السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مئتا عام على ميلاده.. والت ويتمان شاعر الإنسانية الاستثنائي

مئتا عام على ميلاده.. والت ويتمان شاعر الإنسانية الاستثنائي
19 سبتمبر 2019 00:17

علي كنعان

إذا تجاوزنا النظر في شهرة الشاعر هنري لونغفيلو ومكانته الشعبية المرموقة في عصره، نلاحظ أن الشعر لم يؤكد حضوره اللافت كالرواية (هوثورن، ميتشيل، هيمنغواي، فوكنر) أو المسرح (أونيل، ميلر، وليامز) في فضاء الإبداع الأدبي هناك، لكن الشاعر والت ويتمان يمكن أن يكون استثناء فريدا، وهو نسيج وحده. وفي الذكرى المئوية الثانية لميلاده، جدير بوقفة تقدير خاصة لشخصيته الإنسانية المنفتحة على الوجود كله، ولمكانته الإبداعية شعراً ونثراً، حيث يعد رائد الشعر الحر وداعية

الديمقراطية ومحبة الناس، مؤكداً شخصية الفرد، سواء كان ذلك نابعاً من موهبته الأصيلة أو جاء ثمرة ثقافة متنوعة واطلاع واسع على فيض من آداب العالم، شرقاً وغرباً.
ولد الشاعر سنة 1819، وأصدر الطبعة الأولى من ديوانه «أوراق العشب» في 1845، وكان يضم عدداً محدوداً من القصائد، لكن الإخفاق والإهمال كانا بانتظاره. ويوم أصدر الطبعة الثانية منقحة ومزيدة بعد عشر سنين، ظلت شاعريته في الظل بعيدة عن الاهتمام، لكنه أرسل نسخة من تلك القصائد هدية إلى الفيلسوف والشاعر رالف إمرسون، ويوم قرأها ذلك المفكر الرصين لم يتمالك نفسه من «فرك عينيه» إعجاباً وتقديراً، كما يقول مارك ان دورين في مقدمة المختارات التي أعدها للنشر عام 1973، مبيناً أن الشاعر كان أسطورة كما أن «أوراق العشب» تعد أسطورة شعرية كذلك. ويمكن أن نشير إلى أن الحرب الأهلية كانت أهم الأحداث التاريخية التي شهدها الشاعر، وإن لم تستأثر باهتمامه في البداية، لكنه بعد أن أصيب أخوه جورج بجرح بليغ واضطر للعناية به، وبادر إلى التطوع بعد ذلك للعمل في مشافي واشنطن مكرساً جهوده لخدمة ضحايا تلك الحرب من الجرحى والمصابين. وخلال السنين الثلاثين القادمة من حياته كتب مجموعة كبيرة من القصائد جاءت بعنوان «قرع الطبول» ومطلعها: «اقرع! اقرع! الطبول!، وانفخ! الأبواق! انفخ!» وانتهى منها قبيل وفاته بسنة أو أقل، هاتفاً في آخر بيت: وداعاً وتحية لمخيِّلتي!

الديوان الملحمي
وقبل الدخول في فضاء عالم الشاعر وفضائه الإبداعي، أود أن أبين أن مقالتي هذه تنطلق من قراءتي في ديوانه الملحمي «أوراق العشب» ومقدمته الضافية، كما أنها تستند إلى ثلاثة كتاب متميزين وهم: مالكوم كاولي، غي ولسون ألين، ودورين المشار إليه آنفاً. إن الشعر لم يعد يحتل صدارة المشهد الأدبي في عالمنا المعاصر، بل أخلى موقعه للرواية والفنون السمعية البصرية، وهذا يعني أن مزاج الناس تغير كثيرا، وأن الشاعر دخل التاريخ واستراح في مكتباته، ولم يعد يشغل إلا طلبة الأدب وقلة من النشء الجديد، وفق ما تقتضيه مشاريع البحث والدراسة والمقارنة، لكن الدخول في عالم ويتمان يأخذنا بروعته ونكتشف ألوانا لا حصر لها من الصور الفنية والرؤى والأفكار الإنسانية التي يحتفي بها ديوان الشاعر، ومنها قوله في قصيدة «الوداع!»:
يا رفيقي! ليس هذا كتابا أبداً،

إن من يلامس هذا، يلامس إنساناً.
ومن حق القارئ أن يتساءل كيف تحول الديوان إلى كائن بشري؟ وكيف جعل الشاعر قصائده مسكوبة في وجوده الإنساني كله، فكرا ومشاعر وحياة حافلة بالرؤى والتطلعات والاحتمالات، وبخاصة أنه ليس شاعراً رمزيا ًولا يشغله المجاز؟ لعل كيان الشاعر، بشتى مشاعره وأفكاره وتصوراته، قد انصهر وتجسد في شعره، وتحولت قصائده كلها في نظره إلى إنسان. وحين نرى كلمة (الروح، روح الإنسان) تتردد في قصائده أكثر من أي كلمة أخرى، ندرك أهمية تجربته الشعرية وعمقها وفرادتها. ونرى أيضا أن (الحب) يتردد كثيرا مقترناً (بالموت.. والحياة). وفي المقدمة، التي تغطي 22 صفحة، نرى كذلك عبارات متألقة لا مثيل لروعتها في أي عمل من أعماله النثرية، ومنها قوله:
«الولايات المتحدة ذاتها، هي أساساً، أعظم قصيدة»، «ليس لهذا الكون المعروف إلا عاشق كامل وحيد، وهو أعظم شاعر»، «إن جوهر الفن... البساطة» (ونقاط الفراغ موجودة في الأصل)، «الرجال والنساء والأرض وكل ما عليها ينبغي أن يؤخذوا كما هم...»، «جدارة الشاعر أن بلاده استوعبته، كما أنه كان قد استوعبها بكل محبة.» وكانت الديمقراطية نشيده الأثير، وقد تغنى بها طويلاً. ويوم بلغ الشاعر السبعين أقام احتفالاً، وأعد مقدمة لديوانه «أوراق العشب» وهي جديدة ولافتة في أهميتها، يستحضر فيها ذكريات الماضي قائلاً عن الطبعة الأولى إنها كانت «أسوأ من فاشلة، لكن الأصدقاء والمؤيدين كانوا إلى جانبه، فلم يتوقف ولم يستجب لأي تأثير خارج الروح التي فيه». وهو يفترض أن قراءه بحاجة إلى مئة سنة، على الأقل، حتى يفهموا الطبيعة «التجريبية» لأوراق العشب. ويعلق دورين أن تلك كانت «تجربة ونبوءة». ومن رؤاه الوضاءة كذلك أن «العالم الجديد يحتاج إلى شعر جديد». كان التطور والتجديد هاجس الشاعر الأول، لذلك أصدر طبعات متعددة تعبر عن مدى القلق الذي كان يعانيه وهو يتطلع إلى بلوغ الكمال أو مقاربته، في أقل تقدير. وقبيل وفاته بقليل، أصدر الطبعة التاسعة من «أوراق العشب» مزيدة ومنقحة، كما جرت العادة. وهذا يدعو قارئه إلى الإعجاب والتأمل، وقد يدعو إلى كثير من التساؤل والاستغراب: كيف استطاع هذا الشاعر الاستثنائي أن يعيد النظر بقصائده طوال خمسين سنة؟ وكم كان يحلم بعناق الكمال في الإبداع الشعري حتى لا يكون «أوراق العشب» أهم أعماله الإبداعية وحسب، بل هو عمله الشعري الوحيد بامتياز!

أوراق العشب
نعود إلى ما يقوله دورين: كان إمرسون أعظم كاتب واسع التأثير في ذلك العصر. ويوم تلقى نسخة من ديوان الشاعر في طبعته الجديدة سنة 1855، كتب يقول: «أنا لست أعمى أمام أهمية هذه الهدية الرائعة من«أوراق العشب». لقد ألفيتها أعظم قطعة استثنائية في الذكاء والحكمة أسهمت أميركا في إنتاجها. إني سعيد جدا في قراءتها، بقدر ما تجعلنا القوة العظيمة سعداء... وأنا أعبر لك عن ابتهاجي بفكرك الحر الشجاع. إني أزجي إليك ما يليق به من فرح عظيم. ولقد ألفيت أشياء لا يمكن مقارنتها، وهي مصوغة بطريقة جميلة لا تقبل المقارنة، بل هكذا ينبغي أن تكون... أحييك في مستهل هذا العمل العظيم الذي لا بد أن يتيح لك مدى طويلا، ما دامت البداية بهذا الشكل العذب.» ويرى دورين أن الديوان لا يمكن أن يحظى أبدا بأفضل من هذا الثناء.
وإذا كان من العسير جدا، إن لم نقل من المستحيل، أن نتناول إلا لمحات متناثرة من ديوان الشاعر ومقدمته، فمن المؤكد أن الإحاطة بالفضاء الكوني الذي طاف به متنقلا بين مداراته يتطلب أكثر من كتاب. ولعل هواجسه وتطلعاته الإنسانية ومحبته الآسرة التي تشمل الأرض والسماء، البشر والنبات والحيوان، الحرية والعدالة والرحمة والتواضع والبساطة، الرجال والنساء والأطفال، الأمهات والآباء، البيض والملونين على حد سواء، بلاده والبلدان الأخرى شرقا وغربا، الصيد والرياضة والشعر والترحال، ولم يغفل عن جمال الطبيعة بشتى ملامحها وبكل ما فيها من كائنات الجو والبحر والبراري، الوقت العابر والأبدية، الفناء والخلود، حتى إن النجوم تبدو أقرب ما تكون. وهو يلح بصور فنية متعددة على تمجيد البسطاء ويقف إلى جانب المقهورين، مؤكدا أن «عبقرية الولايات المتحدة تكمن في الناس العاديين»، وليس في أي شيء آخر أو مؤسسة رسمية أو اجتماعية، سواء كانت تشريعية، تنفيذية، دبلوماسية أو كنسية، وصولاً إلى الصحف والاختراعات. ويرى أن جودة الشعر ومنزلته الرفيعة ليست في الإيقاع الرتيب ولا في الشكل ولا في تعبيره عن الأشياء بصورة مجردة، ولا في الشكاوى السوداوية أو التعاليم الجيدة وحسب، وإنما في الحياة التي تحتفي بهذه المزايا كلها، وفي الروح قبل كل شيء.
ومن أغرب ما واجه الشاعر في حياته أن وزير الداخلية أمر بتسريحه من عمله، معتبرا أن في ديوانه الشعري أموراً نابية تسيء للأخلاق. وكان لهذا التصرف الظالم ردة فعل شعبية كبيرة بين مناصريه، فالتحق بعمل آخر.
تضم هذه المختارات الشعرية عناوين فرعية متعددة، ويشتمل كل منها على مقاطع مرقمة، أو أناشيد وفق التعبير الحديث، وقد آثرت أن أختار قطوفاً محدودة من هذه القصائد، وحرصت فيها على تنوع الرؤى والمجالات التي تناولها الشاعر: جاءت بداية القسم الأول بعنوان: «أغنية نفسي»، مفتتحا قصيدته بما يشبه النشيد الابتهالي:
أحتفل بنفسي،
وما أقوم به لا بد أن تقوموا جميعا به،
لأن كل ذرة تخصني هي تخصكم تماماً.
ويقول في مقطع آخر:
طفل قال: ما هو العشب؟ وهو يأتي به إليَّ بيدين ممتلئتين،
هل في وسعي أن أجيب الطفل؟... وأنا لا أعرف ما هو بأي حال أكثر منه.
وفي ظني أنه علَمُ سلطاني، منسوج من مادة خضراء مفعمة بالأمل.
أو أظن أنه منديل الرب.
***
العشب حالك جدا ولا يمكن أن يكون من الرؤوس البيضاء للأمهات العجائز،
وهو أشد قتامة من لحى الرجال المسنين التي لا لون لها.
***
هل فيكم من يتصور أن من حسن الطالع أن يولد؟
وأبادر لأقول له أو لها أن من حسن الطالع أن يموت،
وأنا أدرك ذلك.
لقد تخطيت الموت بموتي، والميلاد بوليد حديث الغسل...
وأنا لست محصوراً بين قبعتي وحذائي.
أنا لست أرضاً، ولا تابعا لأرض.
أنا إلْف الناس ورفيقهم، وكلهم مثلي خالدون تماما
ولا حدود لمداهم،
وهم لا يدركون كم هم خالدون، لكني أدرك.
***
أنا عجوز وفتى، أحمق بقدر ما أنا حكيم،
لا أبالي بالآخرين، ودائما أجل الآخرين،
الأمهات كالآباء، والطفل كالرجل
محشو بمادة خشنة، ومحشو بمادة ناعمة.
واحد من أبناء الأمم العظيمة، أمة من أمم عديدة
***
وأنا أعرف أني عصي على الموت،
أعرف أن مداري لا يمكن أن يمحى بآلة نجار
أعرف أني لن أمر كوميض عود محترق
يلهو به طفل ليلا
***
أنا شاعر الجسد،
وأنا شاعر الروح.
مباهج النعيم معي، وآلام الجحيم معي،
وأول ما أضفيه وأسبغه على نفسي، هو آخر ما أترجمه بلغة جديدة.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©