الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كيف تنبهت الإمارات مبكراً للخطر المداهم العيش الإنساني المشترك؟

كيف تنبهت الإمارات مبكراً للخطر المداهم العيش الإنساني المشترك؟
3 أكتوبر 2019 03:03

إميل أمين

ما الذي يجري حول العالم، ولماذا أخفقت التنبؤات التي صُدّرت إلى العالم في ستينيات القرن الماضي عن عالم أشبه ما يكون بالقرية الكونية الواحدة، وفيه يعيش البشر كافة على سطح الأرض كإخوة؟ هكذا رأى عالم الاجتماع الكندي الشهير مارشال ماكلوهان، المشهد في ستينيات القرن المنصرم، غير أن الحال يغني عن السؤال، إذ بات الآخر، وكما قال فيلسوف فرنسا الشهير، والوجودي الأكبر جان بول سارتر: إن الآخرين هم الجحيم.

يعن لنا التساؤل: ما السبب وراء ذيوع وشيوع ثقافة الكراهية، وانتشار خطاب الانغلاق والانعزالية، ما يفرز حالة من الخوف، والتي تؤدي بالضرورة إلى اعتبار الآخر عدواً، فيما يبقى السؤال الأكبر والأهم: ما الطريق إلى مكافحة علائم الموت الأدبي هذه، ونحن في طريقنا إلى بدايات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وما هو دور رجالات النخبة وحكماء العالم في الوقوف صفاً واحداً في مواجهة ظواهر ومظاهر الكراهية الحديثة هذه؟

الأصل
حديثاً طفا على السطح مصطلح ثقافة الخوف، وهو تعبير يستخدمه بعض العلماء والكتاب، عطفاً على الصحفيين والسياسيين الذين يعتقدون أن بعض أفراد المجتمع يبثون الخوف في نفوس العامة لتحقيق أهداف سياسية.
على سبيل المثال وليس الحصر، قد تنتشر ثقافة الخوف من جنس أو عرق معين، بعد حادثة بعينها، الأمر الذي رأيناه يتجلى في الولايات المتحدة الأميركية مرتين، الأولى في أعقاب قصف اليابانيين لميناء «بيرل هاربور»، خلال الحرب العالمية الثانية، وساعتها عرفت أميركا ثقافة معسكرات الاعتقال، وبات كل ياباني متهماً بالتعاطف الإيديولوجي على الأقل مع بلاده الأصلية.
فيما المرة الثانية كان المسلمون في الداخل الأميركي ومن كافة جنسيات العالم، هدفاً واضحاً للخوف، غداة هجمات نيويورك وواشنطن، يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، وجاءت فيما بعد سلسلة «الحروب على الإرهاب»، بهدف خلق ثقافة الخوف عن عمد، سيما وأنها كما يقول مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيجينو بريجنسكي: «تحجب العقل، وتزيد من حدة المشاعر، وتجعل من الأسهل على السياسيين الغوغائيين تعبئة الجمهور بالسياسات التي يرغبون في تمريرها»، ومن هنا يبدأ التأصيل لثقافة الخوف.
على أن علامة الاستفهام تمتد إلى ما وراء الخوف من أعراق أو أجناس من البشر، فهناك ثقافة خوف أخرى بدأت في الانتشار، كما يرى البروفيسور فرانك فوريدي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة «كنت» من ظواهر تقلق الإنسانية، مثل المحاصيل الزراعية المعدلة وراثياً، أو الهواتف المحمولة وما يشاع عما تنقله من أمراض، ولاحقاً بات الهاجس الأكبر مرتبطاً بقصة الاحتباس الحراري والانفجار الإيكولوجي المنتظر.

المؤامرة
هل كانت ظاهرة الخوف نتاجاً طبيعياً لما جرى في القرن العشرين من أحداث جسام، لا سيما نشوب حربين عالميتين، أرسيتا المخاوف من الآخر وبشكل غير مسبوق في التاريخ الإنساني، الأمر الذي دعا لاحقاً إلى حالة من التوجس القلق من نشوب حرب عالمية ثالثة؟
يبدو جلياً أن المخاوف التي ولدت في القلوب والعقول من جراء التدمير والخراب، وهلاك الزرع والضرع، والقضاء على الحرث والنسل، وظهور الأسلحة الفتاكة، قد تركت في العقول والقلوب مسارات ومساقات لتسرب الخوف عن عمد وقصد من جهة البعض، وبصورة تلقائية لدى البعض الآخر.
في هذا الإطار يمكن القطع بأن هناك من يعمد إلى ترويج سياسة الخوف، من أجل تحقيق مصالح ذات أبعاد خاصة بعضها إيديولوجي، والآخر اقتصادي. فعلى سبيل المثال يمكن النظر إلى المجمعات الصناعية العسكرية، كأحد مصادر إثارة الرعب والخوف حول العالم، عن طريق تقديم روايات الخوف الجاهزة من الآخر الروسي أو الصيني، والترويج لطرح فكرة الإرهاب بالمطلق، بهدف ترويج بضاعة الأسلحة الفتاكة، وعقد الصفقات المليارية، وحتى تبقى عجلة الاقتصاد دائرة مرة وإلى الأبد.
لا يقتصر المشهد على هؤلاء فقط، بل يمتد إلى عالم السياسة والسياسيين، ويبرز هنا المثال الأميركي من خلال طبيعة وشخوص المحافظين الجدد، وتوجهاتهم اليمينية، الذين اتخذوا من زمن الحقبة السوفيتية مدخلاً لهم لإثارة الخوف في نفوس الأميركيين، وبلغ بعضهم مثل «ليندسي هال» إقناع الرئيس الأميركي رونالد ريجان بفكرة «حرب الكواكب»، ونهاية الزمان بالمعركة النووية الكبرى مع السوفييت، والتي أسموها «هرمجدون».

أصوليات
والشاهد أنه لا يمكننا الحديث عن الخوف وتبعاته، من دون الوقوف أمام العلاقة التبادلية بين الأصوليات والقوميات وبين شعوب العالم، في العقود الثلاثة الماضية على وجه التحديد.
باختصار غير مخل، حين سادت التوجهات الأصولية في الشرق، وحتى وإن كانت بعض الدوائر الغربية شجعت مثل ذلك التطرف لأسباب الصراعات القطبية، فإن حالة من الخوف من الآخر كان لها أن تنشأ على الجانب الآخر من البسيطة، حيث النصف الشمالي من الكرة الأرضية.
اعتبر الأصوليون الإسلامويون أن الغرب، هو ساحة معارك، وجهاد، وأنه لا قيام لدولة الخلافة، إلا بالقضاء على الغرب العدو الرئيس للعرب والمسلمين، والذي يتآمر عليهم صباح مساء كل يوم.
لا يخلو التحليل الصادق من الإشارة إلى وجود بعض عوامل الإرث التاريخي السيئ للغرب، والتي تركها في حواضر عربية وإسلامية، من خلال سنوات الاستعمار الطويلة، وهذه غالباً ما يتخذ الأصوليون منها تُكَأَة للتذكير بالجراح وتعميق الخوف من كل ما هو غربي، بل واعتباره العدو الواجب الخلاص منه، وربما كانت أدبيات الدواعش المثال الواضح على ترويج الأصوليات للمخاوف في وسط الجماهير الغفيرة، ظاهرة القرن الـ21.
على الجانب الآخر، أي في نصف الكرة الغربي، نشهد ظاهرة قاتلة لا تقل خطورة عن الأصوليات الإسلاموية، وإن اتجهت في مسارين مختلفين أحدهما أوروبي والآخر أميركي.
فهذه أوروبا تعاني من مخاوف القوميات والعرقيات من جديد، فقد أفرزت تطورات سياسية كالوحدة الأوروبية التي تتعرض الآن لاختبارات قاسية، قد تذهب بها هباءً منثوراً، رفضاً داخلياً عرقياً بين الأوروبيين وبعضهم البعض.
هذا الرفض كان بمثابة الكبت، أسقط على الآخرين، لا سيما اللاجئين والمهاجرين، سواء شرعيين أو غير شرعيين، وباتت هناك حالة من حالات وسم ووصم الآخر، لا سيما المسلم، بالإرهاب، الأمر الذي جعل من الخوف أمراً طبيعياً، ما عاد بأوروبا إلى عصر أقرب ما يكون لأوان النازية والفاشية.
فيما الولايات المتحدة، تشهد مداً محافظاً يمينياً جديداً، والمثير أن الآخر هنا ليس بالضروري العربي أو المسلم، وإن كان ذلك قد جرت به المقادير بالفعل في أوائل رئاسة الرئيس ترامب، لكنه قد يكون الأميركي اللاتيني، الذي سوّقت الأبواق المحافظة المخاوف منه، بوصفه الطرف الذي يختطف وظائف الرجل الأبيض اليوم، وغداً ربما يكون سبباً فيما يمكننا أن نسميه «الانقلاب الديموغرافي» في الداخل الأميركي، بمعنى أن يضحى الرجل الأبيض البروتستانتي الأنجلو ساكسوني، هو الأقلية العددية، في مواجهة تجمعات سكانية أخرى كالإسبان، والآسيان، والعرب والمسلمين.
وربما نشهد في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، تصاعداً جديداً للمخاوف من الآخر، من منطلقات عرقية تجاه جنسيات قريبة جغرافياً، لكنها مخالفة من حيث معايير البراجماتية الأميركية التقليدية.

تقوقع
هل تلعب الثقافة دوراً ما بعينه في سياق ونطاق شيوع وذيوع الخوف؟ المؤكد أن هناك علاقة جذرية بين قبول التعددية الثقافية أو رفضها، فالقبول بمثل هذا التنوع، هو غنى في حد ذاته، كفيل بأن يطرد الخوف خارجاً، أما الانكفاء على الذات فحكماً سوف يولّد مسارات الخوف، ويعلي من صيحات الانعزالية، وإغلاق الأبواب في وجه المغاير ثقافياً.
أحد أفضل المفكرين العرب الذين واجهوا ظاهرة الخوف الثقافي برؤية تحليلية عميقة، هو الناقد والكاتب السعودي الدكتور عبدالله الغذامي، والذي يؤكد على أن الخوف الثقافي يحرمنا إيجابيات حضارة الآخر. حديث الدكتور الغذامي في واقع الحال يمكن تطبيقه على الشرق والغرب دفعة واحدة، وعنده أن أكبر خلل يمكن أن يعاني منه شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، الشعور بأن هناك مؤامرة فكرية وثقافية، إلى جانب الاستهداف السياسي، تحاك ضده.
هذا الخوف هو الذي يجعل المرء يتقوقع ويبتعد عن مكون فكر الثقافات الأخرى، ومن ثم يأخذ البعض في الشعور بدور الضحية، ويتحول الفعل معه إلى ردود فعل غير منتجة، وهذا ما يقودنا إلى دوائر الرهاب الإنسانوية، إن جاز التعبير.
ولعل الولايات المتحدة كمجتمع متقدم تقنياً، يعطينا مثالاً على الأكلاف العالية والغالية للخوف من الآخر، إذ تبدو هناك مفارقة كبرى في حال ومآل الأميركيين بين الماضي والحاضر.
عُرف الأميركيون بأنهم شعب نشأ في حاضنة يطلق عليها «بوتقة الانصهار»، بمعنى أن جميع المهاجرين إليها، قد جمعهم وعاء حضاري واحد، وقد كان الآباء المؤسسون لأميركا يدركون أهمية التنوع والتعددية الثقافية، تلك التي أثرت أميركا من خلال تنافح وتلاقح العقول والثقافات على أرض كنعان الجديدة، كما أطلق عليها.
هذا المشهد قد لا يكون قائماً اليوم، سيما وأن أصوات أميركا الانعزالية هي الأعلى والأكثر ضجيجاً، فلم يعد يعني أميركا أن يكون نموذجها الثقافي المتجانس هو الأكثر سيادة وريادة، ومن هنا يبدو الآخر خصماً من حسابات التعددية وليس إضافة بناءة لها.
سر من أسرار الخوف من الآخر، ربما يكون موصولاً بالسماوات التي انفتحت والخوف من حالة الانثقاف بين الأمم والشعوب؛ أي دخول ثقافات بأكملها على شعوب لا قبل لها بالآخر، أو تخشى من مقارعته، والخشية هنا تبدأ من الثقافة والاقتصاد، وتمضي إلى حدود العسكرة والحروب.
في هذا الإطار، يدفعنا الخوف إلى التفكير في إيجاد طرق لحماية الذات، إنها نظرية «المئذنة والمنارة» التي تحدث عنها الأمين العام للأمم المتحدة الأسبق الراحل الدكتور بطرس غالي، والذي أشار في أحد مؤلفاته إلى أن الخوف من الآخر الذي تقاطع مع طريقنا فجأة، من جراء السماوات التي انفطرت، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت العالم قرية على أطراف الأصابع، هو الذي سيدفع إلى التقوقع والاحتماء بالرموز الدينية التي تمثل الثوابت في عالم سريع التغير.
من هنا يتحول الخوف إلى تعصب، يتستر بحجة حماية الذات والخشية عليها مما ينعت بالذوبان، أو التفكك، أو التلوث، أو الاحتواء، إنه الخوف المعرفي، الذي يولد الكراهية، وربما يولد منها بنفس القدر.

حصاد
قبل بضعة أسابيع وفي أحد لقاءاته العامة استخدام البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، تعبيراً مخيفاً ليصف به حالة اللاحب المنتشرة حول الكرة الأرضية، فقال إن: «فائض الكراهية» بات يملأ العالم.
ولعل الحبر الأعظم في واقع الحال، بات يستشعر الخطر وهو في روما المدينة المقدسة، من جراء السياسات الشعبوية التي أضحت تملأ الأفق الأوروبي، بما تحمله من دعوات لإقصاء الآخر، بل ترك اللاجئين للغرق في مياه المتوسط، ومن دون أن يعني ذلك شيئاً لإنسانيتنا التي تفقد روحها الخلاّقة يوماً تلو الآخر.
وفي توقيت مشابه كان مندوب حاضرة الفاتيكان في الأمم المتحدة رئيس الأساقفة «برناردينو أوزا»، يصرح بأنه لن يمكن مجابهة خطاب الكراهية من غير إجماع كافة الزعماء السياسيين والاجتماعيين والدينيين على إدانة استخدام الدين للتحريض على الكراهية والعنف، أو لتبرير أعمال العنف أو التهجير أو القتل أو الإرهاب.
ولعل أحد الأسئلة الملقاة اليوم على مائدة النقاش: هل الأديان سبب في نشوء وارتقاء الكراهية بين البشر في حاضرات أيامنا؟
الجواب القطعي هو أن الأديان لم تكن يوماً هي السبب فيما يجري حول الكرة الأرضية، ولهذا لا ينبغي إلقاء اللوم عليها في ذاتها، بل يتوجب إلقاء اللوم على أولئك الذين يسيئون تفسير المعتقد الديني أو يتلاعبون به لارتكاب الشر، وذلك لتحقيق أغراض سياسية وإيديولوجية، الأمر الذي يتسبب في نهاية المطاف في حالة «فائض الكراهية»، التي حدثنا عنها الرجل الفقير، ذو الثوب الأبيض.
قبل نحو شهرين كان خطاب الكراهية يظهر نفسه مرة أخرى في الداخل الأوروبي، من خلال الاعتداء على أحد مساجد أوسلو العاصمة النرويجية، ذاك الذي قام به يميني متطرف، وعلى الرغم من ضآلة نتيجة الاعتداء، فإن الحدث نفسه أكد على أن خطاب الكراهية، ملأ مربعاً جديداً في دول عرفت بالرفاه الاجتماعي، وبنقاء وصفاء القلوب.. ما الذي جرى في أوروبا؟
إنها الكراهية في كل الأحوال، تلك التي تطفو على السطح بملامح ومعالم دينية تارة، كما في حالة الإسلاموفوبيا في أوروبا، وتتبدى للناظر انطلاقاً من العرق والأصول تارة أخرى، كما في حال الكارثة التي جرت في تكساس الأميركية، عندما فتح شاب يميني أبيض متطرف، نار سلاحه الأتوماتيكي على عدد من أصحاب الجذور اللاتينية، إذ اقتنع بأنهم المهدد الأول والأخطر لتفوق الرجل الأبيض.

جدل
والثابت أن محاربة خطاب الكراهية بدأ يواجه من قبل البعض بأنه طرح فيه تجاوز على الحق في حرية الرأي والتعبير، ولعل الجدل الذي نشأ في فرنسا مؤخراً يدلل على أن معركة الخوف والكراهية، إنما تنشأ أول الأمر وآخره في العقول، وقبل أي موقع أو موضع آخر.
في هذا الإطار كانت الجمعية الوطنية الفرنسية وفي منتصف شهر يوليو تموز الماضي، تقر مشروع قانون يلزم مواقع التواصل الاجتماعي الكبرى، مثل (فيسبوك) و(تويتر)، بإزالة المحتوى الذي يتضمن خطاب كراهية خلال 24 ساعة. وقد جاء القانون الفرنسي في ضوء رؤية للرئيس الفرنسي ماكرون يريد من خلالها أن يجعل بلاده رائدة في وضع القواعد التنظيمية لشركات الإنترنت العملاقة، واحتواء انتشار المضمون غير القانوني والمعلومات الزائفة على المنصات الأكثر استخداماً حول العالم.
في هذا الصدد، كان وزير الثقافة الفرنسي فرانك ريستر، يؤكد على أن بلاده عازمة على محاربة خطاب الكراهية في الأوساط الإعلامية والمجتمعية الفرنسية، وإيجاد حلول عاجلة للرد على الخطابات التحريضية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والتي تحث على العنف والتطرف المسيء.
الوزير الفرنسي يتوقف عند جزئية غاية في الأهمية، وهي أن الحلول الثلاثية المتمثلة في معاقبة المواقع المسيئة من خلال غرامات تصل إلى أربعة في المئة من الأرباح السنوية، وتمكين المنصات من سحب ذلك المحتوى، وبصورة سريعة، عطفاً على معاقبة المسؤولين عن مثل هذا المحتوى، لاسيما الذين يحضون على الكراهية من خلال التعليم والتوعية من أضرار خطابهم. هذه الحلول لا تتقاطع مع حق الحرية في التعبير، ذاك الذي يكفله الدستور الفرنسي لكافة المواطنين والمقيمين على الأراضي الفرنسية، بحسب الوزير الفرنسي، الأمر الذي لقي إشادة من كثير من المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي.
على سبيل المثال، فقد أعرب مرصد الأزهر لمكافحة التطرف عن تقديره لكافة التصريحات والفاعليات التي تواجه ذيوع خطاب الكراهية المقيت، مشيداً بتصريحات فرانك ويستر، التي تسعى لإيجاد حلول عاجلة للرد على خطر الخطاب الذي يهدد المجتمع، ومضيفاً أنه لابد من مجابهة تلك الخطابات المسيئة التي تحرض على العنف والتطرف عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وقد طالب مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، بضرورة تبني عمل موحد لمحاربة ذلك الخطاب الذي يحرض ضد الآخر وينال من أمن وسلامة الأوطان.

رؤية
هل كانت الإمارات العربية المتحدة سباقة في مجال مكافحة التمييز وخطاب الكراهية، قبل الدول الأوروبية وريثة النهضة والتنوير؟ يمكن القطع بأن ذلك كذلك قولاً وفعلاً، ففي يوليو من عام 2015، أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، مرسوماً بقانون رقم 2 لسنة 2015 بشأن مكافحة التمييز والكراهية.
كان الهدف من وراء القانون إثراء ثقافة التسامح العالمية ومواجهة مظاهر التمييز والعنصرية، أياً كانت طبيعتها، عرقيةً أو دينيةً أو ثقافيةً.
ما الذي جاء به القانون الإماراتي السابق للرؤى الغربية المختلفة؟ بداية يقضي القانون بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة أشكال التمييز كافة، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل هذا القانون.
عطفاً على ذلك، فإن القانون الإماراتي، يغلق أبواب المحاججة بالقول إن الأمر من قبيل حرية الرأي، إذ لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير لإتيان أي قول أو عمل من شأنه التحريض على ازدراء الأديان أو المساس بها، بما يخالف أحكام هذا المرسوم بقانون.
ولعل الإمارات في قانونها المتقدم قد استشرفت واقع العالم المأزوم، ولهذا حظر قانون مكافحة التميز والكراهية التفريق بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين، أو العقيدة، أو المذهب، أو الملة، أو الطائفة، أو العرق، أو اللون، أو الأصل.
لم يتوقف القانون الإماراتي عند كل ما سبق، بل رأى من بعيد النوازل التي لابد لها أن تطفو على السطح من جراء وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وسبل نقل المعلومات الحديثة، ولهذا جرّم القانون كل قول أو عمل من شأنه إثارة الفتنة أو النعرات، أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات من خلال نشره على شبكة المعلومات، أو شبكات الاتصالات، أو المواقع الإلكترونية، أو المواد الصناعية، أو وسائل تقنية المعلومات، أو أية وسيلة من الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وذلك بمختلف طرق التعبير كالقول، أو الكتابة، أو الرسم.

استراتيجية
تبدو الإنسانية قلقة بالفعل من جراء انتشار خطاب ضار يعيشه العالم، خطاب مليء بالتوترات القائمة على التعصب الديني والعقدي والمذهبي، والحساسيات الطائفية والاجتماعية، تلك التي تحمل نزعات نحو رفض الآخر، والحث على التخلص منه، واجتثاثه من جذوره.
هنا كان لابد للأمم المتحدة من أن تتحرك على الصعيد الأممي، ولهذا أطلق الأمين العام للمنظمة الدولية في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، استراتيجية وخطة عمل للأمم المتحدة، من أجل مواجهة خطاب الكراهية، الذي وصفه بأنه اعتداء على التسامح وحقوق الإنسان.. ما هو الغرض من تلك الاستراتيجية؟ المؤكد أنه تعميق فهم جميع كيانات الأمم المتحدة بالتأثير الغادر للكلام الذي يحض على الكراهية، وكيف يمكن للكيانات الأممية أن تعالجه بشكل أكثر فعالية من خلال عملها.
يرى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن «خطاب الكراهية هو بحد ذاته هجوم على التسامح والإدماج والتنوع وجوهر معايير ومبادئ حقوقنا الإنسانية، على نطاق أوسع، إنه يقوض التماسك الاجتماعي والقيم المشتركة، ويمكن أن يرسي الأساس للعنف، معيقاً لذلك قضية السلام والاستقرار، والتنمية المستدامة وكفالة حقوق الإنسان للجميع».
أما الخطوط العريضة للاستراتيجية فتمضي عبر مسارين:
أولاً: تعزيز جهود الأمم المتحدة لمعالجة الأسباب الجذرية للخطاب الذي يحض على الكراهية، بما يتماشى مع رؤية الأمين العام الوقائية، وتشمل هذه الأسباب الجذرية: العنف والتهميش والتمييز والفقر والإقصاء وعدم المساواة وانعدام التعليم الأساسي وضعف مؤسسات الدولة.
ثانياً: تمكين الأمم المتحدة من الاستجابة بفاعلية لتأثير خطاب الكراهية على المجتمعات، وتشمل التوصيات جميع الأفراد والجماعات من ذوي الآراء المتعارضة، مع العمل مع منصات وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، والانخراط في الدعوة، ووضع إرشادات للاتصالات لمواجهة اتجاهات وحملات خطاب الكراهية. فعلى الرغم من أن التكنولوجيا الرقمية قد وفرت مجالات جديدة يمكن أن ينمو فيها خطاب الكراهية، فإنها يمكن أن تساعد أيضاً في مراقبة النشاط وتوجيه الاستجابة وبناء دعم للروايات المضادة.

لن أعطيكم كراهيتي
هل يمكن للقوانين والاستراتيجيات الدولية أن توقف خطاب الكراهية ومظاهر الخوف من الآخر، من دون أن تكون هناك إرادة إنسانية واعية لانتشال البشرية من وهدتها الآنية؟
الشاهد أنه خلال الـ75 سنة الماضية، رأى العالم كيف كان خطاب الكراهية بمثابة نذير لجرائم الفظائع، بما في ذلك الإبادة الجماعية، من رواندا إلى البوسنة وكمبوديا، وفي الآونة الأخيرة، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنف الذي أسفر عن عمليات قتل جماعية في العديد من أنحاء العالم، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى، وسريلانكا، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا. أضحت إذن أصوات الكراهية أعلى من دعوات المحبة، وباتت عملة الكراهية هي الرائجة.
الإرادة التي نتحدث عنها تمثلت في صوت الصحفي الفرنسي أنطوان لاريس، الذي قتلت زوجته هيلينا مويال لاريس في الثالث عشر من نوفمبر عام 2015، خلال الهجوم الإرهابي الدموي الذي وقع في مسرح «باتاكلان» في قلب باريس، وراح ضحيته 88 آخرون، عندما قام ثلاثة رجال بإطلاق النار وإلقاء القنابل على الجمهور بحفل لموسيقى الروك. وبعدها بثلاثة أيام قام لاريس بكتابة خطاب مفتوح موجه مباشرة لقتلة زوجته ونشره على (الفيس بوك)، ونال أكثر من 230 ألف مشاركة، العالم كله كان في حالة حداد بعد حادث الهجوم على باريس، ولكن لاريس رفض حالة التخويف المنتشرة، ورفض أن يترك حياة ابنه في أول سنة ونصف من عمره تنهار بسبب جريمة قتل أمه، وأطلق صيحته الكفيلة حال رواجها بانتشال البشرية من الخوف والرعب.. «لن أعطيكم كراهيتي». ولاحقاً ضمّن رؤيته كتابا باع أكثر من 100 ألف نسخة في فرنسا، وترجم إلى أكثر من 22 لغة، ووصفت «الجارديان» البريطانية الكتاب بأنه أفضل كتاب لعام 2016.

خطاب الكراهية
ما هو خطاب الكراهية إن جاز لنا أن نعرفه؟ بحسب بعض الموسوعات العالمية، هو أي خطاب يؤيد التحريض على الضرر، خاصة التمييز أو العدوانية أو العنف، حسب الهدف الذي تم استهدافه وسط مجموعة اجتماعية أو سكانية، وعادة ما تكون هذه المجموعة من الضعفاء والأقليات.
غير أن هذا التعريف الانسيكلوبيدي، لم يعد يواكب تطورات المشهد الأممي الجاري، إذ أن فعل وخطاب الكراهية لم يعد مرتبطاً بجغرافية المكان، فقد يحدث تصريح في الشمال الأوروبي، ثورة في ست قارات الأرض، كما رأينا في الرسومات الكاريكاتورية لمجلة «شارلي إبدو»، تلك التي أججت نيران المواجهات الدينية حول العالم، كما أن إشكالية خطاب الكراهية، تبدو وكأنها تتداخل وتتشابك مع خطاب الرأي والتعبير، ما جعل مسألة فض الخيوط، وتخليص الخطوط بينهما أمرا يستدعي توجها أمميا، ودورا فاعلا من الأمم المتحدة بنوع خاص.
وفي كل الأحوال فإن القوانين الحديثة تعمل على ضمان حماية المساواة بين الناس وتحظر خطاب الكراهية، وتذكر الفقرة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ما يلي: «تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف». غير أن الواقع يدلل على أنه رغم القوانين الرسمية إلا أن فائض الكراهية يزداد حول العالم يوماً تلو الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©