الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

والت ويتمان.. صدّاح الميادين

والت ويتمان.. صدّاح الميادين
17 أكتوبر 2019 00:03

لا يمكن الدخول إلى وايت ويتمان إلا من تفاصيل حياته، وطُرق عيشه؛ ومراحله، التي تسجّل أحياناً انعطافات وتحوّلات. قضى ردحاً من شبابه في التسكّع، والصعلكة، والنزهات في الشوارع، والأزقّة، وشاطئ البحر... على غير اكتراث. لكن ذلك كان يعبّر عن رغبات في العيش بحرّية، وبوهيمية متحفّظة ممزوجة بكثير من البوريتانية.
يكفي أن نعرف، أنه عندما اشترى أوّل بيت له، اختار مكانه في قلب أسوأ «غيتو» في الولايات المتحدة، من حيث الجوّ،والأمن المفقود، والعنف... اختار حيّ العمال دون سواه، ورفض ضغوط أهله وأصدقائه للانتقال إلى مكان آخر. هنا يرتاح. فهو يحب الجموع. وربّما الاكتظاظ، وربّما التقشّف. إنه البيت الذي بقي فيه حتى وفاته؛ وتحوّل بعدها إلى متحف. إنها المرحلة الأولى من حياته التي أصدر فيها الطبعة الأولى من «أوراق العشب»....
لكن المرحلة الثانية تبدأ عندما شهد ويلات الحرب الأهلية، والجرحى، والقتلى، والعنف، والتعصّب والجنون، والمجازر وانحاز إلى الرئيس لنكولن... هنا، غزرت قصائده الوطنية، الرافضة للحروب، والرافضة للتمييز العنصري.
لكنّ المرحلتين لا تتناقضان في أسلوبه الشعري: فهو أصلاً يعتبر نفسه شاعراً شعبيّاً. لا غموض، ولا هو اتجاه جمالي مركّب. هو شاعر بتعبير مباشر. وأحياناً خطاب. أو مواعظ، أو صراخ. أو غضب.
إنه في المرحلة التي عايش أميركا «النموّ» الصناعي، والاختراعات، وقد أسرته، فامتدحها، وتغزّل بها، وجعلها على مرتبة أعلى من الطبيعة... وهذا بالذات ما جعل ألن غنسبرغ تلميذه البعيد من نيوجرسي يروي أنه قابله ذات مساء في سوبّر ماركت كاليفورنيا (شيء خيالي) خلف جبل من بليخ الشام. وهنا يلاحظ التناقض في مشروع ويتمان: مديح أميركا في مرحلة النهوض الصناعي، في الوقت الذي يعود إلى مجتمع متقشّف، متجرّد... لكن، هذا الرأي قابلته آراء متشابهة في نقد ويتمان، لكن أخرى معجبة بشعره. فهناك شعراء ينتقدون المجتمع الرأسمالي – مثل أوبن، زركوفسكي، وزينكوت، يضعون أنفسهم في عداد «الأشيائيين»، ليقولوا الضرورة في مواجهة هذا العالم الصناعي: ووصفه بعضهم بأنّه ما زال في «عصر السفن البخارية». إنهم الشعراء الحداثيون. وها هو عزرا باوند يقوم بنقدٍ قاسٍ بلا رحمة لشعر ويتمان؛ متّهماً إيّاه بالسذاجة. وهنا نشير إلى تناقض كبير في الكتابة الشعرية بين بارند وويتمان.
صحيح أن الحداثيين خاضوا مجالات متشابهة لويتمان، لكن ليس بهذا الأسلوب الويتماني المبسّط، بل بمحاولة ابتداع أشكال تطبيقية جديدة.
فويتمان قرأ جيداً شكسبير ودانتي وغوته وكيتس وبايرون... لكن لا يبدو أن قراءاته هذه أثّرت في كتاباته عميقاً، فهناك بوادر عالم جديد. وقصائد مركّبة... وغموض. وتأويل..
لكن بالمقابل، هناك شعراء، أُعجبوا بتجربته، وتقاطعوا معه، في جوانب عديدة، مثل أوسكار وايلد وإدوار كاربنتر، وأندره جيد (من حيث نزعته المثلية).
وهناك مَنْ التقاه في صوته الاجتماعي الديمقراطي، وقد تبنّى عدد من الشّعراء هذا الرأي وعلى رأسهم بيار جان جوف وجول رومان. وكذلك الشاعر البلجيكي إميل فرهارين الذي تأثّر به.
لكن الحماس لشعره بلغ ذروته عند الشّعراء الإسبان: فيدريكو غارسيا لوركا، وليون فيليب، وصولاً إلى الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، أما بورخيس فبقي مخلصاً لويتمان منذ قراءاته الأولى، وقام بترجمته ووضع مقدّمة للكتاب المترجم عام 1961.
ونظنّ أن جبران خليل جبران تأثّر به.
لكن يبقى السؤال الأهم اليوم: ماذا تبقّى من ويتمان في الذكرى المئوية الثانية لولادته؛ ربما الكثير. وربما القليل. وعلى الرغم من أنني لا أحب هذا التساؤل، فإنني، وخروجاً من هذه المهمة المتشعّبة، أرى أن ويتمان هو شاعر نحتاج إليه في هذا الزمن، زمن الحروب، والتعصّب، والعنصرية، والكراهية في أميركا... وأوروبا... والعالم كلّه. فهو شاعر السلام، والانفتاح، ومجافاة التمييز العرقي، والديني. وهو الشاعر الذي جعل تجاربه أحياناً مقرونة بالمستقبل، أو متجاوزة زمنها:
فهو أوّل شاعر «أوتوبيوغرافي» في العالم... وقد التحق به، العشرات وأكثر في هذا الاتجاه. وإذا كان ويتمان، كما هو معروف، مسيحيّاً مؤمناً، فإنّ مسيحيّته تختلف عن الآخرين: مسيحية أقرب إلى المذهب الحلولي. كما نتعلّم منه «الالتزام» النقي، أخلاقيّاً وسياسيّاً (آمن بـ لنكولن) والعطف على المصابين والجرحى والفقراء الذين كان يتردّد إليهم ويساعدهم، ويقرأ لهم من كتابه «أوراق العشب». إنها الغيرية الإنسانية.
لكن إلى كل هذا، أرى، أنّ ويتمان كالشاعر الفرنسي بول إيلويار؛ يعتمد الكتابة المباشرة، التراكمية أحياناً، المتكرّرة، الخطابية، النثرية بمباشرتها، وهذا ما أتاح له أن يلقي الشعر في الساحات والشوارع والميادين. فشعره أقرب إلى الشفهيّة منه إلى الكتابيّة. وهذا اختيار تبنّاه كثير من الشعراء في أوروبا وأميركا الذين يؤدّون شعرهم أمام الناس، وفي المجاميع، غناءً، أو إيقاعاً، أو ترنيماً، أو مسرحيّاً...
إنه الشاعر الشعبي بامتياز.
لكن عندما نجد أنّه عرَف أو جايل بعض الاتجاهات التجديدية في اللغة، وبنيتها، ودلالاتها وتثويرها، مع بودلير، ورامبو، وإليوت، وهولدرلن، وريلكه... ولم يتفاعل في الحدود الدنيا بتلك الاتجاهات، لا بدّ، أن نرى أنه، رغم أهميته، اختار مرحلة من التاريخ، وبقي فيها.
وقد رأى بعض الشعراء الأميركيين الحديثيين «أن ويتمان ما زال في عصر السفن البخارية».
هذا قاسٍ، نعم! لكن فيه الكثير من الصّحة!

الموت لا يشبه ما نعتقده.. فهو حظ*
إلى مؤرّخ
أنت الذي يحتفل بالمفقودين
تستغل الجانب الخارجي،
جانب الأعراق، تظاهرات الحياة،
أنت الذي تعاملت مع الإنسان مخلوقاً، مجموعاً
قائداً أو كاهناً،
الذين يجسّون نبض الحياة كما غالباً
لم يفعل (هذه الكبرياء الكبيرة للإنسان نحو نفسه)،
مشروع قصّة المستقبل.

أنت أيّتها القضية العزيزة القديمة
أنت أيّتها القضية القديمة!
أنت اللامقارنة، أنت الشغوف أيّتها القضية القديمة الجيّدة
أنت الصارمة، الناعمة، الفكرة غير الرحومة،
الخالدة عبر العصور، الأعراق، البلدان
عشبة حرب غريبة وحزينة تعلن باسمك
(لأنني أعتقد أن الحروب لطالما نشبت وستنشب
دائماً باسمك)
أصغي إلى أغانيّ، المسار، الآلات
الذي أوجّهه إليك.

هذه الحرب، يا جنودي الأعزاء، لم تصنع حبًّا
بالحرب،
بأعداد أكثر هؤلاء الذين كانوا ينتظرون
من دون أن ينبسوا بكلمة. في الصفوف الخلفيّة،
الذين انتقلوا إلى الصفوف الأماميّة في كتابي،

أو، الدوّامة في الدّوامات،
أنت المبدأ الذي ينير، أنت البذرة الكامنة
أنت المركز!
تصنع الثورات حولك، فكرتك،
بكل لعبتها العنيفة للقضايا المحمومة
(نتائجها. تملأ ثلاثة آلاف مضاعفة من السنوات)
كلامي إليك ـ كتابي الحرب هي واحدة،
أنا غارق في فكري وعالمي، كما تماماً يأخذ
الصراع نوره فيك،
ومثل عجلة تدور حول محورها وكتابي يدور من دون علمه
حول فكرتك.

إلى مغنّية ما
تفضّلي، أقدّم إليك هذه الهديّة
كنت أحفظها بنية بطل، بنية خطيب أيضاً، أو جنرال،
كل إنسان في خدمة القضية المحقّة القديمة،
الفكرة العظيمة، تقدّم حرّية العِرق؛
خصم الطغاة الشجاع، متمرّد متهوّر،
لكنني أرى أنه يعود إليك كل شيء
بقدر الآخرين.

يا شعراء المستقبل
يا شعراء المستقبل! أيها الخطباء، المغنّون، الموسيقيّون
للمستقبل!
ليس لي الآن أن أبرّر أو أجيب عمّن أكون،
فالأمر لكم، أيّتها الطبقة الجديدة، الأصيلة، القويّة،
القارّية، لا مثيل بكبرها،
فلكُم أن تتوجُهوا إليّ وتبرّروني، نعم، لكم!

أنا لم أكتب أبداً سوى كلمتَين مشيرتَين للمستقبل
لم أتقدم على الأكثر من ثانيتَين قبل أن أعود
إلى العتمة.
أنا الإنسان الذي كان يتحوّل بلا انقطاع
بلا توقّف؛ يرمقكم في الطريق بنظرة
ثم يستدير.
تاركاً لكم تفسير هذه النظرة وتحديدها،
أنتظر منكم ما هو أساسي.

إليكم
أيّها الغرباء، إذا التقيتموني في الطريق
ورغبتم في التحدّث إليّ، فلماذا لم تكلّموني؟
لماذا لا أكلّمكم؟

أغانيّ
ما العشب؟ سألني طفلٌ، ويداه
مليئتان بالباقات
وبِمَ كان عساي أجيبه؟ فأنا لا أعرف أكثر منه.
ربّما هو راية مزاجي، منسوج بنسيج أخضر أمل،
ربما هو منديل ربّما،
تُرك على الأرض، معطّراً ذاكرتنا،
حاملاً علامة صاحبه، في زاوية، منظورة جيّدة، لكي
نتساءل.. لِمَنْ يكون هذا؟
أو الأحرى العشب، مَنْ يدري، ربّما هو
طفل أيضاً، آخر مواليد النبات؟
أو، لِمَ لا، كتاب هيروغليفي
يعني: ادفع بلا مبالاة في كل مكان، مناطق
ادفع أيضاً عند السود كما عند البِيضِ
كانوك، توكاهو، كونفرسيون، كوف، سيكون
أَسِواءٌ عند كل العالم، لكل العالم
الحق من دون تمييز.

ثمَّ قلت في نفسي، فجأة، قد يكون شعر القبور
الرائع والمجنون.

يجب أن أتعامل معه بكل رقّة، عقد عشب،
مَنْ يقول إنك لست منفس قلب الشبّان
مَنْ يقول إنني ما كنت لأحبّهم لو التقيتهم
مَنْ يقول إنك لن تأتي من المسنّين، أو
من مقتلع منكراً من ركبتَين أموميّتَين.
وأكثر أيضاً، من هذه الرُّكب أيضاً؟

ذلك أنّه عشب أقتم من أن يخرج رؤوس
المسنّين البِيض،
أقتم من أن يكون لحية مسنّين بلا لون
من الطلوع من مصدر ذات لون وردي
منصول،

نعم، أسمع بربرة كونسير لغات حولي،
أحسّ أنها لم تسقط سدىً من قبّة
قصور!
أودّ أن أُجيد ترجمة كل أدلّة الموت،
شبّان موتى من الجنسَين،
هذه الأدلّة التي تقول العجوز والأم العجوز
والذرّية مقتلعة مبكراً على ركبتيها.

ماذا حلَّ، برأيك بهؤلاء الشبّان، هؤلاء المسنّين؟
ماذا حلَّ برأيك، بتينك النساء وأولادهن؟
إنّهم أحياء، في مكان آمن
البرعم الأكثر خجلاً هو الدليل على أن ما من
موت حقيقي
الذي لا يأتي ذات يوم إلاّ لكي يدخل الحياة
فلا وليس يتصوّب على
مقاطعته النهائية.
لكن، الأحرى، من أجله، منذ ظهوره، لمجيء
أمامها.
لا، كل شيء يمشي نحو الأمام كل شيء يمضي نحو
الأوسع، ولا شيء ينهار،
الموت لا يشبه ما نعتقده أنا وأنتم، فهو حظ.

***
ثمانية عشر شابًّا يستحمّون تحت النّهر،
ثمانية عشر شباباً ودودون؛
ثماني عشرة سنة من حياة امرأة وكل هذه
العزلة!

لمن هذا المنزل الجميل على منحنى النّهر؟
للسيّدة الجميلة التي تختبئ، ملابس فاخرة،
خلف أبوابها

أيًّا، ترى، تختار من هؤلاء الشبّان؟
آه! الأقل وسامة بينهم هو جميل بالنسبة
إليها!
لكن، يا سيّدتي، ماذا دهاك؟ أَوَلَستِ أنتِ
من آراها،
ترمق منذ الغرفة، النهر؟
ضحكات ورقص على الرّمل، وها هو التاسع والعشرون ينضم إلى الاستحمام
هم لا يرونه: هي التي تراهم، تحبّهم كلّهم.

لحاهم تلمع بقطرات الماء، شعورهم
تتصبّب
جداول صغيرة تجري على امتداد أجسادهم.
يدٌ غير محسوسة تداعب أجسادهم
مرتعشة تزلق من الأصداغ حتى الحضور.

الأولاد، يعشقون بطونهم تحت الشمس، يسخرون
من معرفة مَن يغطس، والأوداج منفوخة، جسم
ممدّد معهم،
يتقبلّ تدفّقها.

نزول من عدن
فهمت أن رفقة هؤلاء الذين كنت أحبّهم
تكفيني.
أن أتوقّف مع الآخرين في مرحلة المساء تكفيني،
أن أكون محاطاً من أناس رائعين، فضوليّين،
متنفّسين وضاحكين تكفيني،
أن أمرَّ في وسطهم، أداعب هذا وذاك،
وبالكاد أضع ذراعي على هذه العنق أو الأخرى،
سواء رجلاً كان أم امرأة، لحظة قصيرة،
نعم، ما يمكن القول؟
ما من فرح آخر لي، أستحمّ فيه
كما في محيط!
شيء ما يحدث في الاحتكاك مع الرجال والنساء
مشهدهم، حضورهم، عطرهم، الذي يغوي
بقوّة النّفْس
لأن النّفس تستمع بكل شيء لكن خصوصاً
بهذا العنصر.

ذات يوم مارًّا بمدينة مكتظّة
ذات يوم مارًّا بمدينة مكتظّة أطبع في دماغي
هندستها، تقاليدها، مشاهدها،
عاداتها، لأستخدمها لاحقاً.

ولو أنّه لم يبقَ لي من هذه المدينة سوى
صورة امرأة التقيتها مصادفة، وأسرني حبّها،
عدّة أيام، عدّة ليالٍ، قضيناها معاً، أما الباقي
فنسيته منذ زمن بعيد،

وها نحن ذات مرّة أيضاً نمشي، نحب بعضنا،
نفترق
وها هي تمسك يدي، لا تذهبْ!
خرساء إلى جانبي، التقيتها من جديد،
شفتاها هما اللّتان تتوسّلانني!

هل أنت الإنسان الجديد المنجذب بتأثيري؟

هل أنت الإنسان الجديد المنجذب بتأثيري؟
أولاً، حذار، أنت على نقيض ما نعتقد،
هل أنت واثق من أنك تلتقي مثالك فيَّ!
أتظن أنّه من السهولة أن تجعلني أحبّك!
هل تعتقد أن صداقتي ستكون لك اكتفاء
من دون مشاطرة؟
أتظنّني جدّ مخلص وجدّ واثق؟
أعيناك ستتسوّقان في الواجهة، أساليبي
والعبور؟
أتحسّ أنك تمشي على أرضٍ صلبة لدى لقائك
ببطل حقيقي؟
آه! أيها الحالم! تصوّر قليلاً أن يكون قد ذلك
مجرّد وحلم!

قطرة قطرة، اسقطي!
قطرة، قطرة، اسقطي! تاركة شراييني
الزرقاء!
أنت التي لي! قطرة، قطرة، ببطء،
بشجاعة، أتت التي تنزفين، قطرة قطرة،
جروح تحرّرك من سجنك
(مقطع)

هنا أوراقي الأكثر هشاشة
هنا بالذات هي أوراقي الأكثر هشاشة، لكن
برغم مدة طويلة
هنا بالذات أظلّل وآوي أفكاري،
ولا أكشفها حتى لي،
لكن أتركها الىى أن تكتشفني أكثر
من باقي قصائدي.

أنتِ التي غالباً ما أتردّد عليها
أنتِ التي غالباً ما أتردّد عليها بصمت
في أماكن وجودها،
ماشياً إلى جانبك، جالساً على بُعد،
ساكناً في الغرفة نفسها،
آه! كم تعرفين قليلاً عن النار الكهربائية التي
تجعلينها فجأة تجري فيَّ!

سلاماً أيّها العالم
قل لي يا وايت ويتمان ما تسمع؟
أسمع العامل اليومي الذي يغنّي،
أسمع من البعيد أطفالاً، وكذلك صغار الحيوانات،
في النهار الذي يكاد يبدأ،
أسمع الفرسان الأوستراليين يشجّعون
من الصوت، في مطاردة حصان بَرّي
أسمع الإسبانية التي ترقص بإيقاع الكاستابنيت.
في ظلِّ أشجار الكستناء
أسمع شلاّلاً من الأصداء غير المنقطع منذ التاميز
أسمع الفرنسيين بلهجاتهم الأجشّة
يغنّون لمجريّة،
أسمع من ربّان زورق الغندول الإيطالي ميلوديا
أغنية قديمة،
أسمع النشيد القبطي عند المغيب،
كئيباً وموقعاً في تأمل تفكير مبتثل
الحياة الأموية السوداء للنيل،
أسمع الكهنة المسيحيين على مذابح كنائسهم
أسمع الأساطير الإغريقية المدقعة،
الأساطير الرومانية المؤثّرة،
أسمع لكي يروى لي الحياة الآلهة

أسمع الهندوس يعلّم تلميذه المفضّل،
قصص الحروب، حدثت قبل ثلاثة آلاف
سنة، وما زالت سليمة حتى أيامنا هذه.
(مقاطع)

أغانيّ الحلبة المقتولة

إلى يميني كما إلى يساري مدى الأرض.
لوحة حيّة، كل عنصر منظور تحت نهاره
المفضّل،
تأتي الموسيقى في اللحظة المشتهاة، تتوقّف
في اللحظة المشتهاة،
صوت الطريق العمومي، شعور خفيف
بالجديد،
قولي لي، أيّتها الطريق الكبيرة حيث أسافر، هل
قلت لي «لا تتركني أبداً»؟
هل قلت لي «لا تبتعد عنّي أبداً» وإذا
تركتني ستتوه؟
قلت لي: أنا جاهزة كلّياً لك، مساوية ومستثمرة
لك، انضم إليَّ؟
إذاً، أيّتها الطريق – الكبيرة، دعيني أقل لك:
أحبّك كثيراً لكنني لا أخاف من تركك،
تعبّرين لي أفضل بكثير حيث أعجز عن فعله.
ستكونين لي أكثر من قصيدتي.

كل الإنجازات البطولية تبدو لي تمّت دائماً في
الهواء الطلق، وهذا ما يحدث في جسارة القصائد.

يبدو لي، أنه عليَّ أن أتوقف من تلقائي،
لأجترح معجزاتي،
ما سأراه في الطريق أنا متأكد من أنني سأحبّه
وكل الذين سيرونني سيحبّونني
وكل الذين سأراهم سيكونون سعداء، من
دون أي شك.

أغنية الفأس ذات النصل العريض

أيّها السلاح جيّد الصنع، أيها السلاح العادي،
الرأس المأخوذ من شرايين الأم الإحشائية،
من الخشب والمعدن، عضو واحد
ووحيد
شفة واحدة ووحيدة
ورقة من أزرق – رمادي مغطّاة بالجمرة الحمراء، حصى
لحبّة محصودة،
في العشب، على العشب وبين العشب مطمئناً
حتى يمكن الاستناد إليه، حيث يمكن الاستناد إليّ.

شكل وقوّة، نوعيات شكل وقوّة، احتراف ذكوري،
بالمناظر والأصوات،
قطارات لي مركب، هجوم موسيقي قصير
أصابع عازف يقفز على فضائح الأرغن الكبير
***
من العضلات، من القلب، دائماً ودائماً!
ينبوع نضارة للحياة وينبوع للموت،
لأن الموتى يمضون متقدّمين بقدر ما يمضون متقّدمين
الأحياء،
لأن المستقبل ليس أقل عدمٍ ثقة مما هو
الحاضر.
لأن غلاظة كوكب الإنسان العنيفة ليس فيها
طبقات أقل ممّا لها طبقات دقّة الكوكب الإنساني،
لأن لا شيء يصمد بقدر خصائلنا الخاصة.

أصلاً، ما الذي يصمد أكثر بحسب رأيك؟
مدينة، مدينة كبرى، هل تظن فعلاً؟
دولة مختنقة، دستور مؤسس؟ سُفن على
البخار موضوعة بعدم الحرارة؟
فنادق من الغرانيت والحديد؛
أسلحة، أول اكتشاف تكنولوجي وافد،
أنتم على الجانب!! كل الأشياء تعادل شيئاً آخر
عن ذاتها.
العرض يستغرق وقته، رقصة فالس
صغيرة لراقصين على أنغام الموسيقى،
وثم مساء الخير، أنظروا كيف يحدث ذلك بطريقة
جيّدة عند الجميع،
حقيقة، جيّدة جدًّا، حتى التحدّي الصغير الزائد، تقسط
الصاعقة!
المدينة كبيرة عندما يكون لديها أفضل الرجال والنساء
وليس إذا كانت مؤلّفة من ثلاثة
تكون مع هذا الأولى في العالم.

أغنيتي
مَنْ يمضي هناك؟ الجائع، غير المثقف، الصوفي،
العاري كدودة.
كيف يحدث أن قوّة نور تجري في عروقي؟
ثمًّ، قولوا لي، ما هو الإنسان؟ مَن أكون أنا؟
ماذا، أنتم؟
كل ما أراه فيَّ اجعلوه لكم،
وإلاّ فستضيّعون وقتكم في الإنصات إليَّ.

ليس أنا مَنْ سينوح في كل زوايا العالم
بأن أشهر السنوات فارغة، وأنت أيّتها الأرض
ليست سوى وحل الأنين والشكوى
أنا، في الخارج، كما في الداخل، أعتمر قبّعتي
على هواي.

قصصت شعري بشكل مربّع
أخذت نصائح الأطباء، أجريت حسابات دقيقة،
واستنبت أن الشحم الأحن هو الشحم الذي
يلتصق بالعظام.
عند الجميع، لا أكثر ولا أقل، لا أرى إلاّ نفسي
الشر، الخير، الذي أقوله عن نفسي، أقوله عنهم.
أقف رأساً وساقين، هذا أعرفه
بمدّ مستمر تتوجّه نحوي أشياء العالم
كلّها مكتوبة باسمي، ولا يبقى لي سوى أن أفهم الكتابة.
أنا خالد، هذا أعرفه
وإن الفلك الذي أدور عليه لا يمكن أن يقيم نفسه
بدرجات، بخار
وهذا أيضاً أعرفه.

طالعاً من ميزان المهد المتأرجح المتواصل
بحنجرة الساخر، فعزله الموسيقي،
بدقائق الشهر التاسع؛
بمدى الرمال الجرداء، حقول بعيدة حيث،
تاركاً سريره هو يتوه في مغامرة
حافي القدمين، سافر الرأس، الولد الوحيد،
بمطر. ضوء الهالة،
بسرّ لعبة، شطرنج الظلال،
مقيماً بين البحيرات،
بجماعات تمرّد العلّيق
في أقصى ذاكرة غناء هذا العصفور،
كئيباً كان أو نزقاً عالي الصوت أو خفيضه،
من أقصى هذا القمر، النصفي الأصفر
المتأخرين الظهور، كباقة كبيرة من النشيج،
من أول بداياته من نوتات
الذبول والحب وفي الضباب.
من آلاف الأجوبة غير المستنفدة
يحملها قلبي،
من الآلاف المؤلّفة لكلمات منبعثة
لاحقاً.
من اللذاذة البلا نظير، من القوّة
البلا مثال لكلمة،
من حجيج مشابه في مشاهد كثيرة
مثل طيران مصفرين يتصاعد،
أو عال جدًّا فوق رؤوس

آتٍ بلا تأخر إلى هذا الساحل قبل
التفجّر العام
رجل لكن أيضاً ولد صغير من جديد بدموعي
زالقاً على الرمل وجهاً لوجه مع الأمواج
رابطاً الـ«هنا» مع الـ«بعد» بأغنية
عذابات وأفراح،
مستعدًّا لاتّباع أصغر الظلال وإن قافزاً
مباشرة بعيداً،
ها أنا، أنا وأغنيتي – الانبعاث.
(مقطع)
عندما جرفني المحيط بجزره

أيّها المحيطان أقترب من كليكما
لأن همساتنا بمقاربات مشتركة
رمال دوامات أو بقايا شظايا،
من دون معرفة «اللماذا».
لأن هذه الشذرات لك كما لي
رموزنا،
وأنت أيّها المسبح الهشّ
ذو العضلات
أنت أيّتها الجزيرة – السمكة، أحصد
قدمي. فيا أبي. اجعل من متاعك متاعي.
وأنا أيضاً يا يوماً ندّك
اجعل من القدوس فقاعات، وأنا أيضاً
غطس فلّليني في الحل البلا نهاية،
قبل أن ألقى نحو السواحل
وأنا أيضاً لست سوى خشب ميت وبقايا،
وأنا أيضاً أتخلّص من نباتاتي عليك،
أيّتها الجزيرة - السمكة
ارمي كل شيء على بطنك. أيتها الجزيرة – السمكة
أتشبّث بك بعضوية بلا فكاك،
أعانقك بذراعيَّ
فيا أبي عانقني،

حُبّاً أهمس في عناقي مفتاح هذا الهمس
الذي أغار منه.
* مختارات من ديوان والت ويتمان «أوراق العشب»

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©