الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على حافة العمر

27 سبتمبر 2010 21:32
يقال «العمر هو الشيء الوحيد الذي كلما زاد نقص» وما جاء هذا الحديث عبثاً، بل هو سبيل الحياة ومعارجها، الكل ذائق المنية لا محالة، وما سعينا وراء الدنيا، بل لهثنا وراءها، إلا تقريب لآجالنا، فكلما قبضنا على حلم نمني النفس بالثاني والثالث وغيره كثير، نمسك بأمنية، ثم نسعى وراء الأخرى، آمالنا أبوابها مشرعة على الكون، لا حواجز لها ولا نهايات، نلهث وراء العمر، صغاراً تلفّنا البراءة، تنام جفوننا في غير تعب، يدعو آباؤنا ويبتهلون كي نكبر ويشتد عودنا، وعمرنا يزداد وأفراحنا وأحزاننا تكبر وتتفاقم بكبر أعمارنا، وكلما زاد العمر نقص حظنا في الحياة، لم نحسبها أو يحسبها أهلنا من هذا المنطلق، فقط هم يدعون أن نكبر، يسعون ليل، نهار كي يزداد عمرنا أياماً وليالي، وننتظر مرور الأيام التي ترمي بنا إلى حتفها، نتبع أحلامنا وآمالنا التي لا شواطئ لها ولا مراسٍ. هكذا عاشت تبتهل وتطلب من الله أن يطيل في عمرها حتى ترى كل أولادها ينعمون بالصحة والتألق، وفي غلفة من الزمان رحلت، بعد أن عانت، رحمها الله، من غيبوبات متكررة امتدت طوال سنوات مضت، تعايشت مع السكري الذي زارها وهي في مقتبل العمر، أذاقها التعب والإعياء، ومع ذلك كان حبها للحياة يزداد كلما استفاقت من غفوتها المرضية، تمسك بتلابيب الدنيا، ولم ترغب أبداً في التفريط في عقد الحياة، نهلت من حبها للناس ومن حب الناس لها، على الرغم من ما يتخلل الأيام من عيوب بشرية لا تسقط عن إنسان، فالقلق والغضب جبل عليهما الكل، لكن بنسب متفاوتة، هناك من يظهر انفعالاته ويتأجج غضبه، وهناك من يكبح جماحها ويلجمها ويدوس عن نفسه لإرضاء الآخرين، مرت أيامها بأفراحها وأحزانها وارتبطت حياتها برجل قاسمته أنفاسها، وقاسمها دقائق حياته، تعايشا ما يفوق ستين سنة، لفّهما الود والاحترام والتقدير في لفافة بيضاء شفافة تكاد ترى منها خوفهما وقلقهما ونوايا كل منهما للآخر، القناعة كانت قاعدتهما، ومبدأهما مسايرة الحياة لتنهل عليهما بالأحسن، فارقا ترابهما الأول قصد تربية أولادهما في تراب وماء آخر، فالتضحيات تبدأ من أجل الصغار، والتنازلات أيضاً، من أجلهم نحيا الحياة ونضحي بكل مغرياتها مهما كبرت وتضخمت، ننسى أنانياتنا، فذواتنا هم، لا حول ولا قوة لهم، أمانات في أعناقنا، يلزم تعبيد سبل الحياة الوعرة لهم، والأخذ بأياديهم والعبور بهم لشواطئ الأمان، فهم أمانة لا يستطيع حملها إلا من آمن بها، هكذا فعلوا وضحوا بأمور كثير مهما غلت لن تغلى أكثر من فلذات أكبادهم، داسا كبرياءهما وقاتلا من أجل صغارهم. هكذا رحلوا وتركوا التراب وراءهم يستفيد منه غيرهم، ضحوا بالمال من أجل الولد، وربحوا الولد والمال والرضا، تقاسما الحلم والأمل، وحين كبر الجميع وترعرع، سقوهم حباً وتضحيات وبروهم براً، وفي يوم تركت الدنيا، أغمضت عينيها إلى الأبد، ورحلت عن رفيق دربها، أبكاها بحرقة لا مثيل لها، جرّ الذاكرة للخلف وأيقظها، وتحدث عن صباها وصبرها وحبها وعشقها لأولادها وبيتها وحياتها، صبره قلّ، بل نفذ، كأنه يقول إن حياته توقفت عند حياته معها، غادر بيته فاراً من الذكريات، مرّت الأحداث أمامه متسارعة، بقي بغير جناحه الآخر الذي كان يرفرف به عالياً متعالياً عن هموم الدنيا وعادياتها، وهو اليوم يمارس حياته صامتاً ولأول مرة من دونها، فرفقاً بمن يستحقون رحمة الدنيا بابتسامة صادقة، ولمسة حانية. لكبيرة التونسي | lakbira.to nsi@admedia.ae
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©