الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

البابا فرنسيس للمسيحيين: «Allah» هو ربنا

البابا فرنسيس للمسيحيين: «Allah» هو ربنا
31 يناير 2019 02:53

د. عز الدين عناية

اعتلى الأرجنتيني خورخي ماريو برغوليو سدّة كنيسة بطرس في روما في ظرف عصيب كانت تمرّ به الكنيسة الكاثوليكية، عقب الاستقالة المفاجئة للبابا بندكتوس السادس عشر (جوزيف راتسينغر). لم تكن الأجواء الصعبة محصورة بالداخل الكَنسي، خلْف نهر التيبر، وما تعيشه حاضرة الفاتيكان من ضيق، وما تعيشه الكنيسة عامة من تعكّرات وسوء انسجام مع العالم، بعد أن عانت حالة من الاحتباس شملت الشرق الأدنى، وامتدّت إلى الشرق الأقصى إلى غاية حدود الصين.

لعلّ أبرز مظاهر تلك التعكرات ما خلّفته مواقف البابا السابق راتسينغر، منذ خطابه الشهير في راتيسبونا، من احتقان وامتعاض مع العالم العربي ومجاله الإسلامي الأوسع؛ وما شهدته علاقات الكنيسة مع الصين من تفاقم التوتّر (منذ تطويب الفاتيكان صينيين في العيد الوطني للصّين الشّعبية، في مفتتح شهر أكتوبر من العام 2000، إبان تولّي راتسينغر رئاسة «مجلس مراقبة العقيدة»، وهو ما ردّت عليه بكين بتغيّب وفدها عن المشاركة في موكب جنازة الرّاحل كارول ووجتيلا)؛ ناهيك كذلك عن تواتر القلاقل في الهند لأسباب دينية، ورفع شعار «الهند للهندوس» في ردّ فعل على سياسات ومواقف للفاتيكان. مثّلت الفضاءات الثلاثة، العربية والصينية والهندية، عنواناً بارزاً لأزمة سياسة الكنيسة الكاثوليكية الخارجية مع العالم في عهد البابا المستقيل راتسينغر. جاء فرنسيس وتولّى قيادة سفينة مترنّحة، مثخَنة بالأعطاب، واستطاع الرجل، في ظرف وجيز، أن يخمد عديد الحرائق .

إعادة التأسيس
كيف تسنّى للبابا فرنسيس حينها كسب ثقة العالم الآخر؟ وأي استراتيجية للحوار اتخذها البابا الجديد ما جعله ينجح في تهدئة الخواطر؟
لا شك أنّ البابا القادم من جنوب العالم ما كان ليبلغ شأوا في كسب ثقة الآخر، لولا توافر عنصر الصدق والصراحة مع الذات ومع العالم. فقد سلك فرنسيس منذ مقدمه مسلكاً مغايراً داخل الكنيسة. آثر الإقامة في بيت القدّيسة مارتا المتواضع، زاهداً في القصر الرسولي المنيف، وتقلّدَ صليباً عادياً بدل الصليب المذهّب، وانحنى ليغسل أرجل المساجين ويقبّلها، من بين هؤلاء كانت امرأة مسلمة، وذهب إلى جزيرة لمبيدوزا للصلاة على أرواح المهاجرين الغرقى، وجالَس المشرَّدين، وشاركهم مأكلهم، وغيرها من الأفعال اللافتة.
فالرجل مؤمن إلى حدّ اليقين أن رسالة المسيح ما إن تنزع عباءة المركزية الغربية، وتتخفَّف من لحاف الرّسْملة حتى تعود إلى قلب العالم، وتجد الطريق الصواب للتخاطب مع عائلاته الدينية. استطاع الرجل في ظرف وجيز أن يُعيد الثقة المهتزّة بين الكنيسة وعالم الجنوب، وتسنّى له أن يسوّي عديد الملفات العالقة ، وهي قضايا عويصة. إذ يُدرك فرنسيس أن الكنيسة الكاثوليكية مع راتسينغر قد عانت من حالة تُشبِه النزيف: نزيف مسّ قطاع أتباع الكنيسة، حيث خسرت الكاثوليكية في البرازيل وحدها ما يناهز الخمسة وعشرين مليوناً من الأتباع على سبيل المثال، تحوّلوا نحو الكنائس الإنجيلية والتجمعات البنتكوستالية؛ ونزيف انخرمت بموجبه صداقات الكنيسة ولا سيما في العالم الإسلامي، بفعل الخطابات الفظّة والسياسات الدينية الخاطئة، ولاستعادة الميدان تبدو الكنيسة أمام ضرورة ملحّة لخلق بيداغوجية حوار جديدة.

بناء صرْح الإيلاف
فبعد أن دبّ الفتور في حوار الأديان، ولا سيما الحوار الإسلامي ـ المسيحي، بفعل السياسة الجامحة للفاتيكان في عهد راتسينغر (وهو ما دفع الأزهر الشريف إلى تعليق علاقاته لمدّة ناهزت العقد، منذ العام 2006، تاريخ إلقاء محاضرة راتيسبونا الشهيرة لِما تضمّنته من اتهام صريح للإسلام بالعنف على لسان رأس الكنيسة الكاثوليكية حينها)، انطلق البابا فرنسيس من يقين مفاده أن الأديان بريئة مما يطالها من تُهم وأباطيل، وأن أفاعيل السياسة قد فعلت فعلها في النَّيل من دين عظيم مثل دين الإسلام، فانبرى الرجل صادحاً منذ إصدار إرشاده الرسولي الأول «فرح الإنجيل» (Evangelii Gaudium) (في 24 نوفمبر 2013)، الذي هو عبارة عن خريطة طريق للكنيسة، ليؤكد البابا أن «العلاقات مع أتباع الإسلام، في هذا العصر، تكتسي أهمية كبرى لحضورهم في سلسلة من البلدان ذات تقليد مسيحي، ومن حقّهم إقامة شعائرهم بحرية والعيش في كنف تلك المجتمعات بأمان. وأنّ هؤلاء المسلمين على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرّحمن الرّحيم، الذي يدين النّاس في اليوم الآخر. وأن مرجعيات الإسلام المطهَّرة تتضمّن جوانب من تعاليم المسيحية؛ فالمسيح ومريم موقّران جليلان). كما أضاف في فقرة لاحقة من الإرشاد المشار إليه: «ولدعم الحوار مع الإسلام حريّ التكوين الجيّد للمتحاورين، ليس فقط ليكونوا متجذّرين بيقين ومرح في تقليديهما، بل وليكونوا مقتدرين أيضاً على الإقرار بقِيم الآخرين، وتفهّم القضايا المطروحة، وعرض القناعات الجامعة. وبالتالي علينا كمسيحيين أن نسعى جاهدين لاحتضان المهاجرين المسلمين الذين يحلّون بين ظهرانينا، بعطف واحترام، كما نأمل أن نلقى القبول ذاته والاحترام عينه من قِبل البلدان الإسلامية... وأمام بلايا الأصولية العنيفة التي تشغل بال الجميع، فإن التعاطف مع المسلمين الصادقين ينبغي أن يكون حائلاً دون التعميم، بناء على أن الإسلام الحق والتفسير الصائب للقرآن يتعارضان مع العنف «(الفقرتان: 252-253).
من هذا الباب حاول البابا فرنسيس إخراج العالم الإسلامي من دائرة الاتهام، سنده في ذلك إقرارٌ صريحٌ أن دين الإسلام براءٌ مما أُلحق به من عنف، وما صُنّاع ذلك الإثم سوى جماعة محسوبة على هذا الدين، صوّرها الإعلام الفاجر مثالا لعالم يطفح بالعنف، والواقع أن السواد الأعظم من المسلمين يتبرّأون من تلك الفئة الضالة ويرفعون شعاريْ البرّ والقسط مصداقاً لقوله تعالى:»لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».
لقد تضمّن الإرشاد الرسولي المشار إليه دعوةً عميقة للمراجعة والوعي، لا تقلّ أهمية عن تلك الدعوة الظاهرة، بأن المشاحنات الدينية قد رسّخت في الأذهان أن المسلمين بمثابة عُبّاد إله آخر مغاير لإله المسيحيين اسمه»Allah». حاول فرانسيس أن يشطب تلك الدعاية المضلِّلة وأن يعيد للتخاطب مع المسلمين نقاءه وصفاءه، ويقول لجمهور المسيحيين الواسع: إنّ الإله المزعوم والمختلَق هو إلهنا أيضاً، وهي اللفظة المستخدَمة من قِبل المسيحيين العرب ومن قِبل المسلمين على حدّ سواء. لقد فعلت مشاحنات الدهور فعلها ونجحت في تصوير المسلمين عبدة إله غريب عن التصوّرات الدينية الغربية.
هذا الوعي بجوهر الخلاف ردفه مسلك تقارب، اعتمد فيه البابا فرنسيس الحوار المباشر مع الآخر، الحوار الحي والعملي. فاختار أن يطوّر لاهوتاً عملياً، لم يبال فيه كثيراً باللاهوت النظري. وعلى خلاف سابقيه من البابوات (يوحنا الثالث والعشرين، وبولس السادس، ويوحنا بولس الثاني) ممن سعوا للتقارب والانفتاح على الآخر، ما كان اللاهوت العَقَدي دافعَه، بل حوار التواصل المباشر. إدراكاً بأن طبيعة العصر الذي نعيشه ما عادت تحتمل التعويل على الدوغما، فمن وجهة نظر فرنسيس تبدو المؤسساتية المجحفة خانقة للحوار، والإفراط في (لهْوَتة) الحوار من شأنه أن يجعل الحوار نخبوياً وبعيداً عن مشاغل الناس، لذلك مجمل الخطى التي خطاها هي أشكال من الحوار التواصلي العفوي المباشر.
يقول المثل العربي«آفة الأخبار رواتها»، وثمة وعي لدى البابا فرنسيس أن كثيراً من المتقدّمين للحوار يشكّلون عقبة للحوار، ولذلك تجد الرجل لا يعوّل كثيراً على المؤسساتية والشكلانية المعهودتين، ويحاول أن يخوض العملية باندفاع وعفوية.

حوار الأفعال
ناهيك عن تلك المستجدات شهدت فلسفة الحوار مع فرانسيس تطوراً آخر، فمنذ تولّيه شأن كنيسة روما أضحت قضايا الجنوب (سياسات التفقير، المديونية، البطالة، آثار الهجرة، مشاكل البيئة) قضايا متداولة في عظات البابا في قدّاس يوم الأحد، وفي إرشاداته ورسائله. اتخذ الحوار طابعاً اجتماعياً، وخفتت منه تلك الصبغة العقدية بعد أن كانت طاغية. باتت قضايا الناس مطروحة في عالم الدنيا وليست مؤجلة إلى يوم الدينونة. من هذا الباب دشّن فرنسيس ضرباً آخر غير معهود في الحوار، وهو طرح قضايا الناس والسعي قدر المستطاع لحلّها، وليس إغراق الناس في القوالب اللاهوتية المفارقة، فذلك ما لا يعني الناس كثيراً. بَيْد أنّ ذلك التحوير في بوصلة الحوار ما كان هيّناً، فقد كان البابا فرنسيس عرضة لعديد التوصيفات والانتقادات أنه بابا ثوري وشعبويّ وعالمثالثي، ومنهم من نعته بالبابا«الأفريقي» و«الآسيوي» و«الجنوبي» لفرط انشغاله بقضايا البسطاء والضعفاء، وقد بلغ ببعض الكتّاب حدّ التساؤل: هل البابا شيوعي؟ (آنّا ماريا كوسّيغا ضمن مقال صادر في«مجلة ليمس»الإيطالية مارس-2014 ص: 161).
في ظلّ هذا التحوير الذي أدخله البابا فرنسيس على فلسفة الحوار، لا بدّ أن نشير أن بعض الأجنحة المحافظة قد وقفت موقفاً حذراً من فرنسيس خشية إيغاله في دربِ الرحيل نحو آفاق العالم وأطرافه، بما قد يحوِّل كنائس الهامش إلى مركز. ولم تتوان في انتقاد انفتاحه على الآخر البعيد، وإهماله إلى حدّ ما أوروبا، فقد مَثّل لها خسران أوروبا خسران المسيحية، زاعِمةً أن كل تلك العملية تجري بما يفوق ما تسمح به تعاليم مجمع الفاتيكان الثاني وضوابطه. والواقع أنّ هذه النظرة الجامعة بين الكنيسة وأوروبا، ترشح بمركزية جلية، وهي نابعة من رؤية بنيوية مترسّخة. فلا غضاضة أن فرنسيس يريد أن يكون داخل العالم وينفر مما يُطلق عليه»عوْلمة اللامبالاة»، حتى أنه مع المسلمين يريد أن يذهب أكثر من التهاني التقليدية بعيد الفطر إلى حوار مشاعري، يحرص فيه على زيادة نسق الحوار لأجل تحويله إلى شأن معيشي كي لا يبقى موسمياً وظرفياً.
وبإيجاز إن يصدق توصيف على فرانسيس فهو بابا الصُّلح والتصالح مع العالم، إذ ثمة مشاريع تطبيع وتنقية للعلاقات مع العائلات الدينية الكبرى يخوضها الرجل، تستند إلى رصيد كبير من الصدق والصراحة والعفوية، وتقطع مع المناورة والأجندة، ولعلّ ذلك ما يحتاجه أتباع الأديان اليوم للعروج معاً نحو معارج الإيلاف.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©