الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أيّ عوالم مجهولة نتجه إليها؟.. العبور العظيم إلى الألفية الثالثة

أيّ عوالم مجهولة نتجه إليها؟.. العبور العظيم إلى الألفية الثالثة
12 سبتمبر 2019 02:54

الفاهم محمد

كيف يمكننا فهم وإدراك التحولات العظيمة التي سنعيشها خلال هذا العبور العظيم La grande traversée للألفية الثالثة؟ أية عوالم مجهولة هذه نتجه إليها؟ طوال التاريخ البشري كانت هناك دوما العديد من اللحظات الصعبة، التي عاش فيها الإنسان مثل هذه الانقلابات العسيرة، غير أن ما نحن مقبلون عليه لا مثيل له عبر كل الأحقاب التاريخية. يمكننا أن نصف على سبيل المثال الليالي الاثنى عشرة الحالكة لسقوط بغداد على يد هولاكو، والتي شكلت بكل تأكيد كارثة عظمى أفل معها نجم الإمبراطورية العباسية. كما يمكننا أن نذهب صعدا مع مجرى التاريخ، كي نقف على اللحظات العصيبة لسقوط الأندلس. وها هو الملك أبو عبد الله الصغير يسلم غرناطة كي تبدأ مرحلة جديدة في المنطقة. وقبل بغداد والأندلس، يمكننا أن نعود إلى الوراء كي نقف على لحظات دورية حارقة، من الدورات الكونية للزمن البشري. لقد خلف انهيار الإمبراطورية الرومانية أسئلة كبيرة تصدى لها العديد من المؤرخين، مثل إدوارد غيبون الذي بحث في أسباب سقوط روما. ورغم أهمية هذا المسعى إلا أن ما يشغلنا أكثر في هذا الموضع ليس وصف انهيار وتفكك الدول والإمبراطوريات، بل الظلمات التي أعقبت ذلك، والمخاض العسير لولادة عالم جديد. نعود فنؤكد بأن كل ما حدث في الماضي، لا يسعفنا من أجل تقديم فهم صحيح لما نعيشه حاليا من تحولات. ذلك أن ما حدث من انهيارات وكوارث كان يتم دائما ضمن التجربة البشرية، أما اليوم فنحن مقبلون لأول مرة في التاريخ الإنساني، إلى أن نعيش شيئا فريدا من نوعه. شيء نوعي وخاص sui generis (*) لدرجة أنه يفوق فهم الإنسان ويتجاوز تجربته في الحياة.
لقد عاش البشر منذ ظهورهم على الأرض لآلاف السنين في حضن الطبيعة، أما الآن فالتكنولوجيات الجديدة والطليعية، تمنحهم إمكانات هائلة للخروج نهائيا من هذه الأحضان. إن الصعوبة لا تكمن في كوننا لا نعلم إلى أين نحن متجهين، بل هي تكمن في كوننا لا نعرف أصلا عما إذا كنا سننجو كنوع بشري في الاختيارات والقرارات التي سنقوم بها. هل علينا أن نظل في المتاهة حتى وإن كنا حيارى قلقين. أم نلبي إغراءات التحليق عاليا، فنغامر بأن تذيب الشمس أجنحتنا؟

على مفترق الطرق
من دون شك ثمة تحولات جذرية وعميقة ستحدث خلال هذا القرن. فكما اختفت في الماضي حضارات، ستختفي أيضا هذه الحضارة كي تظهر بدلها أخرى جديدة. هذه الحضارة التي ألفناها منذ آلاف السنين بل منذ ظهور الأوموسابيانس في الخفر الأفريقي، وانبثاق الوعي كظاهرة خاصة انفرد بها بين كل الكائنات. تجد نفسها اليوم أمام الامتحان النهائي، حيث عليها أن تجيب عن كل الأسئلة التي ظلت مؤجلة إلى حين، من قبيل ما هو الوعي وهل عليه بالضرورة أن يكون مقصورا على الإنسان؟ هل هناك حدود ينبغي أن يتوقف عندها البحث التكنولوجي، أم أنه ينبغي بالضرورة الخضوع لإملاءات سياسية وواجبات أخلاقية، تمنعنا من المضي قدما خصوصا في مجال الهندسة الجينية وعلوم الذكاء الاصطناعي؟ هل يرضى الإنسان بمصيره هنا فوق الأرض، أم ينقل حضارته نحو كواكب أخرى؟
دعونا نلقي نظرة هنا على بعض الاحتمالات الممكنة، والتي بدأت تلوح معالمها منذ الآن. ثمة اختياران متناقضان تماما: الأول يدافع باستماتة عن المشروع التقنو/‏‏‏علمي ويرى أن الكثير من المشاكل التي تعيشها البشرية حاليا، لا سبيل إلى تجاوزها إلا عن طريق الاستفادة من الإمكانات «العظيمة» التي تمنحها التكنولوجيا، وبالخصوص المركب الرائع المدعو اختصارا NBCI إضافة إلى علم الفلك وغزو الفضاء. مثل هذا الموقف المفرط في حماسته وانتصاره للتقدم التكنولوجي نجده مع اتجاه ما بعد الإنسانية، والمدعوم من قبل شركات كبرى يصطلح عليها اختصارا GAFA وهو اتجاه يرى على العموم أنه لا سبيل لنجاة البشرية إلا عن طريق مواصلة البحث في هذه العلوم الدقيقة. إننا نتجه في نظرهم نحو المفردة THE SINGULARITY حيث سيؤدي تراكم الأبحاث والتطورات التكنولوجية إلى ظهور شيء جديد تماما، لم يسبق أن وجد مثله من قبل. وهكذا لكي تنجو البشرية في نظرهم لا بد من تحقيق هذا التحول الكبير، من الإنسان الطبيعي إلى الإنسان المعزز أو المرقى l›homme augmenté بوساطة ما يتم التوصل إليه من اختراعات تكنولوجية.
أما الاختيار الثاني فهو على العكس من ذلك تماما يدعو إلى العودة إلى الوراء، وإلى إيقاف قطار التنمية ضمن ما يطلقون عليه اللاتنمية la décroissance وإلى الاكتفاء بالضروريات والتقشف في الحياة، بغرض الخروج من مجتمع الاستهلاك، وتخفيف الضغط على الموارد الأولية. تجد هذه الأطروحة جذورها الفلسفية في أفكار جان جاك روسو ودافيد هنري تورو صاحب الكتاب الشهير والدن (**) الذي دعا فيه إلى التخلي عن الحياة المدنية والعيش في أحضان الطبيعة. كما نجد هذه الأفكار أيضا لدى مفكرين معاصرين، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه بـ:«عودة أطروحة العودة إلى الطبيعة» مثل بيير رابجي وفيلب بيهويكس وسيرج لاتوش وآخرين غيرهم. كما أن هناك الكثير من المنظمات تدعو إلى مثل هذه الأفكار مثل منظمة كوليبري التي يرأسها بيير رابجي، ومنظمة مومينتوم التي أسسها إيف كوشي وغيرهما. إنه اتجاه يرى على العموم أن المشكلة التي نعانيها اليوم تكمن في التقدم التكنولوجي الهائل الذي وصلنا إليه. والذي دفعنا إلى استنزاف الطبيعة، وإلى كل هذه الكوارث البيئية التي جعلت الحياة ككل مهددة بالبقاء فوق الأرض. لذلك هم يعتبرون أننا دخلنا ما يطلقون عليه «عصر التكنولوجيا المنخفضة» low tech l›âge des كما يحمل عنوان كتاب (***) فيليب بيهويكس، حيث ينتقد التكنولوجيا الفائقة التي كانت وراء تخريب الطبيعة، ويدعو بدلا منها إلى التكنولوجيا المنخفضة، وهي نوع من التكنولوجيا الملائمة للبيئة والأقرب إلى الطبيعة.
هل هناك طريق ثالث يمكن نهجه بين التنمية واللاتنمية، بين التنعم بفضائل التكنولوجيا، وفي الآن ذاته الحفاظ على الإنسان وعلى الحياة البيئية والطبيعية؟ من المؤكد أن مصير الإنسان هو أن يوسع حضارته ويدفع بها بعيدا نحو الفضاء الخارجي، شريطة أن تقوم هذه الحضارة على أسس أخلاقية وإنسانية متينة. يبدو أننا الكائنات الوحيدة التي بإمكانها أن تتحكم في مسيرة التطور بالشكل الذي نعكسه لصالحنا، كي نغير ونحسن من «كياننا الإنساني» بطريقة غير مسبوقة. سيحدث هذا بوسائل عدة، على رأسها استثمار تكنولوجيا النانو والهندسة الجينية، والثورة المعلوماتية وعلوم الفضاء. ويمكننا التأكيد على أنه في ظل الكوارث البيئية التي تعرفها الأرض، لدينا فرص ضئيلة من أجل البقاء، ما لم ندعم أنفسنا بفضائل هذه العلوم. أكيد أن الثمن سيكون غاليا جدا، إذ ينبغي التضحية بالحضارة كما نعرفها حاليا، كي ننقد إنسان المستقبل.

الانقراض السادس
سوف لن نسبح في ضباب المستقبل البعيد الذي تفصلنا عنه آلاف بل وملايين السنين، كي نتخيل كيف ستؤثر الجاذبية على أطوالنا، والأشعة ما فوق البنفسجية على بشرتنا، أو كذلك الانخفاض الكبير المتوقع في الكتلة العضلية بفعل تراجع المجهود البدني. قد تكون كل هذه الأمور مثيرة ولكن لنتركها كمادة خصبة يشتغل عليها التشويق السينمائي. نحن لا نرجم الغيب ولا نلعب بكرة البلور، بل نستند على معطيات ملموسة من أجل رصدها كعالم لما ينتظرنا. ما نود العناية به هنا هو المستقبل القريب، والذي على أبعد تقدير تفصلنا عنه بضعة عقود فقط.
إن المراحل القادمة من التطور ستكون موجهة من أجل ترقية قدرات الإنسان بهدف تعزيز فرصه من أجل النجاة. لقد ظهرت الأرض منذ أزيد من أربعة ملايير سنة. ومنذ ظهور الحياة وازدهارها الكبير خصوصا خلال العصر الكامبري، عاشت عليها العديد من الكائنات في الماضي السحيق، أغلبها انقرض ولم نعد نحتفظ منه سوى ببعض المستحثات. حدث الانقراض الكبير كما هو معروف منذ حوالي 252 مليون سنة، حيث كاد أن يودي باختفاء الحياة نهائيا من فوق الأرض. ورغم الأثر الكبير الذي تركته هذه الكارثة على بقاء الكائنات، إلا أن الحياة مع ذلك حافظت على استمراريتها عبر تطور كائنات مغايرة استطاعت أن تتكيف مع الظروف الجديدة.
واليوم كذلك يعتقد العديد من العلماء أننا نعيش انقراضا عظيما آخر، اصطلح عليه بالانقراض السادس أو انقراض «العصر الهوليسيني»، وهو انقراض يحدث أساسا بفعل التغيرات المناخية، وبفعل الضغط الكبير الذي يمارسه الإنسان على الطبيعة، حيث يعتقد أن حوالي ثلث الكائنات التي تعيش على الأرض ستختفي بحلول 2022.
هل ستعمل هذه التقنيات الجديدة على نزع إنسانية الإنسان، أم أنها ستقوم عكس ذلك على استكمالها والدفع بها إلى الأمام؟ لا أحد يعلم على اليقين. ما وصلنا إليه اليوم لا يمكن رفعه إلى مفهوم، شيء شبيه بما كانت تسميه فلسفة الاختلاف ديريدا/‏‏‏ هيدغر «اللامسمى». لقد بدأنا نخرج من حضارة، كي ندخل حضارة جديدة ليس لنا أي مقياس مماثل لتشبيهها.

خلاصة
لم تسبق أي حقبة في التاريخ أن كانت شبيهة بما نعيشه حاليا. صحيح أنه لا تخلو أي حضارة من الانقلابات والتحولات العميقة، التي أدت إلى تراجيديات عظيمة، كمثل تلك التي أعقبت سقوط بغداد أو الأندلس أو الإمبراطورية الرومانية، غير أن ما يحدث اليوم يتجاوز مدى الفهم البشري. الأمر لا يتعلق فقط بتغيير في المنظومات الاجتماعية والتاريخية، بل بشيء أعمق من هذا بكثير. إنه يمس وجود الإنسان ككائن واع، كما يمس طبيعة الحياة ودوامها على الأرض، وهذا بالتأكيد شيء غير مسبوق، ولم يستطع أي أحد عبر كل الأحقاب التاريخية أن توقع حدوثه. لم يتمكن أي شعب من معاينة هذه الأسئلة الفريدة من نوعها التي نواجهها حاليا. أسئلة الاحتباس الحراري، والهندسة الجينية، وتطبيقات النانو، وأبحاث الذكاء الاصطناعي، وبرامج غزو الفضاء وتعمير الكواكب البعيدة... حتى ولا اليونان أنفسهم الذين سبق لفريدريك نيتشه أن نعتهم بكونهم: «جبابرة السؤال» قد استطاعوا أن يحدسوا هول ما نعيشه اليوم. مع ذلك لدينا أمل كبير في أن نعلو على المتاهة، وأن تنتصر حصافة الإنسان، وأن يكون العبور العظيم رغم الألم والمعاناة آمنا.

الهوامش
(*) تعبير شهير في الاصطلاحات الفلسفية اللاتينية يدل على ما هو نوعي وخاص وفريد من نوعه
(**) دافيد هنري تورو، والدن. ترجمة هالة صلاح الدين، دار العين للنشر، الطبعة الأولى 2013
(***) Philippe Bihouix L›Âge des low tech. Vers une civilisation techniquement soutenable Éditeur: SEUIL 2014

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©