الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

محمد ديب.. العزلة المرموقة

محمد ديب.. العزلة المرموقة
19 سبتمبر 2019 00:17

أسماء جزائري

إن أكثر القراء مجازفةً للدخول إلى عالم محمد ديب سيخرجُون صامتين راغبين في العُزلة، ذلك أنه ما من ثرثار يستطيع ألا يُصاب برهبة هذا الدير، وآخرون سيُقررون التوقف عن الكتابة، إذ لا يتركُ الحياء من الذات للواضحين سوى ذلك. سنة 2001 شاهد العالم الأدبي لأول مرة طائر «السيمرغ» الذي حط بحي «سان كلو»، حيث كان يُقيم محمد ديب ورفعه على جناحيه المفرودين ككِتاب ليطير به إلى العالم العلوي. وتنطلق الأصوات المزغردة فور قراءتنا لقصيدة محمد ديب «ظل الحارس» التي كتبها سنة 1945، وسيحمل ديوانه الشعري الذي سينُشر سنة 1961 اسمها لاحقاً: «لا تسألوا، إذا كانت الرياح، وهي تهب على القمم، تذكي اللهيب، ما إذا كانت نار فرح، أو نار فقر، أو إشارة مترصد، في هذا الليل المبلل، أيتها النساء الأسطوريات، اللواتي أغلقن أبوابهن، أحلمن، إنني أمشي، الكلمات التي أحملها على لساني، بُشرى غريبة» فهل نسميه المتنبئ، أم بالزاك الجزائر، أم البوهيمي، أم سيد العزلة، أم آلتنا الزمنية...؟

بحلول 2020، ستمر على الجزائر إذن ذكرى ميلاد واحد من أهم الكتاب الذين أرخوا فعلياً لمرحلة مهمة من مراحل تاريخها، الكاتب محمد ديب، الذي يعتبر من أهم مؤسسي الأدب المغاربي الفرانكوفوني، الأديب الذي ركب كل الأمواج العاتية من سوريالية ورمزية وغرائبية وواقعية وكافكاوية وصوفية، دون أن ينفصل شعره عن نثره أو نثره عن شعره. لقد كان مُتحرراً من كل تلك الحواجز التعريفية التي تجعل من الآداب غرفاً بلا أبواب ولا نوافذ، صانعاً له ممراته السرية والعلنية القائمة على الإبداع الذي يلده هو بذاته لا الذي يسطره له الآخرون، ألم يردد طويلاً: إنني شاعر في الجوهر، وقد أتيت إلى الرواية من الشعر، وليس العكس. ليصفهُ الطاهر بن جلون بالصوت المسكوُن بالشعر.

عن الاسم
وإذ نتحدث عنه اليوم، فإننا نتحدثُ أولاً عن موقف صامد جعلنا نُؤمن «بالكاتب الزمن» الذي كلما ذكرناه سافرنا، أديب حمل جزائريته على كل جسور الاغتراب، حينما تم نفيه سنة 1959 السنة التي صدرت فيها روايته «صيف أفريقي»، وعلق أحد محافظي الشرطة الفرنسية يومها على كتاباته الوطنية: «هذا الكاتب تجاوز حدوده إنه فلاقي» (يقصد إرهابي)، أو تجريبه بعد الاستقلال لغربة جديدة، حينما حصل لأول مرة على جواز سفره الجزائري، ومن ثم انتقاله إلى الدول الاسكندنافية، حيث ألف ثلاثية الشمال (سطوح أورسولو، غفوة حواء، ثلج من رخام) التي تعتبر بالنسبة لمحمد ديب الثأر الأدبي ككاتب آتٍ من الجنوُب من الأدب الكولنيالي، الذي سمح لكتاب آتين من أوروبا، على حسب تصريحه، بأن يُلقوا على مجتمعاتنا الجنوبية نظرتهم الشمالية الباردة والمُتعالية.
كل هذه الغربة، التي شكلت وطناً موازياً لم تصنع منه ذائباً، بل عززت فيه أكثر جزائريته، عبر عنها في تصريح له سنة 1993 قائلاً: «إن رغبة التجذر في عالم غير عالمك تتكسر أمام عدم تمكنك من لقاء مجتمع يُحب الاعتراف بما هو بدهي ستبقى دائماً جزءاً من أولئك المهاجرين البوهيمين، الذين نصبوا خيمهم على مشارف المدينة، فإذ هم متهمون بسرقة دجاج السكان الأصليين»، ومن ثم فإنه في كل تلك المدن البعيدة كان يصطدم بجزائريته، ليكتشف أنه كان يجبُ عليه بعد الاستقلال العودة إلى ذاته، إلى الحميمية فيه ليتعامل مع الوطن لا كمحامٍ يرافع باستمرار باسم شعبه ووطنه حسبما قال يوماً، بل أن يسحب المُسدس من معطفه ويستبدله بالمسطرة، لهذا جاءت أعماله بعد الاستقلال مشبعة بالرمزية والألغاز. وهو الذي استكثروا عليه اسم «محمد» على أغلفة كتبه الأكثر مبيعاً، فقد طالبه الناشر دائماً بعدم تثبيت اسم «محمد» المقلق للأذن الأوروبية لكنه رفض، وأسر لأحد أصدقائه في أزمته مع دار نشر لوساي: «بقي لهم أن يطلبوا مني تغيير اسمي، أنا أعرف أن اسم محمد يُقلق الغرب».

شُرفات غريبة
من يطلع على إرث محمد ديب الأدبي، يفهم ماهية أن لا تفرغ حقيبتك كلها داخل الخزانة مهما كانت بادية عليك الرغبة في البقاء للأبد، فأنت في الذهاب إلى ذاتك ستنامُ في بيوت كثيرة لتتعرف على جُدرانك الداخلية، وتطل من شُرفات غريبة على واجهات تتعرف فيها على نفسك أكثر مما تتعرف عليها، فأدب محمد ديب في الحقبة الاستعمارية كان أدباً يضع مسدساً في الجيب الداخلي لمعطفه، أدب يشبه تماماً الواجب الوطني، أن تذوب في حنجرة واحدة تصرخُ في وجه الظلم والاستبداد، وقد وضحه في لقاء له مع عثمان تزغارت، متحدثاً عن الثلاثية التي جاءت في خضم الحركة الوطنية الجزائرية، وكانت إسهاماً منه في التعريف بقضية بلاده وثورتها، وإذ قررت آنذاك -يُضيف محمد ديب- أن من واجبي أن أصهر صوتي في الصوت الجماعي للشعب الجزائري، وأجعل من كتاباتي أسلحة بيد الثورة الوطنية. والأمر ذاته فيما يخص مرور الجزائر بالعشرية السوداء، كان رده دائماً كأديب يضع الحقيقة كما هي لا بتلك الطريقة الممسوسة بالكذب، التي لا يفعلها إلا بعض رجال السياسة فجاءت روايته «مشيئة الشيطان» سنة 1998 كطريقة لقول تلك الحقيقة للناس. وفي تصريح أجراه معه المخرج والصحفي محمد زاوي، عن اغتيالات الصحفيين والمثقفين والمواطنين في التسعينيات رد: «عندما تُرتكب جريمة قتل بوساطة جزائري آخر، سواء أحب أو لا، أنا أتقاسم مسؤولية هذا القتل دون وعي أو به، القتلة يريدوُن تحميلنا المسؤولية، وهذا ما يزيد تعاستنا إلى الحد الذي يجعلنا نشعُر بالعار، لابد أن يشعر الجزائريون بالعار، لأن جزائريين آخرين يقترفُون جرائم ليست فقط باسمهم، ولكن أيضاً بأسمائنا».
بمنتهى العفوية، يصرخُ الإنسان عندما يصطدِم بشيء من الماضي (أغنية، لباس، أكلة، تصفيفة شعر، سيارة، بيوت، كتاب)، لأن هذه الأشياء تستجلبُ له الماضي دون أن يذهب هو إليه، فالذكريات هي آلة زمن بيولوجية تمتلكُ السرعة التي عجز عن امتلاك حلولهِا العلم، لكن يبقى الكاتب هو الآلة الزمنية الوحيدة التي يمكنها أن تأخذ أجيالاً لماضٍ غير ماضيها، فتُصبح جزءاً أصيلاً منه، في الحقيقة ليس من السهل على الكُتّاب أن يصبحوا مرجعاً زمنياً فور ذكرهم، قليلون هم أولئك الذين استطاعوا أن يكونوا آلة زمنية، تركب الأجيال أسماءهم فور ربط أحزمة ألسنتهم على صورهم، وتعُود إلى الماضي الذي لا تعرف عنه إلا الكُتب لتعيشه بكل واقعيته. ومحمد ديب من هؤلاء (الآلة الزمنية) التي لا يحتاج الإنسان معها ليكون قارئاً نهماً إلا أن يستقل هو أيضاً تلك الذكريات، إذ ليس ثمة جزائري لم يجلس أمام التلفاز ليُشاهد «الدار الكبيرة» و«الحريق»، وبهذا تحررت الذاكرة من مسؤولية إجادة القراءة لنجد أنفسنا داخل شرنقة الأحداث كصُورة مُشتركة تحملنا معاً إلى هذه الذكريات التي تُؤلمنا، ليس لأننا شاركناها حقيقة بل لأن الرصاص الذي أُطلق في الساحات ما زال يُصيبنا إلى اليوم، عبر جراح التاريخ التي لم تلتئم بعد. محمد ديب ذاكرة أكثر مما هو ذكرى، لقد انتصر على الكتابة كوسيلة ليُصبح وسيلتها.
وما إن نقول محمد ديب حتى تأتي الجزائر كلها على صيغة مصغرة من «الدار الكبيرة»، ويأتي التوحش كله على صيغة «مشيئة الشيطان»، ويتلولب الخيال في «من ذا يذكر البحر»، ويعتدِل التخمين في «الجري على الضفة الوحشية»، بينما تتساقط الأسماء «كحراس للظلال».. الكاتب هو الزمن الذي فقدته الأمكنة وحافظت عليه الأوقات.

اللاأحد والكل
في مقطع من ديوان «فجر إسماعيل»، يقوُل محمد ديب: «لقد أعطيتم كل شيء لشخص لم يكُن أحداً»، يتوضأ محمد ديب هنا برمزية الماء لا الماء ذاته، الشأن الذي يجعله شفافاً للغاية حتى يكادُ لا يرى لشدة تصويره الأحداث، ولاندماج سعته على كل الأدوار التي تبناها في أعماله الشعرية أو الروائية أو المسرحية وحتى الرسم، كان اللاأحد الذي يعني «الكل»، الذي أعاد تحريك العالم كما علق الشاعر جان سيناك عليه، وقد أكد إدغار آلان بو، أنه من سُوء الحظ الشديد أن يفقد المرء قُدرته على البقاء وحده ومع نفسِه، وأن يُقحَم مع الحشُود، وأن يتنازل عن خصوصيته الفردية لصالح المُطابقة قليلة التفكير مع الجماعة، ويشترك في وصف جوهرها الذي يعطي معنى للرؤية الحيادية رالف والدو إمرسون المُقتنع أنها الطبيعة التي في إمكانها التحدث إلى المُخيّلة بطريقة لا تفعلها مطلقاً بوجود صُحبة، إذن هي موقفك تجاه أن لا تُريد فُقدان ذاتك على الجُموع بقدر ما أن تُسمِع الجُموع أصواتهم المكتُومة، العزلة لا تعني أن تكون لوحدك بل أن تكون في داخلك لوحدك، فالتفكير من الناحية الوجودية شأن منعزل، وليس وحيداً وافقت فيه حنا أرندت أفلاطون، حينما ضرب مثالاً في كتابه «الجمهورية» بسقراط المُحتفي بالفيلسوف المنعزل..

والحديث عن محمد ديب، هو حديث عن العزلة المرمُوقة التي لا تجعل من هذه الشخصية غامضة بقدر ما تجعلُها معرفة، بطريقة التأمل السقراطي التي تمنع فشلنا في العودة إلى ذاتنا، الشخصية الهادئة التي انسحبت إلى الظلال متبنية موقفها القائل: «إن أعماله تتحدث بنفسها وعن نفسها».
الأدب عند محمد ديب هو أدب العمل الذي يكتفي بذاته ولا يكتفي منها، أدب لا يحتاجُ لمرافقته في الصلات مخافة أن يبقى لوحده أو تعريفه بالذهاب به إلى الناس، وهنالك حيث يتركُ هذا الكاتب مسافة الغُموض المُحترمة بينه وبين القارئ يكُون قد جلس على شُرفة العزلة الشرفية يتابع (أوبرا) الأبطال، وهي تنزل من على المنصات في تقاسيم وجوه الحاضرين، الكاتب الذي انتمت إليه اللغة الفرنسية أكثر مما انتمى إليها، فأصبح صوتاً جزائرياً مزعجاً لآذان الآلة الاستعمارية. لقد منحته مقدرته على النظر من بعيد، النبوءة التي تجلت يوماً في عمله «الحريق» الذي استشرف فيه قُدوم الثورة قبل ثلاثة أشهر من انطلاقها فعلياً. يقولون عنه بلزاك الجزائر، إلا أنه محمد ديب مكتفياً باسمه ومالئاً لسعة «كاتب»، فالعزلة جعلته يتحرر من المجال الخاص the vita contemplativa والمجال السياسي العام the vita activa، لأنه استوعب كما استوعبت حنة أرندت فكرة العزلة كحالة تأمل تطور الوعي، بعيداً عن نشاز الجُمهور، فرجل الحُشود غالباً يُخفي في كينونته شريراً، والعيش معاً مع الآخرين يبدأ من العيش معاً مع أنفسنا كما وضحت، والأشخاص عندها الذين لا يعرفون أن التواصل الصامت الذي نفحصُ من خلاله ما نقُول وما نفعل لن يبالوا بالتناقض مع أنفسهم! ويعني هذا أنهم لن يكونوا قادرين أبداً أو راغبين في مُحاسبة أنفسهم على ما يقولون وما يفعلون، ولن يُمانعوا في ارتكاب الجرائم، نظراً لأنهم يعتمدُون على كونها تُنسى في اللحظة القادمة.

واختصر محمد ديب نظرته لهذه المسافة قائلاً: «البُعد دوماً يجعلُنا نرى الأشياء بشكلٍ أعمق وأكثر موضوعية، لا أدري هل سبق لكَ أن شاهدت فناناً تشكيلياً (مخاطباً الصحفي) أثناء اشتغاله على لوحة جديدة؟ إنه في لحظة معينة يحتاجُ قبل إتمام اللوحة، إلى الابتعاد عنها ببضع خطواتٍ إلى الوراء كي يراها بشكل أفضل وأكثر شمُولية وموضوعية، وليكون الانطباع النقدي اللازم، وهذا ينطبقُ تماماً على تلك المرحلة الثانية من كتاباتي بعد الاستقلال، أصبح من حقي تسليط هذه النظرة النقدية على بلادي، لكنه نقد يخلوُ تماماً من الضغينة، وهو أشبه ما يكوُن بانتقاد الذات أو بالعِتاب الذي نوجهه إلى شخص عزيز علينا كثيراً، نعتبُ عليه هو بالذات لأننا نحبه».
في الأخير، لا يُمكننا الدفاع عن كاتب بمقارنته بآخر، الكاتب ليس منسياً لأنه لا يُحقق أعلى المبيعات، يكفي أن تُضيء مكانه الواسع، وتغير مصابيح الأضواء الكاشفة التي كسرها أطفال يحبون اللعب بالحجارة الأدبية، ليُكملوا مسيرتهم في الظلام حتى تستعيدهُ، فمحمد ديب الذي نفدت روايته «الدار الكبيرة» عن دار نشر لوساي، في شهر من نشرها، عاش طويلاً كذاكرة لا كمبيعات، صحيح أن الكثيرين اليوم من القراء يعرفُونه ولم يقرأوا له، أو لا يعرفُونه ولم يقرأوا له، لكنه الكاتب الذي لا يموت لأن القارئ تخلى عن قراءته في مرحلة ما، أدب يكفي أن تنفخ عنه الغُبار بنفس ضئيل حتى يلمع من جديد وبقوة، فحينما اشتدت عزلته ظل أدبه يسير حافياً إلى كل الأنحاء.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©