السبت 18 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

روشينبورغ تمرد «الطلائعي» المعاصر

روشينبورغ تمرد «الطلائعي» المعاصر
19 سبتمبر 2019 00:16

عز الدين بوركة

شكلت تجربة الفنان الأميركي المعاصر روبيرت روشينبورغROBERT RAUSCHENBERG (1925-2008)، إلى جانب كل من تجارب مارسيل دوشان وصابورو موراكامي وإيف كلاين وجاسبر جونس وجوزيف بويز وبيرو مانزاني ونايم جون بايك، انعطافاً كبيراً في منتصف القرن الماضي نحو ميلاد براديغم فني جديد، موسوم بالمعاصرة، ينبني على الرؤية التي جاءت تتبناها الفلسفة ما بعد الحداثية التي كانت قد بدأت تلقي بظلالها على الفكر والفن الغربيين آنذاك.

قاد هذا الفنان التشكيلي المعاصر (بعدما كان من رواد حركة البوب آرت (POP ART) إحدى أهم التجارب التي أعادت مساءلة الفن الفِعلاني Art Gestuel، كما مارسه الجيل الأول من مدرسة نيويورك، إلى جانب كونه من رواد الفن المعاصر، وأحد الأسماء التي طبعت مسارها ضمن هذا البراديغم، وأثرت في الجيل الفني الذي جاء من بعدها، حيث شكلت تجربته صلة وصل بين مختلف التيارات التي سادت في خمسينيات القرن الماضي وفن البوب آرت، إذ إن البوب آرت الأميركي ارتبط أيضا ببقية الفنون الشعبية (كما يشير لفظ pop المشتق من popular) السائدة آنذاك محافظاً على خواص مظاهرها الواقعية.
ستبرز في منتصف القرن الماضي تجرب طلائعية معاصرة، وكان الأميركي روبيرت روشينبورغ واحداً من الفنانين القادة لهذه الطلائعية الجديدة التي جاءت تتبنى توجهاً فنياً جديداً موسوماً بالفن المعاصر، فنانون انقلبوا على كل قيم الفن السابقة، وفتحوا نوافذهم على أفق مغاير وجديد ولا يفتأ يتجدد، تدفعهم الرغبة في الانفصال عن كل الأسس الفنية الكلاسيكية، التي ظلت تجد لنفسها طريقاً حتى لدى الفنانين الحداثيين، من انطباعيين وغيرهم. كان همهم هو الخروج بالفن من بوتقة «الجميل والقبيح» و«الجيد والحسن»، وذلك ضمن رؤية نيتشوية تسعى إلى «قلب» كل تلك «القيم الجمالية» التي ظلت تأسر الفن في أبعاد روحانية وميتافيزيقية تحجبه عن الواقع وتمنعه من أن يكون حراً وطليقاً. فإنْ اختار مارسيل دوشان عرض (النافورة، 1917، وسنوات 60)، وعَبَرَ موراكامي شاشات الورق (1955) وعرض إيف كلاين الفراغ (1958)، فقد اختار روشينبورغ أن يعرض اللوحة الممحوة (1953)، وذلك بعدما اشترى عملاً لدو كونيغ وعمد إلى محوه وعرض نتيجة المحو. وبالتالي ومع هذه التجارب الأربع أساساً، وغيرها، لم يعد «العمل الفني يقيم في الشيء المقترح من قبل الفنان»، كما تعبر عن ذلك الباحثة والعالمة السوسيولوجية الفرنسية نتالي إينيك. بفعل عملية المحو تلك، أقدم روشينبورغ على «القطع» مع فن الرسم الحداثي، إذ إنه وهو يعرض اللوحة الممحوة فإنما يعرض الأثر، يعرض محواً تاماً لا يبرز إلا الأثر، محواً للفنون السابقة، وإعلاناً عن أن الفن الجديد هو فن الأثر والمحو، فن لا يقيم أهمية للشيء في ذاته (ولوحده)، من حيث إنه غرض فني، بل يهتم أكثر بالفكرة في حد ذاتها، وبشكل يكاد يتجاوز الغرض المعروض. إذ ما دام كل شيء يصلح ليكون عملاً فنياً، فحتى البياض والأثر والمحو والفراغ كلها «أشياءٌ» صالحة للعرض، لأنها تنطوي على أفكار يمكن «سردها»، إذ إن أعمال روشينبورغ في أغلبها هي أعمال تنتمي إلى الفن المفاهيمي، حيث المفاهيم أو التصورات، يكون لها الأولوية على الاهتمامات المادية والجمالية التقليدية.

فن الأشياء المهمة
انتمى روبيرت روشينبورغ إلى موجة فنية «صاخبة» قادها فنانون وملحنون وصانعو رقصات جدد ومصممو الموضة والأزياء، مندفعين بالرغبة في التمرد على كل شكل تقليدي يؤطر الفن داخل جدران وأسقف محددة بعناية. من هذا المبدأ انطلقت الفن المفاهيمي الذي انتمت إليه أعمال هذا الفنان المتمرد، وهو مبدأ يُساءل الفن نفسه، حيث إنه لم يعد الفنان ينطلق من «الأشياء النبيلة» ليصنع أعماله ومنجزاته، إذ إن مفهوم الغرض الفني عينه قد طاله تغير كبير وجذري (فورقة الشجر الميتة يمكنها أن تكون موضوعاً وغرضاً). فإن جعل دوشان من «النافورة» عملاً فنياً، فإن روشينبورغ قد أدرج إلى العمل الفني أشياء مهملة كانت قد تبدو «تافهة» وبلا قيمة جمالية، إذ نجده قد استعان بقطع خشبية ومزق من ورق وخرق من الثوب وغيرها في سلسلة أعماله الـ«مُدمجات» أو (الـ«تركيبات»/‏‏‏‏‏‏«أخلاط») combines، خالقا بذلك نوعا فنيا جديدة: المدمجة/‏‏‏‏‏‏التركيبة la combinaison، وهو عبارة عن عمل يدمج الأغراض les objets المختلفة في سطح قماشي ملون، ما يخلق نوعًا من التهجين بين الرسم والنحت. إذ نجده قد استعان بمخدات وأفرشة ونسر محنط وكراسي وقطع خشبية ومزق من أثواب صور فوتوغرافية وغيرها... وفق ما تأثر به من علاقته بالدادائية الألمانية. وكما هو الحال في عمله الفني الموسوم بـ«العنزة»، وبالتالي يجعل هذا الفنان من الأشياء المستمدة من الواقع المحسوس موضوعاً ومواضيع قائمة بذاتها، حيث إن العمل بالنسبة إليه سيبدو أكثر واقعية إن احتوى على عناصر مأخوذة من العالم المحيط بنا، من البيئة البشرية مباشرة. وبالتالي فالعمل الفني بالنسبة له ليس مدعاة لتكثيف الرموز، بل إنه حدث في حد ذاته.
جاءت فترة «التركيبات» التي اشتغل عليها هذا الفنان، بعد مسيرته الفنية مع لوحات أحادية اللون (مونوكروم)، بيضاء أو سوداء أو حمراء، أو عبر اشتغال على صحيفة مطلية ومصبوغة تنتج تأثيرات من مواد مختلفة. وقد أراد عبرها إلغاء المبدأ المقدس للتعبير عن الذات في الفن، وهو الأمر الذي سعى إليه الفنان إيف كلاين بلوحاته المونوكرومية، بعدما ابتكر ما سماه «اللون الأزرق العالمي». قام روشيمبورغ بتصميم هذه الأسطح المصبوغة باللون الأحادي كمرايا وأسطح محايدة جاهزة لعكس العالم، إذ إن المونوكروم أحدث في الفن قطيعة مع فن التشخيص بكل أبعاده الكلاسيكية والحديثة، إنها «فن صباغي بلا صورة» فلا شكلاً تصويرياً يتبناه العمل الفارغ وملآن في ذات الآن. فتصير بالتالي، الخلفية تعبيراً فنياً تعوّض كل الأشكال والخطوط، إذ إن اللون يتحرر من كل مهمة تصويرية وتشخيصية، فيختفي كل تشخيص ممكن، ولا يبقى للمتلقي سوى التخيل وإسقاط ما يريده وما يتخيله من أشكال على اللوحة/‏‏‏‏‏‏الخلفية، وبالتالي فإن المونوكروم هي قطيعة مع التشخيص والتجريد وحتى مع جسد الفنان باعتبار مصورا، فلا إقامة فعلية للفنان إذن في العمل. وكما يوحي الاسم، فإن الـ Combines (التركيبات) عبارة عن أعمال هجينة، ترتبط بممارسة رسم الكولاج وتجميع العناصر الأكثر تنوعًا المأخوذة من الواقع اليومي والهامشي، فتنتج عنها آثار فنية لا هي لوحة، ولا هي نحت، إنها جمع بينهما في تركيب استتيقي واحد. ويعبر روشينبورغ قائلا (في مقابلة له مع أندري بارينو سنة 1977، من كطالوغ معرضه باريس نيويورك باريس، إصدارات مركز بومبيدو)، واصفا هذا الاشتغال التركيبي: «إنه ليس الفن من أجل الفن ولا الفن ضد الفن. أنا مع الفن، لكن مع الفن الذي لا علاقة له مع الفن. الفن الذي له علاقة بكل شيء مع الحياة، لكنه لا علاقة له مع الفن»، مضيفاً «إني أبتغي أن أدمج في لوحتي أي غرض من الحياة مهما كان».
ومنذ العمل الفني «الطبيعة الصامتة على كرسي القصب» (1912) لبيكاسو، متبوعاً بـ«عجلة الدراجة» لدوشان (1913)، وكولاجات كورت شويترز وباقي السرياليين والدادائيين، بات الكولاج وفن التركيبات أمرا يتم استدعاؤه بشدة في أعمال فناني القرن العشرين. إلا أن روشينبورغ المتمرد قاد هذا الاستعمال إلى بعد أكثر دهشة، منجزاً بذلك تجربة متجذرة في عمق الفن المعاصر. جاعلاً من التدوير (الروسيكلاج) جزءاً لا يتجزأ من الاشتغال الفني المعاصر، ما سيقود إلى ظهور أعمال تركيبية منفلتة ومتلاشية Ephémère، تتخذ صيغة الانسحاب في الزمن صيغة جمالية أساسية لها. وذلك بتأثير كبير بفن التلاشي الذي كان سيمة البرفورمانس (فن الأداء) performance والحدوثة Happening.

من التركيبات إلى فن الأداء
لم يتوقف اشتغال روبيرت روشينبورغ عند المونوكروم والتركيبات والروسيكلاج والكولاج، بل إنه سيجعل من جسده أسوة ببقية زملائه الفنانين أمثال جوزيف بويز، وسيلة تعبيرية وأداة استتيقية، وذلك ضمن استعراضات فنية راقصة (برفورمانس). وقد ظهر هذا التوجه الفني أول مرة كصرخة من صرخات المستقبليين الإيطاليين والروس - بعد العرب العالمية الأولى- الذين أرادوا الثورة ضد كل أشكال تأطير الفن وحجزه وسجنه داخل أسوار وحجزها داخلها (متاحف، دور العرض...)، فقد كانت أول حركة حديثة قامت بهجر المرسم وصالة العرض الفنّي لمصلحة قاعات المحاضرات والمسرح والشارع، وذلك بدعوة من مؤسسها «مارينيتيي»، فأسسوا في عام 1913 «مسرح المنوّعات»، كما نزل المستقبليين الروس إلى الشوارع لأداء أفعال ونشاطات فنيّة، وكان منهم الشاعر «ماياكوفسكي» و«دافيد بورليوك»، وقام الدادائيون بأداء مسرحيّة أقيمت في «ملهى فولتير الدادائي في زيورخ... وتوالت الأحداث الاستعراضية، لكن قد ظهرت البدايات الفعلية لـ«فن الأداء» في عام 1950، حين قدّم جورج ماثيو في مسرح«سارة - بيرنار» في باريس في سهرة شعريّة قام في أثنائها برسم لوحة واسعة على المنصّة خلال عشرين دقيقة. وكما ظهر في ألمانيا«جوزيف بويز» وجماعة«فلوكسوس Fluxus»(دادائيّة محدثة). فبات بالتالي جسد الفنان عملاً فنياً حياً، وغدا البدن/‏‏‏‏‏‏اللحم البشري وسيلة فنية حية تتحول إلى منجز استتيقي. ومع فن الأداء لم يعد المتلقي معزولاً عن الفنان المؤدي، بل إنه جزء من عملية الأداء نفسه، طرف فعال في العمل الفني الأدائي، إذ إننا نجد عروضاً أدائية يكون فيها الجمهور جزء من«ديكور» العرض أو متحركاً ضمن السينوغرافية التي يستدعيها العرض. ويبقى هذا الفن متسما بصيغة التلاشي والانفلات في الزمن لما يتطلبه من إنجاز موجز لا يخلدّ إلا بالصورة أو الفيديو أو بالنصوص النقدية والصحفية التي«تحكيه».
يقول أحد النقاد إن«الرقص [الأداء] يوجد في كل مكان عند روشينبورغ». في عام 1954 أصبح روشينبورغ رسمياً يشغل منصبة«resident designer» لشركة la Merce Cunningham Dance Company، حيث سيعمل طيلة عشر سنوات على إخراج ما يناهز عشرين ديكوراً سينوغرافياً، وصنع العديد من الأزياء، واشتغل مدير الأضواء خلال العروض. هذا الاشتغال مكن الفنان من تحصيل وحشد مهارات متعددة، ستمكنه من أن يصمم عروضه الخاصة تمخضت عن كل ما راكمه من بحث طيلة سنوات اشتغاله كمصمم مقيم. ولأن في الأداء هو فن الفضاء، فن يعتمد بالضرورة على الفضاء الذي يحدث فيه، فإن روشينبورغ كان يشتغل موظفا الفضاء كجزء لا يتجزأ من عرضه الأدائي الفرد أو الجماعي. إذ نجد نموذجا، عرضه Open Scores، حيث يستمد الفنان محتوى أدائه من خصائص المكان الذي يقدم فيه العرض (البرفورمانس). فتستحضر لعبة التنس في هذا الأداء الفني كلا من فن جاهز-صنع ورقصة مرتجلة وفقا لقواعد معينة (جاعلا الفنان من قاعة العرض Armory الكبرى فضاء للعبة التنس). ويقدم لنا روشينبورغ بفعل الإضاءة التي تتناقص مع ضربات المضرب للكرات، إيماءات وظيفية مرتبطة بنظام تكنولوجي معقد. في لحظة ثانية في ظلام دامس، يبدو أن حشدًا على خشبة المسرح، تم تصويره عبر كاميرات الأشعة تحت الحمراء، أدى إلى تقسيم كتلة المتفرجين في المدرجات. ومن المفارقات أن الاعتراف بهذه الحشود، وهي قريبة جدًا كما هي، يعتمد على الصور التي تنقلها الشاشات. وقد شارك هذا الفنان المتمرد أيضًا في حركة رقص هزلية (حدوثية) جذرية للغاية وهدامة، إلى جانب رقصات وفنانين أصغر منه سناً: مسرح جودسون للرقص. كجزء من هذه المجموعة، ساعد في إنشاء إضاءة العروض وكثيراً ما تولى مسؤولية غرفة التحكم. ثم شرع في تصميم الرقصات مع بيليكان في عام 1963 كجزء من عرض مسرح جودسون للرقص في واشنطن على مضمار التزلج، حيث شارك في أداء الرقصات.
سيقود فن الأداء والرقص روبيرت روشينبورغ إلى أن يقول في تصريح له بأن«الرقص هو الذي يوضح وعي اللحظة الراهنة، التي يشاركها كل من الراقص والمشاهد. [وإن] الجسم هو الحدث وهذا الحدث موجود مرة واحدة فقط (...). إنه لأمر محبط أن فن الرسم أو النحت لا يمكن أن يقترب من هذا الحاضر الدائم التغير، لا يقول أي شيء عن هذه الحياة من الجسم الفني المستقل»... لقد سعى بالتالي روشينبورغ إلى الخروج بالفن من الديمومة إلى التحول ومن البقاء إلى التلاشي، هارباً من الفن من سلطة التأطير والمفكر فيه، ليجعله«حراً طليقاً» كما تستدعيه الممارسة المعاصرة.

هامش:
Voir: 9 Evenings: Theatre and Engineering، sous la direction de Pontus Hultén et Frank Königsberg، [New York]، Experiments in Art and Technology; The Foundation for Contemporary Performance Arts، [1966]. p.[10].

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©