السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الفانتاستيك» الروائي في الإمارات

«الفانتاستيك» الروائي في الإمارات
24 أكتوبر 2019 00:02

لايفتر القول في ثلاثية (العجيب – الغريب - الخارق)، ولا يتفق تماماً. ولعله لا يستقيم، مهما أبدى المرء فيه وأعاد. فلا مرادفة تامة ولا فصل تام بين العناصر الثلاثة، بل توحيدٌ ما لها بالفانتاستيك. ولكن، بالمقابل، نرى ناقداً مثل محمد الباردي (1947 -2017) يحدد الفانتاستيك بالحكاية العجائبية Le fantastique، ويتحدث عن الحكاية الغربية: L'étrange وحكاية الخوارقLe merneilleux، أما إدريس الناقوري فيحدد الفانتاستيك بأنه أداة فنية غير واقعية لتصوير واقع مرعب وغريب، وهو يرتبط بالحاضر، بينما يرتبط الغريب بالماضي، والعجيب بالمستقبل.

إذا تابعنا في المعجم الرصين (المورد) وحيث الفانتاستيك هو الفانتازيا، فسنرى الحديث يمضي إلى الخيال والوهم، وإلى المخيلة، وإلى اللحن الموسيقي المتحرر من القيود، وإلى الأدب المتحرر أيضاً من قيود المنطق...

غموض يلفحه الشعر
لنسرعْ من هذا الذي يمكن أن ينأى بنا عن مناط القول وسنده، أي: الرواية، حيث يلفت ما للفانتاستيك بسائر التلوينات من حضور في روايات عديدة في الإمارات العربية المتحدة. ولتكن البداية مع لولوة المنصوري في روايتها "خرجنا من ضلع جبل" (2014)، على الأقل لأن الفانتاستيك حاضر بتألق وباتقاد في روايات هذه الكاتبة. وكما في تلك الروايات يسربل الغموض رواية "خرجنا من ضلع جبل"، وهو، مع ما يسم اللغة الروائية من الشعر، يشرعان الباب للفانتاستيك.
تنفتح الرواية على الولي الذي سيهرّب عرش الملكة بلقيس من اليمن، فيحمله على ظهر الريح، ويندفع على رؤوس الجبال التي يشمخ من بينها جبل جيس في رأس الخيمة. وفي شقوق الوديان يودع العرش. وليس هذا إلا بداية العجائبي في الرواية. فالولي إذ يندفع، يخفى على الأعين ارتداد جناح من أجنحته القصية، على وجه الجبل. وإذ تهدأ رجفة الارتداد يتحرك جبل جيس الذي يأكل نفسه، ويكبر، وتموج الأرض، كما يتصدع الجانب اليماني من الجبل، وتسقط صخرة بحجم هرم صغير، وتتدحرج إلى حافة البحر، فتشبه جبهة جبل جيس في سجدته الأبدية على ظهر البلدة.
من المفرد الذي تعلنه الساردة في عبارتها "خرجت من ضلع جبل" إلى الجمع الذي يُعَنْوِن الرواية، تلاعب الرواية ثلاثية الفانتاستيك، وهي الملاعبة التي يسميها بعضهم: الأسطرة، من الأسطورة.
يصيب البلدة في هذه الرواية داء الكهولة. إنه اللعنة التي جعلت كل من يخرج من رحم البلدة كهلاً، سرعان ما يموت. فالطفل يولد بوجه كهل، وليس هذا غير حكم على البلدة بالفناء. وتعزو الغرائبية سرّ ذلك إلى حجاب. إنه تعويذة الشيطان التي تحفر هند بحثاً عنها في صخرة الجبل، ولكن بلا جدوى. أما البرء من اللعنة فهو زواج هند التي نجت وحدها من اللعنة من هيثم الذي ينتمي إلى سلالة غريبة. ألا تذهب الإشارة هنا إلى أن البرء إنما هو في التفاعل مع الآخر؟
من شخصيات الرواية الجدة ذات الميتة العجائبية، إذ ترفع غطاءها الأسود على رأسها، وتطفئ السراج، وتندعم في الأرض إلى الأبد! كذلك هي شخصية المرضعة المباركة فاطمة التي يعود من ترضع من الكهول ساعة إلى الطفولة. وكما يلف الغموض هاتين الشخصيتين، يلف الشخصيات الأخرى. وقد ضاعفت اللغة التي يلفحها الشعر كما تلفح الصوفية الرواية، من ذلك الغموض، بقدر ما عززت ولونت الفانتاستيك في الرواية.

تجربة في الاستنارة
ترسم رواية "الظل الأبيض" (2013) لعادل خزام امرأة يجب ألّا تُرى، وألّا يسمع عنها أحد، فهي تتجول خارج الزمان والمكان، وهي لا تموت مثلنا.
من مقامه في دبي، يلحق إبراهيم بالمرأة (نور)، ويخوض تجربة في الاستنارة، معترفاً بأن ما جذبه إليها هو رغبته في تعويض ما خلف فيه فقد أمه من فراغ ونقصان. وسوف تبث نور ما يصوغ العجيب بالصوفي، كأن تشبه الإنسان ببخار غير مرئي في الكون، يتمثل أحياناً في هيئة جسدية. لكنك لست جسدك. وجسدك بعد الموت يصير وعياً سابحاً في الفضاء، يحاول أن ينزرع في جسد آخر ما دامت رغباته لم تتحقق أثناء حياته. ويتضاعف حضور العجيب وهو ينصاغ بالصوفي دوماً، في رحلة الصحراء مع الصقر الجريح، كذلك في الرحلة إلى مركز العماء في النفس البشرية، والرحلة إلى الفجيرة حيث يجتمع المتنورون القادمون من الإمارات ومن الدول المجاورة للالتقاء بمعلّم كبير. وإذ يحاول العجيب أن يبدو واقعياً، فإنه يزداد عجائبية، كما في حالة الرهبان اليابانيين الثلاثمائة المجتمعين في دير قرب هيروشيما، وقد عادوا من موتهم إلى الحياة، ولكن كأرواح سكنت في أجساد جنود هيروشيما. لكن الأجساد رفضت الأرواح، ونشبت حرب الأرواح، إلى أن اختفى الرهبان في نفق أبيض. والملحوظ على كل حال، في عجائبية هذه الرواية وصوفيتها، هو أنها مشغولة بالفكرية وبالتبشيرية للاستنارة، بخلاف ما بدا عليه اشتباك العجائبي بالصوفي في روايات جمال الغيطاني أو إدوارد الخراط، مثلاً.
وتحسن الإشارة هنا إلى رواية عادل خزام "الحياة بعين ثالثة" (2014)، فهي أيضاً تغزل على الفانتاستيك منذ البداية، حين يبلغ الراوي القرية التي قضى الجفاف على أهلها. ويكتشف مصادفةً نبعاً تحت صخرة، فينحني ليشرب، لكن الشاعر والحكيم يظهران أمامه، ويتفقون على المضي معاً في رحلة تقودهم إلى الشرق الأوسط، وإلى نيويورك، ثم إلى البلاد العجيبة: بلاد الفنون التي لا تموقعها الرواية، وفيها تلتقي حشود الفنانين والموسيقيين والشعراء الذين توافدوا ليسمعوا خطب الحكيم وقصائد الشاعر. وهكذا يبدو حضور العجائبي متواضعاً في الرواية قياساً إلى سابقتها، وقياساً إلى انشغالها بالفلسفة والشعر وأزمة الإنسان والبحث، أخيراً، عن المعرفة وسر الحياة في الهند.

المصادفة الحلمية
يجنّس عبد العزيز المسلّم "رادا" (2018) بالحكاية، وهذا ما فعله ناصر الظاهري في "طائر بجناح أبعد منه" وما فعلته صالحة عبيد في الطبعة الثانية من "آيباد. الحياة على طريقة زوربا". وإذا كان مثل هذا التجنيس يتأسس فيما للحكي والحكايا من دور في الرواية، أو في النسب الوثيق بين الحكاية والرواية، فلست مع تجنيس الأعمال الثلاثة المذكورة بالحكاية، لأنها ببساطة تخرج من إهاب الحكي إلى إهاب الروي.
في نوفيللا "رادا" التي تتألق بحواريتها، تجمع المصادفة في استنبول بين سالم ورادا. هو ضابط إماراتي من منبع المياه الشهير (دفتا)، وهي طالبة جامعية قوقازية. ويسرع الفانتاستيك في إعلان سالم أن رادا تزوره في أحلامه منذ سنين. بل حتى مجيئه إلى استنبول لم يكن إلا بواعز من هذا الحلم. ومن المصادفة الحلمية إلى سرعة البرق الحلمية، يتزوج سالم ورادا، وتنطوي أيام (العسل) المعدودة، ويكون على رادا أن تعود من رحلتها إلى القوقاز، وعلى سالم أن يعود إلى الإمارات ليهيئ لعيشهما المقبل. وفي عشية الفراق يطل العجيب في أرقام الرمز البريدي لرادا وهاتف راشد صديق سالم الذي اختفى، فسعت رادا إلى صديقه الذي أكد أن سالم قضى منذ خمس عشرة سنة، وقد كان يحلم بأن يتزوج من قوقازية، فهل عاد إلى الحياة وحقق حلمه؟ وإلى أن يتكشف هذا اللبس، تقدم الحكاية/ النوفيللا ملخصاً (غرائبياً)، ليظهر سالم الذي قضى في انفجار في كابول، وسالم الذي تزوج رادا، والرجلان يتنافسان على القوقازية التي لا وجود لها إلا في خياليهما.

جسد خرافي
عَنْوَنَ علي أبو الريش روايته "أم الدويس" (2013) بعنوان حكاية شعبية متداولة في الإمارات كما في الخليج. إنها حكاية أم الدويس، والدويس هو تصغير للداس، والداس أداة قاتلة تشبه المنجل، ذلك أن الحكاية تتحدث عن امرأة لها أرجل حمار ويداها داسان، أو ديسان، أي منجلان. وقد أخرج جمعة السهلي فيلماً من تأليف صالح المرزوقي عن هذه الحكاية/ المرأة، تحت عنوان "عودة أم الدويس".
تظهر أم الدويس في الحكاية امرأة شوهاء، يجبل الخيال لها جسداً خرافياً، وترتبط بالرعب، وتقتل من يخالف لها أمراً. ولأن الحكاية بعامة مقترنة بالطفولة، وبعبارة أخرى بالتربية عبر الحكي، فحكاية أم الدويس كابوس مسلط على الأطفال في لياليهم. لكن لأم الدويس تجليات أخرى، فهي المرأة الفاتنة التي تشبه القمر في ليلة البدر، ويفوح منها المسك والعنبر، مما يُحكم غوايتها على الشباب خاصة.
بلعبة فنية شائكة ومشوقة وحبلى بالدلالات، تنادي هذه الرواية الحكاية وبطلتها. وقد سرى النداء في تكوين شخصية بطل الرواية فيروز منذ الطفولة إلى كهولته، وعبر ملاقاته مع ثلاث نساء هنَ (ماسة، عذاب، نيران). فهذا الذي ينشأ يتيم الوالدين، رضع لبن الحكاية الغرائبية، وتخصص شاباً في علم النفس، يعجز عن التواصل مع النساء الثلاث، ليشتبه السؤال بما بينهن، بالأحرى ما بين المرأة بعامة، وبين أم الدويس.
يسعى فيروز إلى إعداد دراسة عن (القديسة) أم داس أو أم الدويس. وهذا الذي تخصص في علم النفس، تتلامح له أم الدويس في شخصية عذاب الأذربيجانية التي سلطت عليها زوجة الأب أخاها لاغتصابها. وبالمقابل، تأتي حكاية الشجرة والرجل الذي كان يقطع أغصانها بسكينه الحادة، فإذا بالسكين تحزّ عنقه، ليظل ينزف إلى أن يموت. ومنذئذ امتلأ الناس رعباً من الشجرة. ولأن الحكاية تتعلق بالأطفال بخاصة، فهؤلاء الذين كانوا يداهمون أعشاش العصافير، باتوا يفعلون ذلك نهاراً، حتى إذا أعتمت أسرعوا إلى بيوتهم، لكأننا لسنا أمام أم داس واحدة، فالشجرة أيضاً تلوّح لتلك المرأة التي تفترض الرواية أنك رأيتها، واختفت فجأة، سوف يسميها من تحدثه عنها أنها أم الدويس، الجنية التي تستدرج الرجال إلى مخدعها، وبعد أن تستلّ أرواحهم، تقطعهم أشلاء وترميهم في الصحراء لتنهش الكلاب جثثهم.
في سعي فيروز إلى حقيقة حكاية أم الدويس، يقصد الشيخ ضاوي الذي يحكي حكاية ابن ملك الجن في الحضارات القديمة، مومئاً إلى أن أم الدويس هي الموت. وسيتعزز هذا الغرائبي والعجائبي في الرواية، هذا الفانتاستيك، بعناصر شتى، كحوارات الجبل والشياطين.. وفي كل ذلك تنبض الرواية بما لعله يعري الخرافة في المجتمع، وما تورثه من عطب في النفس.
منذ البداية، كان للفانتاستيك حضوره في التجربة الروائية الغنية لعلي أبو الريش. ففي روايته "ثنائية مجبل بن شهوان" (1997) نرى الحصان الذي ينقلب إلى خروف أسود صغير، ونرى الساحر عبد الرحمن يحيل كراسات التلاميذ إلى أوراق نقدية. لكن الأهم هو شخصية حمزة البلوشي الذي احترق بيته وهو فيه. لكنه شوهد بعد أسبوع يمشي على الشاطئ، وسوف يظهر حمزة في هيئة طائر. ويقسم جاره على أنه رآه يعود فجراً إلى بيته بتلك الهيئة. ويظهر هذا المتقمص في المقبرة طائراً ضخماً يطلق ضحكته المدوية المرعبة. ويذكر أبو الريش في هذه الرواية أم الدويس التي ستكون لها روايتها، حكاية وتشخيصاً ودلالات، كما رأينا.
تلك ألوان من التخييل الروائي الموسوم بالفانتاستيك، منها لون اللغة، ولون الصوفي، ولون الحلم، ولون التقمص، ولون الحكاية الشعبية.
وسواء في الروايات التي رأينا، أم في المدونة الإماراتية أو العربية، ذات الصلة، كان العجائبي والغرائبي والخارق، كان الفانتاستيك لعباً بديعاً وثراءً أكبر فأكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©