الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الحداثة وما بعدها

الحداثة وما بعدها
31 أكتوبر 2019 02:18

شكل المشروع الحداثي الغربي الذي بدأ منذ القرن 18، نموذجاً يحتذى به من طرف كل المجتمعات التي تطمح إلى تغيير أوضاعها والرقي بشعوبها. لقد كانت الحداثة تدل دوماً على التقدم والتطور وشمولية العقلانية والعلم والثورة التكنولوجية، وعلمنة المؤسسات المكونة للدولة. لكن بدءاً من العقود الأخيرة للقرن العشرين بدأت مجموعة من الأسئلة تطرح بصدد نموذجية هذا المشروع، ثمة شيء ما يحدث، لم يعد للتقدم المعنى الذي كنا نعطيه إياه. فالإنسان الغربي اليوم فقد ذلك اليقين المطلق بالخلاص الذي بشرت به الحداثة. لقد تغير مفهومها عنده، من هنا ظهر تعبير ما بعد الحداثة، فما هي مرتكزات هذا الاتجاه الجديد؟ وما هي الأسس والغايات التي تسم صراع الحداثة وما بعد الحداثة، خصوصاً بين المدارس الثلاثة الأساسية المشكلة للفكر الغربي: المدرسة الفرنسية، الألمانية، والأميركية؟

يعتبر مفهوم الحداثة من المفاهيم الواسعة الفضفاضة التي يتسع معناها للكثير من الدلالات والتي قد تغطي جوانب متعددة، منها ما هو صناعي وعلمي وتاريخي وثقافي.. فمفهوم الحداثة يتسع مضمونه ويتحرك بحركية المجتمع والتاريخ، وحركية هذا المفهوم في اعتقادنا هي التي أدت إلى ظهور هذا المفهوم القريب منه والمضاد له في الآن ذاته، ألا وهو مفهوم ما بعد الحداثة. هذا الأخير الذي ينطبق عليه كذلك ما ينطبق على مفهوم الحداثة. إنه مفهوم زئبقي يستعصي على التحديد، ولكن ليس فقط بسبب شساعة المواضيع التي يتناولها، سواء في الفن أو المعمار أو الموسيقا أو الأدب.. لينتهي إلى المنظومات المعرفية والعلمية، ونقد الأنساق الفلسفية الميتافيزيقية، ولكن أيضاً ـ وهنا تكمن خصوصيته في مقابل الحداثة ـ بسبب كونه عبارة عن مفهوم مضاد للمفهمة، أي أنه مفهوم يحاول الاشتغال على هامش العقل الغربي، وتبجحه بإمكانية فهم وتعقيل كل مظاهر الوجود.
لقد وضعت ما بعد الحداثة رحلة العقل الغربي بمستوياته كافة في الباب المسدود، فالمفاهيم البراقة التي ارتكز عليها الخطاب الميتافيزيقي أصبحت الآن موضوع تفكيك مستمر مثل الوعي، المعنى، الحقيقة، الغاية، السببية.. وهكذا إذا كانت الحداثة قد تجاهلت منذ البدء أزماتها الداخلية والأسئلة المحرجة التي تطرحها عليها صيرورة التقدم، بحيث إنها وكما قال بودريارد: «لا تحل هذه الأزمة، بل تعبر عنها بطريقة غامضة بهروب مستمر إلى الأمام»، فإن الحداثة البعدية على العكس من ذلك تماماً، تحاول الخروج من هذه الأزمة عن طريق النقد، بل ونقد النقد، إذ كيف يمكن الاعتقاد منذ الآن في هذه القيم والمثل البراقة التي أعلنتها فلسفة الأنوار، في حين ومنذ الحرب العالمية الثانية بدأنا نرى دخول العلم في معترك الحرب والقتل الجماعي للبشرية، بدأنا نرى كذلك انهيار حلم الرأسمالية بالقضاء على الفقر والتبعية في كل بقاع العالم، نرى كذلك انهيار الإيديولوجيات الاشتراكية التي راهن عليها مثقفون من كل بقاع العالم، وذلك عندما ظهر طابعها الطوطاليتاري مع الستالينية وأرخبيل الغولاغ. وبكلمة واحدة، فالحداثة البعدية تنتقد المشروع الأنواري على جميع المستويات والواجهات، سواء الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية.
حينما نتحدث، إذن، عن ما بعد الحداثة، فنحن نتحدث عن نقد جذري لمشروع الحداثة الغربي، ورثاء حزين لملاحمها الفكرية الكبرى. هذا يعني في العمق أن ما بعد الحداثة ليست بالأساس مضادة للحداثة، ولكنها مناهضة بالتحديد للمشروع الغربي للحداثة. إن هذا هو ما يدفعنا إلى القول بأن ما بعد الحداثة هي في حقيقة الأمر إبداع حر لأنماط من الحداثات البديلة التي تتجاوز نموذج الحداثة بالمفهوم الأنواري الكلاسيكي، بل هي تبني نموذجاً يتجاوز نفسه باستمرار.
ولكن إذا كان الأمر يتعلق فقط بالنقد والمراجعة الواعية للبرنامج الحداثي الأنواري، فلماذا تواجه ما بعد الحداثة بنقد مضاد يصل أحياناً إلى التجريح والسخرية من طروحاتها؟ ألم ينبني المشروع الحداثي نفسه على النشاط النقدي، سواء ذلك الذي واجه به ديكارت إرث المدرسة السكولائية، أو ذلك الذي بلغ به كانط أوجه، حتى لم يبق هناك أمام الفلسفة إلا «طريق النقد كطريق مفتوح» على حد تعبيره. لماذا لم تلق أفكار وطروحات ما بعد الحداثة قبولاً وإجماعاً من طرف غالبية المثقفين والمفكرين في الغرب؟
السبب في ذلك يعود إلى كون ما بعد الحداثة لم يتوقف مشروعها على قراءة الأزمة التي تعيشها الحداثة اليوم، وهي أزمة واقعية وملموسة يعترف بها مناصرو الحداثة نفسها. ولكنها أكثر من ذلك ـ هذا بالخصوص في المدرسة الفرنسية ـ ذهبت إلى حد القول بموت الحداثة، أي بأفول مجمل الشعارات والمثل التي رفعها المشروع الأنواري، بدءاً من القرن الثامن عشر.

ثلاثة مشاريع فلسفية
هل يمكن القول إن المشروع الأنواري قد فشل تماماً وعلينا الاستغناء عنه وفتح المجال لتساؤلات أخرى ممكنة، كما يقول جان فرانسوا ليوطار؟ أم أن هذه الأزمة هي أزمة طبيعية ويمكن حلها بإيجاد العلاقة التوازنية بين التقدم والكينونة الإنسانية، وبالتالي سيكون مشروع الأنوار ناقصاً، علينا إكماله باستدعاء منطلقات فكرية جديدة، كما يرى يورغين هابرماس، أم أنه يمكن تجاوز هذا الإشكال واقتلاعه من جذوره، إذا ما انطلقنا، كما يرى ريتشارد رورتي، من تقاليد الفلسفة البرغماتية الأميركية التي تتيح لنا الإمساك بمبدأ آخر للتنوير يختلف عن المبادئ التي يطرحها كل من هابرماز وليوطار؟
هكذا، إذا كانت هذه الاتجاهات تتفق حول ضرورة نقد وتشخيص أعراض أزمة الحداثة الغربية، فإنها تختلف حول أسبابها وسبل تجاوزها. فهابرماز يتحدث عن ما بعد الميتافيزيقا، أي ضرورة تقويم فلسفات الوعي الأنوارية من أجل فتح المجال أمام فلسفة للفعل التواصلي. أما رورتي فهو ينادي بما بعد الفلسفة، أي بتلك الفلسفة التي لا تهتم بالتأسيس النهائي للحقيقة، بل تتشبث بالتساؤل عن مجموع الأمور النافعة بالنسبة لثقافة بعينها. أما ليوطار فهو لا يرى في هذه الأزمة سوى سبب للحديث، بل والمطالبة بما بعد الحداثة، إذ لم تعد في نظره أية إمكانية للحديث عن تقويم أو إصلاح للمشرع الذي بدأه الأنواريون. إن ما بعد الحداثة تشكل في منظوره أزمة مشروعية حقيقية لا يمكننا تجاوزها باستئناف التفكير فيها من جديد ولو بالبحث عن منطلقات مغايرة، لا بد إذا في نظره من نقد كلي للعقل.
هل نحن إذاً مع الحداثة البعدية ما زلنا نتابع مشروع الأنوار الذي لم يكتمل بعد، أم أننا نعيش قطيعة القطائع كلها؟ هل يمكن قيام نقد كلي للعقل، كما تراهن فلسفة الاختلاف الفرنسية ؟ أم أنه من الضروري الحفاظ على بعض المعايير التي بواسطتها يمكن محاكمة اضمحلال المعايير الأخرى؟ ما هو شرط الحداثة البعدية، هل هو الفعل التواصلي أم الاختلاف أم البرغماتية؟
تلكم هي أهم الأسئلة المطروحة اليوم على الساحة الفكرية والتي يدور حولها النقاش في الثقافة الغربية بين ثلاثة مدارس فلسفية: المدرسة الفرنسية المدرسة الألمانية، وأخيراً المدرسة الأميركية.

ما بعد الحداثة عربياً
إن ما تخضعه الحداثة البعدية للنقد إذن، هي المثل التي قدمتها فلسفة الأنوار وارتكز عليها كل التاريخ الحديث للغرب، مؤكداً أنها السبيل الوحيد لخلاص البشرية، في حين أنها لم تزد سوى في استلاب الإنسان، ودفنه تحت ثقل الإيدولوجيا الكليانية. إن قيم عصر الأنوار التي راهنت على التقدم وعلى عالمية الثورة السياسية، والتغيير الصناعي الرأسمالي.. لم تزد في الحقيقة سوى في تعميق الهوة بين العالم المتقدم والعالم الثالث. لقد بدأت هذه الأزمة منذ أن عاد العقل الغربي لينتقد تمركزه الحضاري، الغوي، التاريخي، والعرقي.. ولينتبه إلى صوت الآخر المختلف. هذا يعني أن مشروع الحداثة لم يعد كافياً لحل المعضلات التي تتعرض لها المجتمعات المعاصرة، لذلك فهي تختبئ اليوم وراء الهوس بالتقدم والتسارع، والهوس بالاستهلاك، بدل أن تواجه هذه الأزمة مواجهة مباشرة. لقد أصبحت الحداثة على حد تعبير جان بودريارد «أسطورة مرجعية حائرة في كل مكان»
من هنا تبرز أهمية إشكالية الحداثة وما بعد الحداثة، ودواعي طرحها ضمن السياق الفكري والاجتماعي العربي وذلك للأسباب التالية:
أولاً: يعتبر هذا الموضوع شكلاً جديداً لإعادة التفكير في العلاقة بين الغرب والعالم الثالث، وذلك لأن ما بعد الحداثة تكشف عن أزمة المشروعية في التاريخ الغربي، بحيث لم يعد الغرب نتيجة لما آل إليه مشروع الأنوار هو تلك الغاية التي تسعى إليها البشرية، إنه ليس هدفاً للتاريخ، وهذا هو ما دفع إلى تأمل معنى التقدم الإنساني بنحو مغاير عما كان معهوداً. إن الحداثة تفرض علينا اليوم موقفاً فاعلاً إيجابياً لا موقفاً منفعلاً سلبياً، لأننا لا يمكن أن نقترب منها إلا من خلال المساهمة والقراءة المنتجة لمشروعها ولأفكارها.
ثانياً: شكلت الحداثة الظافرة، أي تلك الحداثة الشمولية المتيقنة من مبادئها الأنوارية طابعاً إرغامياً على مجموع شعوب العالم الثالث، تفرض نفسها بحجة العقل والتقدم والحرية. فهل يمكن أن يشكل سؤال ما بعد الحداثة مناسبة لفسح المجال لإمكانية تفكير جديدة لحداثة مغايرة عن الحداثة الغربية. إن إشكال الحداثة وما بعد الحداثة في هذا السياق هو إشكال الحداثة الشمولية الغربية ويقينياتها المطلقة. فهل الحداثة مفهوم يتعالى على كينونة الإنسان وخصوصية هويته، بحيث ما عليه سوى الالتحاق به، استيراده وتطبيقه في شتى مناحي الحياة؟ أم أن الحداثة هي ما نؤسسه انطلاقاً مما يرتبط بوضعنا الإنساني النوعي والخاص؟
ثالثاً: إن التفكير في جدل الحداثة وما بعد الحداثة يفرض نفسه علينا من منطلق ضرورة التفكير في عصر نهاية الميتافيزيقا، وذلك ما دام أن هذه الأخيرة ليست مخصوصة على ثقافة بعينها هي الثقافة الغربية، بل هي سؤال يطرح نفسه على كل الثقافات. فالإشكال القائم هنا هو كيف يمكننا تأسيس العقل في نفس اللحظة التي يتم فيها تفكيكه في الغرب، كيف يمكننا الدخول إلى أبواب الحداثة في نفس اللحظة التي تتلقى فيها ضربات قاتلة، ويتم الدعوة إلى نقدها نقداً جذرياً في ثقافة ظلت ولأمد قريب جداً، تعلن أن الحداثة نموذجاً كونياً يشع من الغرب ويضيء الكون بأجمعه. أي مفهوم جديد للحداثة يمكن أن نبنيه اليوم في ظل هذه الانتقادات التي تتعرض لها؟
رابعاً: يخلط البعض بين الحداثة والتحديث، ففي نظرهم كلما طبقنا في حياتنا الاجتماعية والسياسية هذه المظاهر التي تعرفها المجتمعات الغربية اليوم، اقتربنا من الحداثة، والحال أن هذه الأخيرة لا تقتصر فقط هذه المظاهر المادية، بل هي أكثر من ذلك عبارة عن موقف فلسفي من العالم كما أوضح ذلك هيدغر. في نظره الحداثة مرحلة تاريخية يعبرها الإنسان ويعتبر فيها أنه سيد الطبيعة والوجود، وأن خلاصه الوحيد سيؤسسه بوساطة التقنية، وأنه ما من حقيقة موجودة إلا تلك القابلة للإدراك العقلي، والصياغة المفاهيمية الواضحة. تشكك ما بعد الحداثة إذن في مصداقية هذا التصور، داعيةً إلى إعادة التفكير في هذا الموقف الفلسفي الذي اتخذه الإنسان من الوجود، فأي موقف فلسفي هذا يمكن أن يتبناه المجتمع العربي في مواجهة أزمة الحداثة الغربية؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©