الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تأويلات المنزل الأوّل

تأويلات المنزل الأوّل
27 سبتمبر 2018 00:28

كلنا نعرف هذين البيتين لأبي تمام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينُه أبداً لأوّل منزل
إلاّ أن شعراء آخرين يخالفون أبا تمّام الرأي. فمنهم من ردّ معارضاً:
نقّل فؤادك حيث شئت فلن ترى
كهوى جديد أو كوجه مقبل
عشقي لمنزلي الذي استحدثته
أما الذي ولّى فليس بمنزلي
وفي المعنى نفسه عارض شاعر آخر:
دع حبّ من كلفت بحبه
ما الحب إلا للحبيب الآخر
ما قد تولّى لا إرجاع لطيبه
هل غائب اللذّات مثل الحاضر؟
معنى مخالف للمعنيين السابقين ينشده شاعر آخر:
الحبّ للمحبوب ساعةَ حبّه
ما الحبّ فيه لآخر ولأوّل
وخلافاً لجميع الذين تقدّموا يقول آخر:
قلبي رهين بالهوى المقتبل
فالويل لي في الحبّ إن لم أعدل
أنا مبتلى ببليّتين من الهوى
شوقٍ إلى الثاني وذِكرِ الأوّل
لن تهمّني الأبيات السالفة من حيث إن موضوعها هو الحبّ، على الأقل بالمعنى المتداول للكلمة. ما يعنيني هو أنها تشير إلى حبّ خاص هو تعلّق الإنسان بموطنه وارتباطه بالمكان الأصلي، ارتباطه بالأصل. وهذا يعني أيضاً- كما سنتبيّن -علاقةً معيّنة بالزمان.

تواصل وانفصال
قبل أن نتساءل عن مفهومات الزمان التي تكمن وراء هذه الأبيات، لنقف عند التعلق بالموطن الأول والانشداد إلى المكان الأصل. فأبو تمام يرى أن الإنسان مهما تعددت المنازل التي يتنقل بينها، بل ويألفها، فإنه يظل مشدوداً إلى المنزل الأول، ولن تمحو تلك المنازل قطّ ذكرى المكان- الأصل.
أما الشاعر الثاني فيعتبر أن الموطن ما يفتأ يُستحدث، وأن ليس هناك ارتباط بما ولّى وغدا من باب الغياب، فالانشداد هو دوماً نحو ما سيأتي. عكس هذا ما يراه صاحب «لك الساعة التي أنت فيها»، ففي نظره ليس في الأمكنة ما هو أوّل ولا ما هو آخِر. لا تفاضل بين الأمكنة. فأنت حيث تقيم. منزلك هو حيث تنزل. الموقف الأخير يرى أن الإنسان لا يمكنه أن يجبّ ماضيه ويتناسى منازله السابقة. لا يتحدث هذا الشاعر عن منزل أوّل كأصل مطلق، وإنما عن تتالي المنازل التي يعلق بعضها ببعض. هناك ترحال بين الأمكنة، إلا أنه ترحال موصول مترابط الأجزاء، يتعايش فيه الشوق إلى الآتي مع تذكّر ما سبق.

مفهومات مكانية زمانية
هذه المفهومات عن المكان تغلّفها مفهومات عن الزمان. يعتبر أبو تمام أن هناك زماناً أصلياً ما يفتأ المرء يحنّ إليه مهما ارتمى في أحضان المستقبل. أصل مطلق لا يمحوه فعل الزمان. لحظة متميزة تظل سارية المفعول لتحدّد كل ما سيجيء بعدها. أما الشاعر الثاني فإن ما ولّى في نظره لا سبيل لأن يعود. ما هو قائم هو ما هو مستحدث. الإنسان ارتماء لا نهائي في المقبل من الزمان. ولن يكون الغائب قط في مستوى الحاضر غنىً أو لذةً. «لك الساعة التي أنت فيها»، يردّ الشاعر الثالث، الإنسان ابن لحظته. نمط الحاضر هو المعيش من أنماط الزمان، الماضي ولّى والمستقبل لم يحن بعد. وحتى الحاضر المقصود هنا ليس حاضراً ممتداً، إنه لحظة، أي ما يمكن أن نعبّر عنه هندسياً بنقطة التقاء يتقاطع عندها الماضي مع المستقبل. أما البيتان الأخيران، فيحيلان إلى زمانية موصولة تجعل كل لحظة مربوطة بسابقتها، ولا تفصل عمل الذاكرة عن حلم الخيال، فتجعل الارتماء في المستقبل مشدوداً إلى ما تقّدم. يتميز هذا المفهوم عن الزمان بأن صاحبه لا يمجّد اللحظة، وإنما يمجد الحاضر. إلا أنه حاضر دائم يشمل علاقة حاضرة بالماضي، وأخرى بالمستقبل.
يبدو لأول وهلة أن هذا المفهوم التركيبي الذي يحاول أن يوفّق بين أنماط الزمان هو أكثر المواقف إقناعاً. فهو لا يجبّ الماضي، ولا ينفي الحلم بمستقبل مغاير يجرّ صاحبه نحو ما سيكون. إلا أننا إن تمعنا في الأمر، سنلفي أنفسنا أمام زمانية موصولة، شبيهة إلى حد ما بالزمانية الهيجلية التي نذكر ما قاله م. هايدغر عنها من أنها تجعل الزمان حاضراً دائماً، فترى أن الحاضر الذي مضى ممتد في الحاضر الراهن، ومتطلّع إلى حاضر سيحضر. هي إذاً زمانية الميتافيزيقا وزمان الحضور.
وما دمنا نتحدث عن هايدغر، قد يبدو من المناسب أن نتذكر هنا ما قالته عنه حنا آرندت من أنه لم يتمكن من تخطي هذه الزمانية واستعادة الأصول إلا عندما قطع حبل السرة الذي يشده إليها. فالمرء لا يكتشف الماضي من جديد إلا إذا انفصم الحبل الذي يشده إلى الأصول. معنى ذلك أن أنجع وسيلة لإعادة الوصل بالديار الأولى هو الانفصال عنها. ولعل تشبيه العلاقة مع الأصول بقطع حبل السرة، من شأنه أن يوضّح المسألة أبلغ توضيح. ذلك أن القطع لا يفصل المولود عن أمه، وإنما يعيد الارتباط معها على نحو مغاير: إنه يفصل المولود عن الكائن البيولوجي ويقطع الصلة البيولوجية مع الرحم كي يربط المولود بصلة الأمومة. ها هنا يغدو الانفصال هو الوسيلة الممكنة للوصل، ولن يعود إحياء الماضي استذكاراً له، وإنما إعادة دفنه من جديد.

فضيلة النسيان
ما مآل المعاني الواردة في الأبيات السابقة والحالة هذه؟ هل نرفض مكانة المنزل الأول كما هي عند أبي تمام؟ هل نرفض كل معنى للأصل؟ ربما سيكون علينا هذه المرة كذلك أن نميّز مع هايدغر بين البداية والأصل، فنعتبر أن «البداية هي الغلاف الذي يحجب الأصل ويغلّفه»، وأن الأصل بداية مستأنفة. الأصل ما ينفك يبتدئ. إنه الفجر الذي لا ينفجر بغتة، ولا يفصح عن مكنونه إلا مساء الفكر. «الفجر يظل معتماً بالنسبة لذاته من حيث هو إشراقة أولى، ويأتي المغيب كي ينكشف الفجر من جديد في حقيقته التي كانت محجوبة».
وماذا نقول لمن ينادي بعيش اللحظة؟ من الممكن بطبيعة الحال أن نقبل دعوته، ولكن شريطة أن نفهم اللحظة، لا كتقاطع هندسي بين خطّين، وإنما كانفجار فيزيائي بين سلكي كهرباء. اللحظة، كما يقول نيتشه، «ليست هي أصغر جزء من الحاضر. إنها تفتُّح الحاضر أو تصدعه»، لذا يقول هايدغر إن الحاضر كلحظة يحدث فجوة في الحال الراهن. فاللحظي بلغة نيتشه هو ما يقوم ضد هذا الزمان intempestif، ما يقوم ضد الزمان الحاضر «فما هو ضد الزمان الحالي لحظي. اللحظي هو قرار التاريخ النقدي الذي ينزل، مثل الساطور، على ثقل الماضي وثقل الحاضر».
وهكذا سيكف الحاضر عن أن يكون قطعة من الديمومة المستمرة، وسيتحرر من ثقل الماضي الجاثم أو على الأصح، إن الماضي هو الذي سيتحرر من الحضور لنصبح أمام «حضور لا زماني للحاضر: حضور على شكل لحظة منسوجة على أرضية من النسيان. فليست اللحظة نقطة من الحاضر. إنها «منسوجة على أرضية من النسيان»، والنسيان كما يقول نيتشه، «هو قدرة إيجابية بالمعنى الدقيق للكلمة»، قدرة «تغلق، من حين لآخر، أبواب الوعي ونوافذه»، فتحُول دون تدفّق الماضي وسعيه أن يحضر ويحيا ويتطابق. النسيان «حارس النظام النفسي... ولولاه لما كانت هناك سعادة ولا اطمئنان ولا أمل ولا حاضر».
هذا الحضور اللازماني للحاضر، هو حاضر أكثر جذرية من التوالي والخلود. إنه الحاضر الذي ينطوي عليه اسم الوجود، والذي يلتقي عبره ما تمّ وما لم يتم بعد، أو بالأحرى يستجيب أحدهما للآخر بكيفية تخالف ما يعنيه شاعرنا بالتوالي، إن الحاضر والماضي والمستقبل، إن هذه الأنماط، عوضاً أن يتلو أحدهما الآخر، فهي «تتعاصر، خارج بعضها البعض، في عالم لا يكون فيه الحاضر هو الآن الذي يمر، بل إنه يمتد بعيداً حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©