الأحد 28 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غسان الحسن: «شاعر المليون» أنزلني عن السلَّم

غسان الحسن: «شاعر المليون» أنزلني عن السلَّم
6 أكتوبر 2010 20:43
بسبب الهوى الذي ملك عليه عقله ولبه، اختار الباحث الدكتور غسان الحسن أن ينقب في حقل بكر لم يطأه قلم باحث بعد، رغم كل ما يعنيه ذلك من صعوبات وعقبات كان في غنى عنها.. لكن لأهل الهوى في الإخلاص مذاهب، وقد تبنى الحسن في عمله البحثي مذهب أن نقطة الماء كفيلة بأن تصنع جدولاً. مؤمناً بهذه القناعة اندفع لدراسة الشعر النبطي الذي لم يكن أحد يعنى به على صعيد البحث الأكاديمي العلمي الرصين، فكان أول باحث بل الباحث الوحيد الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الشعر النبطي ويصدر بحثاً علمياً موثقاً وعميقاً في هذا المجال. وبهذا سجل شرف الريادة والإبداع في آن واحد. ولأنه أعطى لهذا الشعر اجمل ما في روحه وقلبه من عشق، كافأه الشعر بدوره بشكل جميل وكأني به يعتذر إليه عن التجاهل الذي سبق وأن عرفه في بدايات بحثه. الهوى نفسه هو الذي أخذ الحسن قبل ذلك الى حقل التراث الشعبي الفلسطيني. وتلك حكاية أخرى بدأت منذ الصغر، بطلتها المتوجة والدته التي كانت عاشقة هي الأخرى للتراث وله حضور في حياتها قولاً وممارسة، ومنها ارتشف جماليات الحكي وهي تسرد الخرافات والحكايات الشعبية وتضفي عليها من نظرتها الرومانسية وأجوائها التأثيرية ما جعله أسيراً لهذا العالم الغرائبي الفاتن، فكبر وهو يتمثله في شغاف روحه. ذهب الحسن الى الجامعة مع شغفه هذا ليجد في انتظاره سبباً آخر كرس حبه له، وساهم في تعزيزه في أعماقه. لقد شاء حسن حظه، كما يقول، أن يلتقي بالأستاذة الدكتورة نبيلة إبراهيم، وهي من أعمدة الدراسات التراثية والثقافة الشعبية ومن أوائل الذين أدخلوا هذه الدراسات إلى الجامعات المصرية. ومرة أخرى كان لأسلوبها الرائع في التدريس فعل السحر في دفع الحسن لإكمال الدراسة في حقل التراث الشعبي. بيد أن علاقة الحسن مع التراث الشعبي ليست أكاديمية فقط. إنها حكاية حب حقيقية جعلته يسقط التراث الشعبي على كل مجتمع يعيش فيه من المجتمعات العربية، ويستشعر أن الثقافة الشعبية فيها تخصه، من منطلق الحب أولاً ومن منطلق قومي عروبي ثانياً... إنها بتعبير الحسن نفسه: “هي لي، وهي ذاتي. ومن هذا المنطلق اتجهت لدراسة التراث الشعبي العربي، وعندما أقمت في الإمارات اتجهت للتراث، ووقع اختياري على الشعر النبطي بسبب قربه الشديد من الفصحى. وانتشاره بين الناس الذين يقولونه ببساطة وعفوية فيما الناس في العالم العربي يتعلمون العروض والبحور الشعرية بشق الأنفس ويجهدون في إتقان أسس الشعر وقواعده. ذاكرة البلاد ? يعرف الجميع أنك باحث في التراث الشعبي الإماراتي لكن قد يجهل كثيرون أنك من الباحثين الذين عكفوا مبكراً على جمع الموروث الشعبي الفلسطيني ونشرت فيه كتاباً بعنوان “الحكاية الخرافية في ضفتي الأردن”، وقد علمت أن لديك مخطوطات خاصة بالتراث الفلسطيني، هل تلقي لنا بعض الضوء على هذا الاهتمام خاصة أنك قمت بجمعها في ظروف صعبة بعد هزيمة 1967؟ ? بدأت الاهتمام بالحكايات الفلسطينية وجمعها ودراستها في عام 1967 أثناء دراستي للماجستير. لم تكن الظروف سهلة ولا مواتية. كان الناس مشغولين بتدبير شؤون حياتهم ومعيشتهم بعد الكارثة التي حلت بهم. لكن أخطر ما في الأمر كان انفراط عقد المجتمع الفلسطيني الذي يهدد بانفراط الذاكرة الشعبية، فالتراث ينفرط إذا انفرط المجتمع ويبقى ما بقيت المجاميع البشرية قائمة. لم يكن الظرف مناسباً على الإطلاق ليقوم شاب باستنطاق الناس حول حكاياتهم الشعبية فيما الحكاية الساخنة الحارة هي حكايتهم الواقعية التي تهدد وجودهم نفسه. رغم ذلك، كنت أحمل آلة التسجيل وأدور بينهم جامعاً ما أستطيع جمعه لأنني كنت أدرك أهمية اللحظة وأنها آخر اللحظات، ولن تتاح لي مرة أخرى. ? كانت تلك التفاتة مبكرة لأهمية الذاكرة الفلسطينية وما قد تتعرض له من طمس ونسيان وتشرذم، فهل كان لهذا الدافع حضور في عملك؟ ? هذا صحيح لكنه أمر اكتشفته فيما بعد. البداية بصراحة كان دافعها الحب الذي زرعته والدتي في داخلي للتراث. وفي مرحلة تالية كان هذا سبباً جوهرياً وصميمياً للاهتمام بالتراث الفلسطيني والشعب الذي كان عليَّ كمثقف وباحث أن أخدمه. وأعتقد أنني فعلت ما توجب عليَّ فعله على هذا الصعيد، واستطعت أن أحافظ على هذا اللون من التراث الشعبي، وعندي قرابة 100 حكاية خرافية من فلسطين والاردن مسجلة على أشرطة صوتية، ومدونة بلهجتها الاصلية، ومضبوطة بالحركات ومشروحة المفردات. وقد دونت في هامشها رواتها ورواياتها المشابهة من فلسطين والاردن وغيرهما. وقد جمعتها بين عام 1967 وعام 1971م. ولديَّ مجموعة من الأمثال الشعبية ( 1400 مثل شعبي) جمعتها من بلدتي “قلقيلية” في السنوات الأخيرة من الستينات. وما جهدي إلا أحد الجهود الكثيرة التي قام بها آخرون لحفظ وتدوين وتثبيت ذاكرة الشعب الفلسطيني التي ضاع منها الكثير للأسف. ? كأنك تهوى ركوب الصعب، وكما مع الذاكرة الفلسطينية كانت رحلتك مع الشعر النبطي صعبة، ما هي الصعوبات التي واجهتك؟ ? بالفعل، كانت رحلة صعبة، سواء على صعيد الموضوع أو على صعيدي الشخصي. اما الموضوع فلم أجد اي مرجع علمي او دراسة أكاديمية محكمة حول الشعر النبطي. صحيح أنه حاضر كشعر منتشر ويحفظه الناس ويتوارثونه لكنه كان غائبا كعنصر يستحق الدراسة والاهتمام، ويستحق أن يتفرغ له باحثون يكرسون أنفسهم لدراسته دراسة علمية وأكاديمية. كان هناك وعي بأهمية التراث كرابط للشعب والأمة بماضيها حتى لا تنفصل عنه بسبب التغيرات التي حدثت في البلاد أو تفقد ذاكرتها وتصبح بلا ماض ولا جذور. وكان الشيوخ وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قد أدركوا أهمية التراث ووجهوا بالعناية به والحفاظ عليه، وانعكس هذا الاهتمام على المستوى التطبيقي ووجد طريقه الى الاحتفالات والمناسبات وخصصت له برامج في الإذاعات والصحف لكنه لم يجد ترجمته على المستوى العلمي والدراسات في الجامعة. وربما لهذا السبب ظل الشعر النبطي حاضراً في الذاكرة والوجدان المعاصرين وله مكانة كبيرة جداً رغم أن الكثير من المظاهر التراثية والممارسات الشعبية تغيرت بسبب تغير الظروف. أما الصعوبات الخاصة فتمثلت في أمرين: الأول حاجز اللهجة، وهي لهجة لها خصوصيات وأعماق وأبعاد تظل خاصة مهما قال المرء أنه متخصص فيها، خصوصاً إذا ما استغرقنا في الأدب الشعبي. هنا يكتشف الباحث ثراءً كبيراً، لكنه ثراء خاص وليس مفتوحاً، بمعنى أنه خاص بالبيئة التي لها أسرار ومجاهيل لا بد من معرفتها وسبر أغوارها. أما على صعيدي الشخصي فقد وجدت تناقضاً بين رغبتي في دراسة الشعر النبطي ومتطلبات الحياة المادية اليومية التي ينبغي توفيرها.. لكنني اخترت حلمي. بدا الوقت حينها كأنه قفزة في الفراغ، فالشعر النبطي لا يدرس في الجامعات، وعندها لن تفيدني الدكتوراه مادياً وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، فقد خسرت كثيراً قياساً بزملائي الذين عملوا في الجامعات، لكنني ربحت نفسي وقدمت ما يرضي ذاتي وضميري. بعد ذلك تغيرت الصورة حيث انتقلت للعمل في وزارة الإعلام والثقافة في عمل قريب جداً من تخصصي. وحسناً فعل الأستاذ عبيد قصير الذي كان مديراً للإدارة الثقافية في الوزارة حين نقلني من وزارة التربية حيث كان لديه مشروع لجمع التراث الشعبي. وهكذا صارت الظروف المعاكسة هي نفسها ظروفاً مواتية أتاحت لي إكمال دراستي وأنا في الإمارات (ميدان البحث) وحلت لي معضلة الدوام الذي كانت تشترطه الجامعة. الرعيل الأول ? يدهشني أن تتحدث عن حاجز اللهجة وأنت ضليع بها، وقد عملت في الإدارة الثقافية لسنوات وتوليت مسؤولية شعراء النبط وتسجيلاتهم وتحقيق دواوينهم. ألم يفدكَ احتكاكك بالآباء المؤسسين لهذا الشعر؟ ? هؤلاء تحديداً كانوا خير معين لي في التغلب على مشكلة اللهجة ومعرفة خباياها ومدلولاتها وليس فهم معانيها فقط. كانوا الرعيل الأول من شعراء النبط (الآن لم يبق منهم إلا القليل). سمعت منهم، وجلست إليهم وسألتهم وناقشتهم وعرفت منهم معلومات جمة. كانوا ثروة حقيقية، ينشدون الشعر بالسليقة وبعفوية. لقد عمقوا معرفتي باللهجة والشعر والحياة وأخذت أسأل وأحلل وأقارن شعرهم بالشعر العربي الفصيح حتى تبلور عندي شيء أراه مهماً جداً، وإنه لكذلك، وهو أن هذا الشعر له أسس علمية وقواعد وأوزان ومعايير وقوالب فنية ناقشتها في دراستي التي استغرقت خمس سنوات وطبعت في جزءين، وأصبحت بحمد الله المرجع الأول للشعر النبطي. وأنا الآن بصدد إضافات أخرى لها. ? ينظر البعض الى جهودك في مجال الشعر النبطي كمحاولة فريدة لتأسيس مدرسة نقدية لهذا الشعر، وأنت قلت ونظَّرت وكتبت أن الشعر النبطي لا يختلف عن الشعر العربي الفصيح، ما هي مبرراتك في تبني وجهة النظر هذه؟ ? لقد اتضح لي أن الشعر النبطي له بالفعل ضوابط وقوانين وأسس على صعيد البناء الفني والصور الشعرية والبحور والقوافي وغيرها، وهي ضوابط في غاية الصرامة لست أنا من وضعها بل أهل هذا الشعر. أنا فقط كشفت عنها وقعَّدتها. وحين أوغلت في دراسة هذا الشعر كنت أجد شيئاً غريباً من حيث أفقه المجتمعي واستمراريته. فالناس ظلوا منذ ألف سنة على الأقل يحملونه ويتناقلونه بسهولة ويسر، ومن المدهش كيف يحافظون على هذه الدقة في القول والتلقي وكيف يحافظون ايضاً على الأسس الاولى له وهي الأسس التي قام عليها الشعر العربي الفصيح. إن تفعيلات الخليل هي الأساس في الشعر الفصيح والشعر النبطي لكن الأول ظل مقيداً بضوابط القيمين عليه الذين منعوا تطويره وتوسيعه من داخله وظلت بحوره الستة عشر هي نفسها مع تفرعاتها التي تصل الى 121 فرعا. بينما رصدت في النبطي 47 بحراً في دراستي السابقة وبين يدي الآن أكثر من 75 بحراً أساسيا كلها تستند الى القوانين والأسس الفنية نفسها في الشعر العربي علاوة على ما لها من عشرات الفروع والتنويعات الوزنية. الفارق بين شعراء الفصحى وشعراء النبط أن شعراء النبط فتحوا أمامهم أبواب البحور المهملة والمقلوبة والمفترضة وزاوجوا بين التفعيلات وقلبوا البحور وزادوها وأنقصوها فخرجت لنا منظومة موسيقية هائلة كلها تنتمي الى الأذن العربية الأصيلة التي كانت موجودة في الجاهلية ولم تشذ عنها في شيء. وهذا في رأيي من الذكاء الفطري العربي الجمعي الذي افتقده شعراء الفصحى كأفراد. ما أود قوله أنه إذا كان شعراء الفصحى قد ضاقوا ببحور الشعر وعروضه فذهبوا الى الغرب يستقون منه وغيروا بنية القصيدة العربية واسسها الفنية فإن شعراء النبط فعلوا ذلك في إطار الشعر العربي، وتنقلوا بين التفعيلات. لقد صنعوا من فاعلات على سبيل المثال عشرين منظومة وزنية وهذا يدل على إحساس نام جداً بالموسيقى الشعرية ولكن النقاد والدارسين أهملوه وأشاحوا بأعينهم عنه للأسف بدعوى أنه جاء على لسان شخص عامي لا يكتب ولا يقرأ، ونظروا إليه على أنه من سقط المتاع او ماشابه.. لكن في حقيقة الامر كان شعراء النبط أكثر عمقاً وتشبثاً وأكثر دراية بالمساحة الموسيقية التي يشتغلون فيها شعرياً. ثراء أم فوضى!! ? لكن البعض لا يرى في هذا الثراء الذي تتحدث عنه أكثر من فوضى كلامية، ما رأيك؟ ? من يقولون إن هذا الشعر فوضى كلامية أظن أن عليهم ان يراجعوا انفسهم، لأن هذا الشعر له أسس فنية وأسس بنائية وأسس موضوعية معروفة ودقيقة بحيث يمكن محاكمة القصيدة بناء عليها، تماماً كما في شعر الفصحى. وهذه واحدة من الأهداف او المنطلقات التي تأسس عليها برنامج شاعر المليون. وأنا الآن بصدد كتاب موسوعي اسمه “معايير الشعر النبطي” اتطرق فيه الى كل ما يتعلق بالشعر النبطي من أسس. ومن يقول إن هذا الشعر فوضى كلامية عليه أن يقرأ مقدمة هذا الكتاب فقط. هذا فن جميل وأدب له أسس وفنون لها من الدقة على المستوى التطبيقي ما يفوق ما هو موجود في الفصحى وأنا مسؤول عن كلامي. يكفي أن أذكر لك أنني عندما انتهيت من تناول موضوع القافية وجدت لدي 700 صفحة تتحدث عن معايير القوافي في الشعر النبطي. ثمة مسألة أخرى مهمة وهي أنني لا أفتخر بهذا الشعر كشيء شخصي. بل يعنيني هذا الإنتاج الجمعي، وهذه العقلية العربية المبدعة التي تمكنت من إبداعه وحفظه لتوصله لنا. ولا يجوز أن نلقي به في سلة المهملات في حين أنهم في الغرب يبحثون في ركام ذاكرتهم الشعبية عن شيء ذي قيمة حتى يبرزوه، فيما نحن نلقي بنصف ثقافتنا الى المزابل بحجة أنها مكتوبة بالعامية. لا أريد أن أظهر وكأنني أشجع العامية أو أنني في عداء مع الفصحى لأنني شديد الاعتداد باللغة العربية الفصحى وهي هويتي وذاتي الثقافية لكن لا يجوز ان نلغي الفنون التي قيلت بالعامية لأنه لا يوجد عليها ضمة ولا كسرة. كما لا يجوز تقسيم الثقافات على أساس فتحة وكسرة وضمة. ثم إن لدينا 1500 سنة من الآداب العربية المدونة لو أردنا البحث عن اثرها في آداب الأمم الاخرى، ماذا نجد؟ سنجد أن ألف ليلة وليلة قد ظهرت في آدابهم وأشعارهم ومسرحياتهم وموسيقاهم وفنونهم، وحكاية قيس وليلى وكلتاهما تنتمي الى الأدب الشعبي. كذلك سيرة عنترة وسيرة بني هلال بل إنني أزعم أن سيرة بني هلال هي الوحيدة الآن التي توحد بين الشعوب العربية في كل مكان. وهي موجودة في المغرب والمشرق من طنجة إلى أبوظبي حيث تحورت لكي تناسب كل مجتمع في خصوصياته لكن عمودها الفقري هو نفسه. بالمقابل كم وصل من شعراء الفصحى وكم منهم ترك أثراً في الآداب الأخرى؟!. لقد أدرك ابن خلدون هذه القضية منذ ثمانمئة عام وثمن الشعر العامي وقال إنه لا يجوز الحكم على الشعر من خلال حركات الإعراب. فالادب أدب واللغة لغة والنحو نحو ولكل مجاله ووظائفه. مرة أخرى لست ضد شعر الفصحى لكنني ضد الإجحاف والإهمال الذي تعرض له الشعر العامي بشكل عام والشعر النبطي بشكل خاص وغير ذلك من مفردات الثقافة الشعبية العربية. ? يرى آخرون أن هذا النهج في حال سلكه شعراء الفصحى كان سيعفي الشعر العربي من مشكلات كثيرة أقلها ما يشكوه من عزوف الجمهور ونخبوية متلقيه وتراجع تأثيره لدى الناس، ماذا ترى؟ ? هذا ما قلته وأقوله. بصراحة شعراء النبط استطاعوا أن يتوسعوا في الموسيقى الشعرية وأن يبقوا في الأذن العربية ولم يخرجوا عنها لا في البناء ولا في الإطار ولا في الإيقاع. لقد ظلوا في الاطار الفني وانطلقوا الى آفاق رائعة وكأنها شجرة باسقة على نفس الجذع او نفس الجذر وهو شعر الفصحى. مرة أخرى لا أريد أن أبدو وكأنني مناصر للشعر النبطي ضد الفصحى، لكنني لا استطيع إنكار المأزق الذي يعيشه الشعر العربي. لقد كنا نحرص في الموسم الثقافي لوزارة الإعلام لسنوات طويلة على إحضار شعراء الفصحى من كل الدول العربية والمغتربات، وتذكرين ان حضور الامسيات لم يكن يزيد على خمسة او عشرة او عشرين وربما ثلاثين او أربعين شخصاً في احسن الاحوال بينما عندما كنا ندعو شاعراً يكتب الشعر العامي كان المكان يضيق بالجمهور رغم انه يتسع للآلاف. هذه ظاهرة لم أخترعها أنا. والسؤال: لماذا يأتي الإنسان العادي للشاعر العامي ولا يأبه بشاعر الفصحى؟. ربما الانتماء هو السبب. الانسان العادي يرى صورته وآلامه وأفراحه وأتراحه في الشعر العامي لأنه يعبر عنه ولا يمكن ان يراها لدى شاعر يحمل فكر اليوت وأساليبه. الشعر الفصيح كلما غرب نفسه كلما فقد جمهوره العربي وصار اكثر نخبوية. بالطبع ثمة شعراء فصحى كانوا يجذبون الجمهور وهؤلاء إما لأنهم ما زالوا يكتبون على الخط العربي الاساسي في الشعر او لأنهم يتبنون قضايا كبرى ويعبرون عن هموم الناس. ? وماذا عن شاعر المليون، كيف تنظر إليه؟ ? أولاً وقبل كل شيء فإن فكرة برنامج شاعر المليون هي فكرة عبقرية بحق، وجزى الله مبتكرها كل خير. ولي في هذا البرنامج نظرتان: عامة وخاصة. اما الخاصة فهي أنني استطعت من خلال هذا البرنامج أن أنزل عن السلم الذي كنت أرقص عليه، بمعنى: طوال بحثي في الشعر النبطي كنت بالنسبة لأهل الإمارات كغريب دخل إلى حماهم، وبالنسبة للمجتمع الفلسطيني والأردني كأنني من الإمارات ولست منهم لأنني أكتب وأبحث في تراث الإمارات. بعد البرنامج رآني الناس هنا وهناك وهذا ليس غروراً. لديَّ 30 مؤلفا صار لها بعد شاعر المليون قيمة معنوية. هذا البرنامج اعاد الاعتبار والقيمة لإنجازاتي العلمية التي سفحت عمري لتحقيقها وهذا امر في غاية الأهمية بالنسبة إلي. أما العامة فأعتقد أن “شاعر المليون” يحقق رسالة رائعة ويبدد بعض الأوهام الشائعة حول الثقافة الشعبية مثل القول بأن الشعر النبطي يظل حبيس المنطقة التي تنتشر فيها اللهجة وهذا كلام صحيح الى حد كبير. لكن الغريب أننا في جولاتنا نكتشف العكس تماماً، وفي المغرب وليبيا والأردن وغيرها فوجئنا بأن الناس تتابع البرنامج، وأنا أتحدث عن أناس عاديين: جرسونات في مطاعم، عمال، في الشارع وفي الحافلات كانوا يسألوننا لماذا فعلتم كذا بالشاعر الفلاني ولماذا قلتم كذا للشاعر العلاني. وكنا نسألهم هل تفهمون الكلام الذي يقال كانوا يقولون أنهم يفهمونه بنسبة 70% ومع التعود يلتقطون أكثر. ويبدو أن التفسير موجود لدى الشعر.. ويبدو ان الشعر هو الوعاء الحقيقي للثقافة العربية، إنها سلطة الشعر. أشباحنا التي نصنعها ? يرى المشتغلون في التاريخ الثقافي والباحثون في التراث الشعبي أن المنتج الشعبي أكثر مصداقية في التعبير عن الناس وواقعهم وأنظمة حياتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها، ولهذا يولونه عناية اكبر ويعولون عليه في الدفاع عن خصوصية اي مجتمع مقابل العولمة، هل تعتقد أن هذا الرهان يصلح عربياً؟ وهل العولمة غول علينا محاربته فعلاً؟ ? أحياناً نحن نصنع أشباحنا لنخاف منها. هذا لا يعني إنكار مقدار الخطر الذي تمثله العولمة على الثقافات الأخرى لكن العولمة في النهاية نمط حياة واسلوب عيش سائد في هذا الوقت. في الماضي كانت العولمة عربية حين كانت الحضارة العربية الإسلامية في حال متألقة. بالطبع، لا يمكننا وقف العولمة ولا الانعزال عنها لكن يمكننا ان نرى أنفسنا داخل العولمة وأين نحن وكيف نبدو. علينا أن نصنع لوننا الخاص الذي يميزنا عن الآخرين، ولن نصنع لوننا إلا من خلال ثقافتنا. هذا يعني أن نتبنى الثقافة لأنها هي المستهدفة. والثقافة حين تتحول الى تطبيقات تصبح ملابس وأزياء وأطعمة ونمط بناء وغيرها. لكن الرهان في تقديري ينبغي ان يكون على الإنسان نفسه. هذا الكيان الذي يسير على قدمين عليه أن يبحث عن خصوصيته الثقافية ويتمسك بها من دون أن يتعولم التعولم المؤدي الى الذوبان، وفي حال كان التعولم ضرورياً فليكن في مسائل علمية وتقنية تسهم في تطوير الحياة والارتقاء بها. لا يعقل مثلاً أن يرفض المرء السيارة أو التلفزيون أو غيرها من وسائل الحياة لأنها من منجزات الحضارة المعاصرة لأنه بذلك يحارب نفسه. هنا تظهر أهمية الثقافة الشعبية والتراث الشعبي لأن الخصوصية الثقافية يمكن العثور عليها في ما أنتجه الشعب وما أنتجته الذاكرة الجمعية وما على الإنسان إلا أن يتصور ذاته الصغيرة داخل ذاته الكبيرة: ذاته العربية. وأعتقد أن فرص الصمود أمام تحديات العولمة متاحة إذا تم التركيز على الثقافة الشعبية وأعني بها الثقافة الخاصة بالمجتمع. إن الكلمة المفتاحية في هذه القضية هي الإنسان، هل ينتمي الى مجتمعه وثقافته ويعي صورته ودوره، إذا كان الجواب بالإيجاب فإنه يستطيع أن يتعاطى مع كل شيء باتزان ويحمي داخله وفكره وقناعاته من أي تشوهات سواء جاءت بها العولمة أو غيرها. بالطبع، هذه ليست دعوة للجمود ولا للسكون بل للإنتاج والعمل، وإلا تحول التراث الى خيال وأوهام وذكريات ماضوية. وفي حال اراد الانسان ان يظل مستهلكاً كما هي الحال في مجتمعاتنا العربية – للأسف – فإن الغزوة صعبة جداً والإبقاء على التراث ليس سهلاً البتة. ? أنت من جيل الحالمين الذين كانت لهم أحلام كبيرة على مستوى الأوطان ووحدتها والبلاد وعودتها، ترى ما الذي تحقق من هذه الأحلام وما الذي تكسر على صخرة الواقع الصلد؟ ? كأنك تسألين عن الفرق بين الواقع والمثال. كثير من الأحلام تكسرت لكن الفكرة نفسها لم تخدش بالنسبة لي. ما زلت أحمل القضايا التي كنت أؤمن بها في داخلي رغم أن الكثير من مجريات الواقع تتناقض معها او تشدخها. بالنسبة لنا نحن العرب نعيش مرحلة صعبة، لم نعد من أهل القمة ولا فاعلين ولا موجهين على صعيد الحضارة. هذه طبيعة الحياة والدولاب يدور... ? هل هناك أمل في المستقبل؟ ? الأمل موجود لكنه يحتاج الى عمل وجهد وبناء. هناك فرق بين أن يكون شعب او مجتمع ما في حالة بناء وبين أن يكون في حالة تراجع أو بكلام أدق يحاول أن يزيل أسباب التراجع لينهض. نحن ما زلنا نحاول النهوض منذ زمن طويل. غسان الحسن.. مشوار أكاديمي الدكتور غسان الحسن، باحث في التراث الشعبي ومستشار الأدب الشعبي في أكاديمية الشعر في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، عضو لجنة تحكيم “شاعر المليون”، يحمل درجة الدكتوراة الوحيدة في العالم في الشعر النبطي، وله 30 كتابا تناولت كل ما يتعلق بالشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، علاوة على 300 مقال وبحث تطبيقي في هذا الشعر نشرت في صحف ومجلات ودوريات متخصصة. ومن أهم مؤلفاته: الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية في جزءين، مانع سعيد العتيبة في شعره النبطي، بين يدي اللغز، الحكاية الخرافية في ضفتي الأردن، ديوان الشاعر حمد بن علي المدحوس المري، بنت بن ظاهر، قراءات في قصائد نبطية، الشعر النبطي وشعر الفصحى وغيرها... ? عمل منذ عام 1966 ـ 1977م في حقل التدريس في كل من الأردن وليبيا والإمارات، ثم انتقل للعمل في وزارة الإعلام والثقافة منذ 1977م رئيسا لقسم التأليف والنشر ثم نائباً لمدير الإدارة الثقافية. ? له إسهامات في الحقل الثقافي حيث عاصر الحركة الثقافية في الإمارات وشارك فيها باحثاً وكاتباً ومحاضراً ومنظماً ومشرفاً على الفعاليات الثقافية المختلفة خاصة الموسم الثقافي لوزارة الثقافة والإعلام، ووضع اللائحة الداخلية لمشروع مجلة “المنهل الثقافي” 1986م، وكان عضواً في الهيئة الاستشارية لمجلة الفن والتراث الشعبي 1994، ومجلة معالم ثقافية 1996م، ومارس الإشراف الأدبي على مجلة الصقار 2002. أسس وترأس المنتدى الثقافي العربي في الجمعية الأردنية 1988 ـ 1991م. له إسهامات في الحقل الإعلامي حيث كتب مقالات شهرية ثابتة في كل من: مجلة درة الإمارات ـ أبوظبي 1990 ـ 1992م، مجلة الرياضة والشباب - دبي 1992 ـ 1999، مجلة الصدى 1999م – 2003م، مجلة (الصقار) الفصلية- أبوظبي 2002. نشر أبحاثه في عدة مجلات عربية ومحلية: مجلة الفنون الشعبية الأردنية، مجلة المنهل السعودية، مجلة معهد العالم العربي ـ باريس، ومجلات الرافد والمنتدى والفن والتراث الشعبي وليوا ومزون في الإمارات. أما إذاعياً فقد كتب برنامجاً إذاعياً عن الشعر النبطي في ثلاثين حلقة، وشارك في حلقات برنامج السهرة الثقافية وندوة الاربعاء والمجلة الثقافية وشارك في إعداد وتقديم برنامج أضواء على التراث وكلها لإذاعة أبوظبي. عضو في عشرات اللجان التي تعنى بالتراث والشعر النبطي، ولجان تحكيم المسابقات الأدبية والإبداعية والمسرحية وغيرها. وأشرف على مجالس الشعراء النبط – وزارة الإعلام والثقافية 1979، وهو عضو هيئة تحرير موسوعة الفلكلور الفلسطيني. وعضو الهيئة الاستشارية لوضع الاستراتيجية الوطنية لتقدم المرأة ـ الاتحاد النسائي ـ أبوظبي 2002م. شارك في منتديات وملتقيات ومؤتمرات محلية وعربية أهمها: إعداد وتنظيم حلقة دراسية بعنوان “المظاهر المسرحية في التراث الشعبي لدولة الإمارات العربية المتحدة” في 1987م، وندوة “الطفولة في مجتمع متغير: دولة الإمارات العربية المتحدة” في 1988م، وندوة “مصادر التاريخ في دولة الإمارات العربية المتحدة” في 2003: بحث الشعر والتاريخ في دولة الإمارات العربية المتحدة، وندوة “إشكالية النشر والتوزيع في دولة الإمارات العربية المتحدة” ندوة الثقافة والعلوم 2003: بحث وزارة الإعلام والثقافة ودورها في نشر وتوزيع الكتاب الإماراتي. وملتقى ابن لعبون بالكويت: بحث العلاقات بين القصيدة النبطية والفصيحة، والملتقى الأول للشعر العربي في المغرب: بحث الفنون الشعرية والحركية لبادية الإمارات، والملتقى التكريمي للدكتور مانع العتيبة في المغرب: بحث الدكتور مانع سعيد العتيبة: شاعران في شاعر وغيرها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©