الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

اكتشاف الآخر..

اكتشاف الآخر..
17 أكتوبر 2019 00:03

بقلم: فيليكس كورنر*
إعداد وترجمة: د. عزالدين عناية

تثير «وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك»، الموقَّعة من قِبل شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب والبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، صدى طيباً في أوساط المعنيين بالشأن الديني العالمي. فقد عبّرت الوثيقة بصريح العبارة عمّا يدور من مشاغل في عالمنا، وما تنشده البشرية من عالم يسوده التآلف والتآخي. وجاء النص تتويجاً لمسار ديني مسؤول وحازم يرنو إلى الخروج من المآزق الدينية الراهنة لعالمنا، ولم يكتف بإصدار البيانات والإعراب عن النوايا الحسنة، وإنما سعى بشكل جاد إلى تفعيل الإرادة الخيّرة وتحويلها إلى إنجازات عملية على أرض الواقع.
وفي هذه الدراسة القيّمة للمفكر الألماني اليسوعي فيليكس كورنر، أستاذ اللاهوت المسيحي ولاهوت الأديان في الجامعة الغريغورية بروما، نتابع تحليلاً معمّقاً لفحوى «وثيقة الأخوة الإنسانية»، يعرب عن صدى عالمي مؤثّر لتلك الوثيقة.

قبل النّظر في فحوى الوثيقة نحاول إيراد بعض الملاحظات بشأن الأرضية التي مهّدت إليها من الجانب المسيحي. فقد سبق أن صدرت أربعة تصريحات للبابا فرنسيس ماريو برغوليو، على مدى سنوات، بيّنت أنّ إنجاز هذه الوثيقة لم يأتِ من عدم. فبعد اعتلاء البابا فرنسيس السدة البطرسيّة أكّد أنّ الكنيسة ينبغي أن تكون اليوم بمثابة «مستشفى ميدانيّ» (1). وبعبارة أخرى أنّ الأولوية موجَّهة للقضايا العاجلة. ولاحقاً تركّز نظره في الإرشاد الرسولي الأوّل «فرح الإنجيل» (Evangelii Gaudium) على «المدينة» التي يجوز النظر إليها بمثابة المحل الذي يرعاه الرب. فهو يتابع الخَلق ويبثّ فيهم روح التضامن والأخوة (فرح الإنجيل، 71). وخلال زيارة بيت المقدس، سنة 2014، حل فرنسيس ضيفاً على مفتي القدس، وقد لخّص البابا نداءه العاجل حينها في أربع نقاط: «الاحترام المتبادل والتحابب بمثابة الإخوة والأخوات، وتعلّم تفهّم معاناة الآخر، وألا يوظّف أحد اسم الله لغرض العنف، وأن يعمل الجميع من أجل العدل والسلام» (2). وبعد أيام قليلة، في عيد العنصرة، استقبل البابا فرنسيس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في حدائق الفاتيكان، ذكّر أثناءها الرجليْـن بالمسؤولية الملقاة على عاتقيهما أمام الله للعمل من أجل الخروج من دوّامة الكره، كما حثّ الطرفيْـن على العمل معاً من أجل «التآخي»، ولكن لتفعيل تلك الكلمة، من الواجب على الجميع رفع الوجوه إلى السماء والتضرّع إلى الله» (3).
ويمكن الشروع في قراءة «وثيقة أبوظبي» الصادرة خلال العام 2019 على أساس هذه الأرضية، وهي السنة التي حلّت فيها الذكرى المئوية الثامنة للقاء القديس فرنسيس الأسيزي مع الملك الكامل الأيوبي.

عنوان الوثيقة وموضوعها
يتمحور عنوان الوثيقة حول موضوع «الأُخوّة الإنسانية»، والحديث عن «الأخوّة» مدعاة لطرح قضايا لاهوتية مثل: هل يندرج ضمن التقليد الكاثوليكي نعَت «أتباع الأديان الأخرى بـ«الإخْوة» و«الأخوات»؟ لقد حثّ المسيح بشكل واضح على هذا التمشّي: «لأنّ من يصنع مشيئة مَن في السموات هو أخي وأختي وأمّي» (إنجيل متّى12: 50). وفي الرسالة الأولى لبطرس يسأل المسيحيين: «أكرموا الجميع. أحبّوا الإخوة. خافوا الله. أكرموا الملك» (رسالة بطرس الأولى2: 17). وفي نهاية الرسالة البابوية «السلام في العالم» (Pacem in terris)، توجّه البابا يوحنّا الثالث والعشرون إلى المسيح راجياً إرساء السلام، وقد جاء نصّها كالآتي: «بفضل حضوره تتآخى شعوب الأرض كافة» (السلام في العالم، 91).
وفي أعمال مجمع الفاتيكان الثاني، وتحديداً في وثيقة «الفرح والرّجاء» وردَ احتفاءٌ بعمل المؤسسات الدولية بوصفها أداة للتنمية والصلح، جاء النص على النحو الآتي: «إن الكنيسة لتُسَرّ لروح الأخوّة الحق الآخذ في التطوّر بين المسيحيين وغير المسيحيين في كلّ المجالات، وهو ما يدفعهم إلى بذل الجهود بغية التخفيف من الشقاء الفاجع» (الفرح والرّجاء، 84). وبالمثل لخّص الدستور الرعوي مقترحه في الكلمة الختامية بالتأكيد على أن «هذا المجمع المقدّس قد أخرج من كنوز عقيدة الكنيسة هذه الاقتراحات التي صاغها، بغية مساعدة البشر في عصرنا، حتى يدركوا إدراكاً واضحاً كمال دعوتهم، آمَنوا بالله أو لم يعترفوا به صراحة، ليجعلوا العالم أكثر مطابقة لكرامة الإنسان السامية ولينشدوا أخوّة شاملة، ترتكز على أساسات أعمق، ويلبّوا نداءات عصرنا الأشدّ إلحاحاً، مدفوعين بالحبّ والسخاء والجهود المشتركة» (الفرح والرّجاء، 91). وقبل ستّة أسابيع من إتمام تصريح «نوسترا آيتات»، حول علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية، عبّر المجمع بكلمات مماثلة: «لا يمكن أن ندعو الله أبا لكافة البشر، إذا كنّا نرفض التعامل كإخوة مع بعض النّاس الذين خُلقوا على صورة الربّ» (نوسترا آيتات، 5).
ومن هنا اتّخذت «الأخوة» جنب «التضامن» مكانة محورية في توجيهات «تعليم الكنيسة الاجتماعي»، وكما يلوح يظهر يُسْر القبول بذلك من منظور لاهوتي. هذا وقد أكّد البابا يوحنّا بولس الثاني في قدّاس باريس أنّ الأخوّة هي قيمة من إرث الأنوار، مبرزاً أنّ شعار «الحرية والعدالة والأخوة» في الثقافة الفرنسية هو في عمقه شعار يتضمّن أفكاراً مسيحية (4). وفي رسالة البابا جوزيف راتسينغر «المحبة في الحقيقة» (Caritas in Veritate) ذكّر بتعليم سلفه بولس السادس المتلخّص في قوله «سعي المسيحيّ لبناء عائلة بشرية واحدة متضامنة على أساس الأخوّة المشتركة» (المحبة في الحقيقة، 13). وقد تردّد تعبير «الأخوة الإنسانية» في ما دوّنه على إثر تطويب شارل دي فوكو، الرجل الذي وهب حياته للتقارب مع المسلمين بقوله «المسيح يدعو إلى الأخوة الكونية» (5).
فالحديث عن الأخوّة، ولاسيما تجاه المسلمين، يمثّل جزءاً من التقليد الكاثوليكي ليوحنّا الثالث والعشرين، ولكن ذلك المعطى كيف تمّ تلقّيه من جانب المسلمين؟ الجليّ أنّهم يعتمدون صيغاً مشابهة، دون تضمينها معنى «أبناء الله»، حيث لا يجوز نعت الله بـ«الأب» لِمَا يتضمّنه ذلك التعبير من دلالة بشرية. نجد في القرآن الكريم الأمرَ الموجّه إلى بني آدم: «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عن الله أتقاكم» (سورة الحجرات، الآية: 13). وبموجب تحدّر كافة البشر من أصل واحد فهم يتساوون جميعاً، فليس التكريم نابعاً عن تحدّر سامٍ ولكن كما توضح الآية من التقوى.

بنية الوثيقة
بعد أن تطرقتُ إلى السندات الأساسية للأخوة، التي يفصح عنها العنوان، سأركز الاهتمام على فحوى النص. كيف جاءت بنية النص؟ تُلخّص المقدّمة الأمر في ثلاثة أقسام: القسم اللاهوتي والقسم التوضيحي والقسم الشخصي. يورد القسم اللاهوتي أنّ الناس، عبر الإيمان بالله، بوسعهم أن يعوا معنى الأخوّة مع غيرهم كإخوة وأخوات، وبفضل التكريم الموهوب من الله إلى كافة الخَلق، نحن مدعوون إلى التوجه إلى نظرائنا. حيث النظر إلى الزمن الحالي كلحظة تطور إيجابية وإن شابتها بعض مظاهر السلبية مثل الفقر والحروب، والتي يمكن تفسيرها بالخلل الاجتماعي والانخرام الخُلقي، وهو ما جرّ إلى أشكال الإرهاب. ينبغي أن نشير إلى أنّ السياق الذي تستند إليه الوثيقة شخصيّ نابع من الحوار بين القيادتين، وموجّه إلى كافة المؤمنين حتى يبنوا معاً ثقافة الاحترام. ترمي الوثيقة الموزعة إلى ثلاثة أقسام: إلى تطوير أفق المسؤولية، وإلى بثّ رسالة، وإلى تفعيل مضامين تلك الرسالة.

أفق المسؤولية
على غرار القسمين الرئيسين الآخرين، فإن القسم المخصص لـ«أفق المسؤولية» يستهلّ مضامينه بـ«باسم الله»... المستوحاة من البسملة الإسلامية ومن العديد من الصياغات المسيحية والتوراتية التقليدية. فمن يتكلّم وِفْق هذا التقليد يدعو الله ويرجوه العون أن يكون التعبير متوافقاً مع مشيئته ومراده. فالإله حاضرٌ في هذا المقام خالقٌ للبشر وداعٍ لعباده ليسلكوا نهج الخير.
تعود صيغة تلك البسملة في الوثيقة عشر مرات. وليس الموقّعان على النص فقط واعيين باستحضار الله، بل يُشهِدان الخلق أيضاً على فعلهما. إذ يلخّص الاستحضار الأخير شتّى مظاهر الالتزام: حيث ينبغي أن يرسّخ «السياق» المشترك في المستقبل ثقافة الحوار، وأن يكون «السلوك» على أساس التعاون المشترك، وأن ينبني «المنهج والمعيار» على التعارف المتبادَل.
في ضوء هذه القراءة تعكس الوثيقة دعوة البابا فرنسيس إلى «تفهّم آلام الآخر» (6) خلال زيارته إلى بيت المقدس. إذ يورد النص العربي كلمة «التعارف» عند التطرق لهذا الموضوع، وهو مصطلح مستوحى من الآية القرآنية التي سبق ذكرها آنفاً: فبفعل التحدّر المشترك هناك حاجة إلى التعارف ودعوة إليه.

بثّ الرسالة
عند هذه النقطة تعرب «وثيقة الأخوة» عن فحوى النداء. حيث إن سائر من بوسعهم التأثير على العالم من واجبهم أن يعوا أنّ الإنسانية عائلة واحدة. وبالتالي ينبغي أن تتوقّف كافة أشكال التدمير الصادرة من الإنسان في الحين: أكان ذلك بسبب الحروب، أو بسبب إتلاف البيئة، أو الناتجة بسبب التراجع الثقافي والانخرام الخُلقي.
لكن الرسالة لا تستنفد فحواها في جملة من المطالب. ثمة جانب تحليليّ بالغ الأهمية، يرد فيه تساؤل عن مصدر الشرّ. لا نعثر فيه على مجرّد إدانات غائمة وعامة، بل على خلاف ذلك، يعتبر البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أنّ الخطوات الإيجابية للتطوّر الحالي في البحث عن مصدر المعاناة التي ترهق الإنسان، وقبل الغوص في الأزمات السياسية وفي التوزيع غير العادل للثروات، يتركّز النظر نحو الداخل، أي صوب الضمير الإنساني: فالعديد من الأوضاع الحالية يمكن تفسيرها باهتزاز «معنى المسؤولية».
ضمن هذا السياق تتابع القيادتان تعميق النظر في الأسباب الجوهرية. إذ يغيب التنسيق بين ما يعني الحياة الخاصة، وما يعني الحياة العامة، وما يلزم ذلك من قرارات تؤدي إلى مسؤولية بشرية جامعة. وهو ما يمكن أن يقود إلى نتيجتين: إمّا إلى انتفاء أيّ مرجعية دينية (على غرار الشموليات الملحدة) أو الانجراف إلى التطرف الديني وما يقود إليه من دمار. وعلى أساس ذلك التشخيص تعرض الوثيقة نوعاً من المعالجة. يؤسّس شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا فرنسيس رؤيتيهما للمستقبل على سنديْن، العائلة والدين. حيث يصرّح الثنائي «أن الأديان لا تدعو البتّة إلى العنف». وهي خلاصة في غاية الأهمية، حيث يبدي القائدان وعياً بالدماء المسفوكة باسم الدين. ولذا نجدهما يميزان بين «حقيقة» الدين وبين «توظيفه». يدين كلاهما استعمال كلمة الله لتبرير العنف على أساس شرعي أو لاهوتي: «وأنّه عزّ وجلّ في غنى عمّن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه» كما توضح الوثيقة.

تفعيل مضامين الرسالة
على أساس ذلك الاعتراف، يسير النص صوب القسم الختامي، المتكون من سلسلتين من الملاحظات العملية، أطلقنا عليها «تفعيل المضامين». في مستوى أوّل، يتم عرض اثنتي عشرة أطروحة شرعية سياسية، ثم يتطرّق الموقّعان على الوثيقة إلى الشكل الذي ينبغي أن يُستعمَل به النص.
ما الذي تعرضه الاثنتا عشرة أطروحة؟ نلخّص فحواها في الآتي، مع تعليق إيجابي، ثم نشفعها بقراءة نقدية لاحقاً.
1) تدعو التعاليم الصحيحة للأديان إلى الأخوّة الإنسانية. وللتوضيح يبرز الكاتبان في هذا الموضع استشراء «قانون القوة لا قوة القانون»، للتعبير عما يسود من لامبالاة في مقابل التضامن الذي تدعو إليه الأديان.
2) حرية التدين والمعتقد مضمونة لكل فرد وفق إيمانه.
3) التفاعل بين العدل والرحمة هو السبيل إلى الحياة الكريمة.
4) الحوار هو السبيل لحل مشاكل العالم.
5) يمكن إرساء الحوار الديني على أساس القِيم المشتركة من أجل خير الجميع، مع تجنّب «الجدل العقيم».
6) واجب تمتّع كافة أماكن العبادة بالحماية القانونية والدينية مع تجريم استهدافها تحت أي ذريعة كانت.
7) إدانة التطرف بكافة أشكاله وصوره.
8) يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، مع العمل على ترسيخ مفهوم المواطَنة والتخلّي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح «الأقليّات».
9) ينبغي أن يساعد تنوّع الثقافات على اغتناء الطرفين، مع التأكيد على أهمية العمل على ترسيخ الحقوق الإنسانية العامة المشتركة.
10-11-12) تبيّـن الأطروحات الثلاث الأخيرة حقوق بعض الفئات مثل النساء والأطفال والمسنّين وذوي الاحتياجات الخاصة.
يختتم الموقّعان النص بنظرة نحو المستقبل، حيث ينصبّ الحديث على ثلاث مسائل: ما تتعهّد به الوثيقة، وما تطالب به، وما تنشده. ما تتعهّد به وهو العمل على ترويج هذا الإعلان ونشر مضامينه، وأما المطلوب فهو تضمينها في البرامج التربوية، وأما مُنيتهما فأن تُتلقّى بشكل حسن، بما يعني دعوة للمصالحة، ونداء لكل ضمير حيّ، وشهادة لعظمة الإيمان بالله، وفي الأخير بوصفها لبنة من لبنات التقارب الودّي، أو كما يَرِد حرفياً، للعناق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.

نقاش حول الوثيقة
أثارت وثيقة أبوظبي نقاشات جمّة منذ صدورها. ثمّة من عدّها علامة تفاهم في منتهى الضرورة، بدا ذلك من أعلى المستويات، وكذلك ثمة من طرح تساؤلات. فقد عالجنا الوثيقة مع جمع من الطلاب والخبراء المسلمين والمسيحيين، في القدس وروما. نعرض هنا النقاط التي أثارت جملة من التساؤلات مع الإجابة على بعضها.
التساؤل وهو أن الوثيقة لا تثبت مضامينها بالاعتماد على النصوص المقدسة. وجدير أن نعي أن المسيحيين لا يعتبرون القرآن جزءاً من نصوصهم المقدسة ولا مصدراً للحجيّة اللاهوتية. ومن الجانب الآخر ينظر المسلمون إلى الكتاب المقدس على نحو مغاير لنظرة المسيحيين. وإن كانوا يقرّون بأنّ موسى وداود وعيسى قد تلقوا «كتباً» موحاة، تتفق مع القرآن في جوانب. وما يوجد اليوم في الكتاب المقدس المسيحي لا يتفق كل الاتفاق مع ما هو موحى. ومن هذا الجانب تطمح الوثيقة إلى أن تكون «إعلاناً مشتركاً للإرادات الطيبة» بمنأى عن الإشارات الضمنية لهذا الدين أو ذاك، والتي يمكن أن تشكل عائقاً لذلك الهدف. كيفما كان يلوح النص في وفاق تام مع روح النصوص المقدسة.
ورد في النقاشات أن النص يحمل معنى في حال افتراض لاهوت للخَلْق. وهذا الانتقاد مملى من تطلّع ليكون الحوار بين الأديان مبنيّاً على أساس اللاهوت الطبيعي، بما يعني استناده إلى العقل والمنطق. وضمن هذا المسعى لابد من إبراز ملاحظتين: أنّ القيادتين ودّتا عرض نص يجد قبولاً سواء من جانب المسلمين أو المسيحيين، كما وقع تجنّب أي إشارة للخلافات بين الدينين.
نجد مسألة أخرى أثارت تساؤلات تمثّلت في اختزال الوثيقة في موقف تنويري لعلاقة الدين بالأخلاق. فرسالة الأديان بالنسبة إلى البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب هي رسالة توجيهية واضحة للفعل الإنساني، لكن «الهدف الأول والأبرز بالنسبة إلى الأديان هو الحثّ على عبادة الله وإجلاله ودعوة كافة الخَلق إلى الإيمان به». صحيح أنّ الموقّعين استعملا مفاهيم خاصة بالتنوير الأوروبي: مثل الحديث عن الأخوة، والكرامة البشرية، وحقوق الإنسان، والمواطَنة. بيْدَ أنّ الحديث عن «الأخوّة» بين البشر ليس فكرة تنويرية فحسب، يمكن إثبات ذلك المفهوم عبر سندات من القرآن والكتاب المقدس أيضاً. وأمّا استحضار «حقوق الإنسان» فهو خطوة هامة إلى الأمام (7). ومن وجهة نظر لاهوتية، يمكن توضيح أن فكرة حقوق الإنسان الأساسية تتوافق مع الإرادة الإلهية، لأنها تحمي الكائن البشري من نزعات القوة لدى نظرائه في الخَلق. ومن الجانب الإسلامي، غالباً ما استند «تكريم» الكائن البشري إلى الآية القرآنية: «ولقد كرّمنا بني آدم» (سورة الإسراء، الآية: 70). لكن ينبغي التأكيد على مفهوم المواطَنة، بالغ الأهمية في النقاش التشريعي الحالي في العالم الإسلامي. فقد كان إعلان مراكش (27 يناير 2016) أول وثيقة عالمية موقّعَة من قِبل علماء مسلمين تتعرّض إلى مسألة المواطَنة. يتعلق الأمر بمفهوم جديد مستوحى من اللغة الفرنسية (Citoyenneté)، عبّر الشيخ أحمد الطيّب في العديد من المناسبات عن احتفائه به، وتجاوزه لمفهوم «أهل الذمّة»، الذي يعني إرساء نوع من الحماية لأتباع الأديان الأخرى مقابل ضريبة يدفعونها، وهو ما لا تتساوى فيه الحقوق.
لقد بيّـن الشيخ أحمد الطيب أن مفهوم الذمّي غير قابل للتطبيق اليوم لأنه نابع من سياق تشريعي وسياسي متجاوَز. وبالفعل بات مصطلح «المواطَنة» الحديث رائجاً بمنأى عن الثورة الفرنسية. فهو يشير إلى إمكانية عيش الحياة الدينية من خلال الامتثال إلى الشروط التشريعية الحديثة، ضمن سياق تضمن فيه الدولة للمواطنين الحرية، بدل معاملتهم بحسب انتمائهم إلى جماعات. ومن جانب آخر هناك من ذهب إلى أنّ الوثيقة «جوهرانية»، حيث هاجمت الصياغات التي تعارض «الدين» في جوهره مبرزة تأويلاتها الخاطئة وما تقوم عليه من توظيف. وبالفعل لا وجود لتعريف كافٍ شافٍ للدين ولمعناه الصرف أو لماهية «تعاليمه الحقيقية». لا يعرض الموقّعان في الوثيقة وصف المسيحية أو الإسلام من منظور تاريخي أو سوسيولوجي، ويكتفي كلاهما بعرض الدين من زاوية معيارية تعبّر عن منظور لاهوتي إيماني. يريد الموقّعان من خلاله الحديث عن الدين من منظور العارفيْـن بالشأن الإيماني، حين يؤكد كلاهما على «خطأ من يسعى إلى توظيف اسم الله لغرض اقتراف العنف». كما لا تودّ الوثيقة، في موضوع الأخوة، الاعتماد على سندات فلسفية، بل بالأحرى تحثّ بشكل واضح على ضرورة تجنّب توظيف الدين.
ذُكر في النقاش أيضاً أنّ الوثيقة تتوجه أساساً إلى النخبة، ولا تعير كبير اهتمام إلى العامّة. صحيح أنّ الوثيقة في مستهل القسم الأساسي تتوجّه إلى «القادة»، لكنّ لاحقاً، بناء على التزام الطرفين بترويج الوثيقة، يجري الحديث عن الأطراف الحقيقية المعنية وعن منظمات المجتمع المدني. وبالخصوص في نهاية الوثيقة نجد نداء موجهاً للشباب وبالخصوص إلى المؤسسات التربوية.
تحثّ الوثيقة على التسامح. ثمة من رأى أنّ الأمر يتعلّق بطلب متواضع، لأن ما هو محتاج فعلاً هو الحرية الدينية. لقد جرى توقيع الوثيقة من قبل البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، وهو ما يقتضي مواقف ذات طابع التزامي وجودي وتقارب بين أفراد من أديان مختلفة، على غرار الاحترام والتقدير وحرية التدين والتآخي، مع إدانة أي شكل من أشكال الضغط الديني. فحين توجَّهَ البابا فرنسيس، بعد شهر من توقيع إعلان أبوظبي إلى المغرب، تحدّث عن «حرية الضمير» و«حرية التديّن» (8).
تُلمّح الوثيقة إلى «الجدل العقيم» في حوار الأديان حين يسود الجدل اللاهوتي. وهو ما يتناقض بالفعل مع حوار يضع في المستوى الأول التقارب الروحي والأخلاقي. ما يعني تحذيراً من ذلك الجدل الردودي المستنزف للحوار. فالحوار بين متحاورين عارفين، وهو ما يمكن أن يكون لاهوتياً ومثمراً. وبما يعني أن الأشخاص الذين يعيشون أجواء إيمانهم كمصدر للنعمة يودّون ذلك لنُظرائهم من الأديان الأخرى. وإن بدت تباينات، فمن المجدي دائماً النظر إلى الأهداف، وإلى القيم، وإلى النوايا الحسنة.
بالنهاية أثيرت مسألة أن الوثيقة تعرب عن مؤاخاة بين المسيحيين والمسلمين يبقى خارجها غير المؤمنين وكذلك أتباع الأديان الأخرى. في الواقع يمكن إظهار، وببساطة، أن هذا الانطباع هو ناتج عن خلط. فحين يصرّح نص الوثيقة أن أماكن العبادة ينبغي أن تحمى، فهو لا يعني المساجد والكنائس حصراً، بل المعابد أياً كان نوعها. بالإضافة أنّ الموقّعين يتطلعان إلى أن تكون الوثيقة «نداء للضمير البشريّ»، وأن يصير النص بمثابة الدعوة إلى المصالحة بين «المؤمنين وغير المؤمنين أيضاً من ذوي الإرادة الطيبة».

الاختلاف الديني في تاريخ الخلاص
نقرأ في الوثيقة: «إن التعددية والاختلاف في الدين والعرق واللغة حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله البشر عليها». ينبغي أن ننظر في هذه المقولة وفق مسارات ثلاثة:
أ) كيف يتمّ تلقّيها من الجانب الإسلامي؟
ب) ما هو الإشكال المسيحي اللاهوتي الذي تطرحه؟
ت) هل يمكن اعتبارها بمثابة التصريح الكاثوليكي اللاهوتي؟
من الجانب الإسلامي لا تثير المسألة أي حساسية، بل بالأحرى تشير إلى فكرة مستوحاة من القرآن. ولإدراك ذلك لابدّ أن نعي أن القرآن يقرّ بصريح العبارة باختلاف «الألسن» و«الألوان» البشرية بوصفها آية من آيات الله. ولكن ضمن أي سياق يأتي ذلك؟ عادة ما يتحدّث القرآن عن آيات الله، جاعلاً من العالم خَلقاً لله ووحياً منه، يتضمن اعترافاً بفعل الله القدير «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (سورة الروم، الآية: 20).
كما تتضمّن النظرة القرآنية لتاريخ الوحي أيضاً أن مختلف الكتب المقدسة قد تم تنزيلها إلى أناس أنبياء مثل موسى وداود وعيسى ومحمد، وكل كتاب خطَّ طريقاً مغايراً حتى وإن كان جميعها متماثلاً من حيث المضمون. هكذا يتوجه الله وفق الآيات القرآنية: «وأنزلنا عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات» (سورة المائدة، الآية: 48)، إلى النبي محمد متحدثاً عن الشرائع المغايرة لليهود والمسيحيين.
يمكن اعتبار الوثيقة من منظور لاهوتي في منتهى الأهمية. فهي تتابع عن قرب تصريحات «نوسترا آيتات» القائلة «تَعتبِر الكنيسة أي تمييز كان بين الناس، أو أي انتهاك مقتَرف بسبب الجنس أو اللون أو الوضع الاجتماعي أو الدين مناقضاً لإرادة المسيح» (نوسترا آيتات، 5). وبشأن الاختلاف الديني صرّح البابا بندكتوس السادس عشر وكذلك البابا فرنسيس: حين يلتقي أهل الأديان فإن هذا يشي «بالتطهر والغنى» (9) من الجانبين. وهو ما يعني أنّ الاعتراف بالاختلاف الديني كامن في جوهر تاريخ الخلاص. لقد أوضح البابا فرنسيس في مدينة الرباط «أن الأمر يتعلق باكتشاف الآخر واحتضانه، بما يعنيه من غنى مشترك في ضوء ما يمكن أن نفعله معاً» (10).
.................................................................
* أستاذ اللاهوت المسيحي ولاهوت الأديان في الجامعة الغريغورية بروما. صدرت الدراسة في مجلة «لاشيفيلتا كاتوليكا» بروما، مايو/‏‏ يونيو 2019.
.................................................................
الهوامش:
1ـ في حوار للبابا مع مجلّة «لاشيفيلتا كاتوليكا»، 2013، III، ص: 461.
2ـ خلال زيارة لمفتي القدس بتاريخ 26 مايو 2014.
3 ـ «دعوة للسلام» من قِبل البابا فرنسيس وُجِّهت للرئيسين شمعون بيريز ومحمود عباس في حدائق الفاتيكان، يوم 8 يونيو 2014.
4ـ يوحنا بولس الثاني خلال قدّاس «Le Bourget» في باريس بتاريخ 1 يونيو 1980.
5ـ بندكتوس السادس عشر (راتسينغر)، كلمة تحية في منتهى الاحتفال، 13 نوفمبر 2005.
6ـ خلال زيارة مفتي القدس بتاريخ 26 مايو 2014.
7 ـ Cfr F. Körner، “Islam and Religionsfreiheit. Reibungspunkte، Schlüsseltexte، Lösungswegen”، in M. Baumeister – M. Heimbach-Steins – S. Wendel (eds)، Menschenrechte in der katholischen Kirche. Historische، systematische und praktische Perspektiven، Paderborn، F. Schöningh، 2018,206.
8 ـ Cfr. A. Spadaro، ”La chiesa si fa colloquio”. Il viaggio di papa Francesco in Marocco، in Civ. Catt. 2019 I 159-169.
9 ـ Cfr Benedetto XVI، Discorso، 21 dicembre 2012; Francesco، Evangelii gaudium، n. 250.
10 ـ مقتطف من كلمة البابا فرنسيس في المغرب، الرباط، 30 مارس 2019.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©