رُفضت بعد سنوات دعوى حسبة أقيمت ضدّ نوال السّعداوي متّهمة إيّاها بالارتداد وداعية إلى تطليقها من زوجها شريف حتاتة. وهذا ما يثبت تاريخانيّة المحاكمات وسياقيّتها.

2- أسباب المحاكمة بين الحقيقة والتّأويل وتضارب المصالح:
ما هي أسباب محاكمة أبي زيد؟ الاتّهام بالرّدّة هي كلمة عامّة، هي نوع من الغطاء الدّلالي الّذي يحيل على أبعاد أخرى. للمحاكمة في رأينا سببان عميقان:

أ- السّبب الأوّل الظّاهر هو اعتداء الباحث على الدّين. وهذه العبارة تتكرّر بأشكال مختلفة وبألفاظ متنوّعة في كلّ المحاكمات الفكريّة. ففي حال أبي زيد تصوّر المدّعون أن الرّجل قد ارتدّ عن الإسلام لمجرّد أنّه قدّم إمكان قراءة مختلفة للنّص الدّيني. واللّطيف أنّ هذه القراءة ليست ابتداعاً وإن اعتمدت علوماً إنسانيّة حديثة، وإنّما هي قراءة اتّصلت، فيما اتّصلت به، بالمنظور العقليّ لدى المعتزلة وبالمنظور العرفانيّ لدى ابن عربي. ومن اللافت للانتباه أنّ المنزع العقليّ والمنزع العرفانيّ كلاهما لقي معارضة فكريّة كبرى من الحوض المعرفيّ الإسلاميّ عبر التّاريخ. ألا ننظر إلى قتل الحلاّج وحرق كتب ابن رشد ابن رشد مع الوعي باختلاف الأساليب والأزمان والنّتائج؟
على أنّ المشكل الأكبر المتّصل بسبب المحاكمة الأوّل ليس فحسب سياقيّاً ضارباً في جذور المخيال الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ. وإنّما هو سبب يثبت قيام محاكمة الفكر والرّأي على التّأويل. فأبو زيد لم يصرّح يوماً أنّه مرتدّ، والاعتراف سيّد الأدلّة. ولكنّنا عدنا إلى كتابات مناوئيه، فوجدنا أنّهم اعتبروا أنّ دعوة أبي زيد إلى ضرورة فهم الإسلام في سياقه التاريخي والجغرافي والثقافي، هي تعدّ على قدسيّة الدّين. ووجدنا أنّهم ذهبوا إلى أنّ دعوة أبي زيد إلى إعمال العقل في قراءة النّصوص الدّينيّة هي نفي للغيب ولغير المنظور بما هما من أسس الإسلام. ووجدنا أنّهم يرون في مراجعة أبي زيد لتطبيق الشّريعة الإسلامي عداوة للدّين بل خروج عنه.
والطّريف أنّ هذه التّهم، لا تعدو أن تكون قراءة تأويليّة موجّهة لنصوص أبي زيد. فيمكن أن يرى قارئ آخر في وَصْل الإسلام بسياقه التاريخي تمييزاً بين بُعد سياقي لا ينفيه أيّ دين وبُعد جوهريّ مفارق. وهذا ما يثبته اهتمام القدامى بأسباب النّزول، والتّمييز بين العامّ من الآيات والخاص إلخ. أمّا إعمال العقل والنّظر فممّا يدعو إليه القرآن في آيات عديدة. وأمّا النّظر في تطبيق الشّريعة فممّا أوقف العمل به عمر بن الخطّاب في مجال حدّ السّرقة، فلم يقطع يد السّارق سنة المجاعة، ومنع الزّكاة عن المؤلّفة قلوبهم منذ قوي الإسلام مجتهداً بذلك في صريح القرآن. فهل يعدّ عمر محارباً للشّريعة الإسلاميّة؟
إنّ محاكمات الرّأي تقوم على تآويل موجّهة، إذ يمكننا من خلال تآويل أخرى أن نعتبر أبا زيد من المجدّدين في الفكر الدّيني أو ممّن خدموا الإسلام ببيان أبعاده التّنويريّة. ولا أدلّ على تعدّد وجهات النّظر إلى الفكر «المحاكم» من تحوّله بتحوّل السّياقات التّاريخيّة من فكر منبوذ مقصى إلى فكر شائع معترف به. وليس سقراط وغاليلي المثالين الوحيدين على تغيّر الموقف من الفكر المحاكم بتغيّر المقام وإن كانا مثالين مفيدين معبّرين.
ب ــ الصّراعات الأيديولوجيّة والمصالح الشّخصيّة:
ارتبط اسم أبي زيد في هذه القضيّة باسم عبد الصّبور شاهين الّذي كان عضواً في اللجنة العلميّة المكلّفة بتقييم أعمال أبي زيد لبيان مدى تأهّله لرتبة الأستاذ. ويعدّ شاهين طرفاً أساسيّاً في توجيه الاتّهام إلى أبي زيد، ممّا بلغ ذروته مع المحاكمة. وقد نفى شاهين ذلك وأكّد أنّه تعامل مع كتابات أبي زيد مجرّد تعامل أكاديميّ إذ قال: «إنّ نصر أبو زيد طالب للأستاذية ولكنه فشل وسقوط طالب فاشل شيء طبيعي يحدث في كل زمان ومكان».
على أنّنا إذا عدنا إلى التّقرير الّذي كتبه شاهين، فإنّنا نجد تعاليق لا علاقة لها بالتّقييم الموضوعيّ العلميّ. فمن ذلك إقرار شاهين أنّ أبا زيد «لا يجرؤ على نشر أفكاره في المجتمع الّذي يرفضها ولا شكّ ». فهل من مهامّ تقييم البحث العلميّ استباق موقف القرّاء من الأبحاث؟ ثمّ إنّ شاهين يربط أعمال أبي زيد برواية «الآيات الشّيطانيّة» مشيراً إلى أنّها اشتهرت بـ«الفساد والهلوسة»، ولا ننسى خطر هذه الإحالة لأنّ دم سلمان رشدي كان مهدراً منذ أواخر الثّمانينات. وفي مواضع أخرى تتّضح التّهم التّكفيريّة المبطّنة في تقرير علميّ من المفروض أن يقتصر على تقييم المنهج والمضمون لا أن يصادر حرّية المعتقد والقراءة. فشاهين يتّهم أبا زيد بأنّه «يعمد إلى تشويه تاريخ القرآن» وبأنّه يقدّم «آراء منحرفة» ليؤكّد صراحة أنّ الباحث يكشف عن «خلل في الاعتقاد».
إنّ البحث العلميّ ليس مجال التفتيش في معتقدات النّاس وضمائرهم، ولكن يبدو أنّ لشرارة المحاكمة علاقة بصراعات إيديولوجية، فعبد الصبور عرف عنه التّعاطف مع الإسلاميين، وهو الّذي يقول: «المعركة الحقيقية هي بين الإسلام الصّحوة والماركسية المحتضرة في بلادنا... والمسألة لا تعدو أن تكون أوضاعاً مؤقتة ثم تمضي أقدار الله ساحقة كلّ من يعادي الإسلام». ولذلك فإنّ كلّ قراءة تجديديّة مختلفة للنّصوص الدّينيّة سرعان ما تتحوّل تهمة بالخروج عن الدّين ومعاداته. وليس من الصّدفة أن يصدر شاهين كتاباً بعنوان: «قصّة أبو زيد وانحسار العلمانيّة في جامعة القاهرة». فواضح من خلال العنوان أنّ شاهين يتمثّل الأمر صراعاً بين «إسلاميّين» و«علمانيّين»، وهو ثنائيّة إيديولوجيّة شائعة لدى البعض رغم سطحيّتها واختزالها.

3- مفارقة المحاكمات الفكريّة: الاعتراف بقيمة الفكر المحاكم:
إلام تهدف محاكمة الفكر؟
من نافل القول إنّ الفكر مجال حرّ لا يمكن أن ينفذ إليه أحد. فمهما عُذّب شخص أو سُجن فلا يمكن تغيير اعتقاده أو رأيه أو فكره أو تمثّله للمسائل. ومن هنا يمكن أن نفهم أنّ محاكمة الفكر لا تهدف إلى تغيير الفكر وإنّما إلى منع التّعبير عن الفكر. تهدف محاكمة الفكر إلى إلجام الأفواه. بعبارة أخرى، إنّ محاكمة الفكر لا تنشد تغيير المحاكَم وإنّما منع وصول أفكاره إلى جمهور المتقبّلين والحدّ من انتشارها بينهم.
على أنّ الأمر كان مختلفاً في محاكمة أبي زيد فلم تنجح المحاكمة في لجم الأفواه إذ انتقل الكاتب إلى بلاد أخرى وواصل التّدريس. ورغم أنّ بعض كتبه قد صودرت في مصر وسُحبت من السّوق فإنّها انتشرت وغدت متاحة للقرّاء حتّى بعد المحاكمة.
وإنّنا نذهب إلى أنّ صدى المحاكمة وتفريق أبي زيد عن زوجته لم يقصدا منع الكاتب من مواصلة البحث والتّفكير، وإنّما قصدا التّشهير به. وليس من الصّدفة أن تتكرّر أثناء المحاكمة وبعدها عبارات تشويهيّة لأبي زيد منها أنّه كافر يعادي الإسلام يمتلك أفكاراً مدمّرة وأنّه شوّه صورة بلده. إنّ محاكمات الرّأي تعي أنّ حرّية الفكر أنطولوجيّة جوهريّة، لذلك هي تحاول الحدّ من انتشار الفكر بتشويه صورة صاحبه لدى القرّاء المفترضين.
على أنّ المفارقة الكبرى الّتي تجسّمها محاكمات الفكر هي أنّها تؤكّد أهمّية الرأي المصادر من حيث تنشد تقزيمه، وهي تثبت قابليّة الفكر المحاصر على التّأثير في الغير من حيث تريد بيان ضعفه وخطله.
من خلال ما سبق كلّه نتبين أنّ محاكمة أبي زيد شأنها في ذلك شأن جلّ محاكمات الفكر يجب أن تُقرأ في سياقها التّاريخيّ بياناً لصراع بين فكر خارج عن الشّائع المتداول في مرحلة تاريخيّة مّا وفكر محافظ منغلق إزاء إمكان النّظر المجدّد المختلف. ويبلغ الصّراع أقصاه إذا ما اتّصل الفكر بالمجال الدّينيّ الّذي يعدّه البعض ملكاً خاصّاً لا يجوز النّظر فيه إلاّ لبعض من تضبطهم المؤسّسة الدّينيّة المهيمنة. إنّ الأمر لا يعدو أن يكون صراعاً على امتلاك السّلطة الرّمزيّة تعتمد فيه السّلطة الفعليّة من خلال المحاكمة. واللّطيف أنّنا لا نعرف محاكمة في التّاريخ منعت فكر صاحبها من الانتشار بل لعلّها كانت من عوامل انتشار ذاك الفكر وشيوعه. فالتّفكير يستمرّ حتّى زمن التّكفير، وأجنحة الأفكار، مهما يكن موقفنا منها، لا تحتويها السّجون ولا تقضي عليها المشانق، وإنّما تظلّ خالدة مساهمة في تراكم صرح النّظر الفكريّ البشري في تنوّعه واختلافه.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©