الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«ستاروبنسكي» آخر عمالقة النقد الأدبي.. وداعاً صاحب «حبر الجنون»!

«ستاروبنسكي» آخر عمالقة النقد الأدبي.. وداعاً صاحب «حبر الجنون»!
12 سبتمبر 2019 02:54

هاشم صالح

رحل، مؤخراً، عن عالمنا المفكر والناقد الأدبي الكبير جان ستاروبنسكي عن عمر طويل يقارب المئة عام (98 سنة تحديداً). لا أعرف فيما إذا كان اسمه يعني شيئاً ما بالنسبة للقارئ العربي، ولكنه لا يقل أهمية عن رولان بارت أو جاك دريدا، أو حتى ميشيل فوكو وجيل ديلوز. وقد خلف وراءه مؤلفات لا يستهان بها. ومعلوم أنه كان عضواً فيما يدعى بمدرسة جنيف للنقد الأدبي. وهي مدرسة تضم شخصيات محترمة، نذكر من بينها: ألبير بيغوان، ومارسيل ريمون، وجورج بوليه، وجان روسيه. وهي مدرسة حرة غير متقيدة بأي عقيدة دوغمائية متحجرة أو مغلقة أو مسبقة. فأعضاؤها أشخاص يكتبون بشكل مستقل تماماً، كل من جهته. ولا يتقاطعون إلا في المنهجيات الموضوعاتية، والنفسية، والتاريخية، فيما يخص ممارسة الدراسات النقدية والأدبية. فمثلاً ألبير بيغوان هو مؤلف كتاب مهم عن الروح الرومانطيقية والحلم، ومارسيل ريمون مؤلف كتاب مرموق بعنوان: من بودلير إلى السريالية.. إلخ، وهؤلاء جميعاً كانوا بشكل مباشر أو غير مباشر أساتذة جان ستاروبنسكي. ويمكن القول بأن التلميذ لم يخيب ظن أساتذته. فقد أصبح باعتراف البعض أهم ناقد أدبي في اللغة الفرنسية في القرن العشرين. وهذا يعني أنه أهم من رولان بارت. بل لم يكن ناقداً أدبياً فقط، وإنما كان فيلسوفاً أيضاً. وهذا يعني أنه انتقل من النقد الأدبي إلى النقد الفكري الأعمق والأشمل. وهذا ما يحصل للكثيرين من النوابغ. كان أول كتاب اشتهر به هو: جان جاك روسو: الشفافية والعقبة. وقد أصبح كلاسيكياً الآن. ولتفسير العنوان، نقول بأن جان جاك روسو كان يحلم بعلاقات صادقة وشفافة مع الآخرين. كان يحلم بتلاقي القلوب والضمائر في صداقات أو علاقات شفافة وصادقة لا تشوبها شائبة. ولكنه فوجئ بأن الحياة ليست هكذا. لقد فوجئ وصدم عندما وجد أن الناس ليسوا شفافين ولا صادقين إلى الحد الذي نتصوره أو نأمله. بل ولاحظ أن كل واحد منهم يضع قناعاً على وجهه، ما إن يدخل في سلك العلاقات العامة. إنه يظهر غير ما يبطن في أحيان كثيرة. وربما كانت ضرورات الحياة تجبره على ممارسة النفاق والازدواجية. وقد وصل الأمر بروسو في إحدى المرات إلى حد أنه صرخ قائلاً: يا أخي لم تعد تعرف من هو الشخص الجالس أمامك! وبالتالي فهناك عقبات شتى تحول دون الشفافية والعلاقات الصادقة بين البشر. ومن كثرة ما صدم روسو بالخيبات المتكررة، راح هو نفسه يثير العقبة التي تمنع الشفافية! وأعطاه ذلك ذريعة لكي ينغلق على نفسه ويعيش في الوحدة أو العزلة شبه المطلقة. لقد زهد بالبشر على طريقة أبي العلاء المعري:
وزهدني في الناس معرفتي بهم
وعلمي بأن العالمين هباء
بالطبع، فهذا الكتاب الشهير يحتوي على أفكار وتحليلات أخرى غير التي ذكرنا. فلا يمكن تلخيص كتاب يحاذي الخمسمئة صفحة ببضع كلمات فقط.

حبر الجنون
الشيء الثاني الذي يثير الانتباه في شخصية هذا الناقد السويسري، هي أنه كان طبيباً أيضاً، وليس فقط ناقداً أدبياً. وهذا شيء نادر في عالم الأدب. وقد ألف أطروحة ضخمة عن المرض العقلي أو النفسي على مر العصور، منذ اليونان وحتى يومنا هذا. وقد نشرها مؤخراً في كتاب ضخم يتجاوز السبعمئة صفحة بعنوان شاعري جميل هو: حبر الجنون. المقصود بذلك أن السويداء أو الكآبة العميقة التي تصيب بعض الأشخاص قد تجعل منهم عباقرة. بل ووصل الأمر بالمعلم الأول أرسطو إلى حد القول بأن الكآبة المبهمة، أو حتى بعض جرعات الجنون، شيء ضروري لكي يصبح المرء فيلسوفاً عبقرياً. ولكن ليس أي جنون بطبيعة الحال. إنه جنون العباقرة فقط: أي الجنون الذي يسيطرون عليه عن طريق الإبداع الخلاق. يقول جان ستاروبنسكي: «في المياه السوداء للكآبات الغامضة، في حبرها الغامق، يكتب الشاعر قصائده». وهنا نلاحظ أنه يركز على شخصية بودلير. فقد كان مصاباً بمرض الكآبة العميقة، كمعظم المبدعين الكبار. كان يشعر وكأنه على حافة الهاوية وقد يسقط فيها، ولا قرار. ولكن الإبداع الشعري كان يحميه من ذلك في آخر لحظة. هناك شيء مؤكد على أي حال: هو أنه لو لم يستطع بودلير كتابة قصائد عبقرية خارقة، لكان قد سقط في أعماق الهاوية السحيقة: أي لكان قد جن تماماً. لقد عاش على حافة الجنون طيلة حياته كلها، دون أن يسقط كلياً في الهاوية الفاغرة فاها. وقل الأمر ذاته عن فيرلين أو جيرار دونرفال الذي جن نهائياً، بل وانتحر. وهذا يعني أن الإبداع لم يستطع حمايته من السقوط في قعر الهاوية التي كانت تتربص به. لقد هزمته الحياة. ولكن لحسن الحظ فقد تمكن من أن يتحفنا ببعض النصوص الخالدة قبل أن يسقط ويستسلم وينهار. وماذا عن دوستيوفسكي أو نيتشه إلخ؟.. وبالمناسبة يمكن أن نقول الشيء ذاته عن الشاعر العربي الكبير خليل حاوي. هل نسيتم قصيدة لعازر الرائعة؟
يعبرون الجسر في الصبح خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد
من كهوف الشرق من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد
لكن طال انتظار الشرق الجديد ونفد الصبر، وربما لهذا السبب بالذات انتحر خليل حاوي في مثل هذه الأيام من صيف 1982(6/‏حزيران). بل وبدلاً من الشرق الجديد ظهر الشرق الداعشي القديم المدمر. وربما لو عاش خليل حاوي، وشهد كل ما حصل بعد رحيله، لانتحر مرة أخرى، ومرات. أنا واثق أن جان ستاروبنسكي كان سيكتب عنه دراسة كبيرة، لو أنه كان يعرف اللغة العربية وآدابها. وعلى أي حال، فتحليلاته لجنون العباقرة تنطبق على خليل حاوي أيضاً. و«الهاوية» التي يتحدث عنها بودلير هي ذاتها «الحفرة» التي تحدث عنها خليل حاوي في قصيدة جميلة بعنوان: حفرة بلا قاع.
عمق الحفرة يا حفار
عمقها لقاع لا قرار!
هل يدفن الشاعر ذاته أم العصر كله؟
ثم هذه الأبيات الثلاثة التي لا أكاد أشبع منها:
هذي العقارب لا تدور
رباه كيف تمط أرجلها الدقائق
كيف تجمد، تستحيل إلى عصور...
وهذا يذكرنا ببيت جميل جداً لهنري ميشو:
في كل ثانية محيط من القرون...

اختراع الحرية
لننتقل الآن إلى كتاب آخر أصدره هذا الناقد السويسري الفذ عن عصر الأنوار. ومعلوم أنه كان أحد ممثليه الكبار ولا يرضى عنه بديلاً. فالأنوار هي التي صنعت مجد أوروبا وجعلتها تتفوق على جميع شعوب الأرض، علماً وفلسفةً وحضارةً. ولذلك كرس لها كتاباً بعنوان: اختراع الحرية. وفيه يقول بأن فلاسفة الأنوار من أمثال ليسنغ ولايبنتز وسبينوزا وبيير بايل وفولتير وديدرو وروسو وكانط.. إلخ، فككوا أطروحات اللاهوت المسيحي التكفيري القديم، وبنوا على أنقاضها فكراً إيمانياً وفلسفياً جديداً. لأول مرة تحررت الفلسفة من نير اللاهوت والكهنوت. وهذا الشيء هو الذي أدى إلى ولادة الإنسان الفرنسي الجديد، وكذلك الإنسان الأوروبي الجديد بشكل عام. وراح فلاسفة الأنوار يعيدون الاعتبار إلى الطبيعة البشرية، ويتفاءلون بها، ويبرئونها من أي خطيئة أزلية مسبقة. وقد أدى ذلك إلى ظهور الإنسان المتنور الجديد على أنقاض الإنسان اللاهوتي المظلم القديم. منذ تلك اللحظة أقلعت أوروبا حضارياً بشكل صاروخي، وتفوقت على الآخرين.
ينبغي العلم بأن جان ستاروبنسكي اشتهر بمصطلح يدعى العلاقة النقدية أو الممارسة النقدية. ويقصد بذلك أن النقد الأدبي شهد في القرن العشرين طفرة نوعية عندما تجاوز القراءة السطحية للأعمال الأدبية. لقد تعمقت الدراسات النقدية إلى حد أنها أصبحت فلسفية وتحليلية نفسية تقريباً. بمعنى أن النقد الأدبي أصبح فعالية شديدة الخطورة والأهمية. إنه يكشف عن أعماق النص ويموضعه ضمن تاريخيته ومشروطياته. كما يكشف عن سر عبقريته. على هذا النحو درس الناقد السويسري الشهير اعترافات جان جاك روسو أو مؤلفات ديدرو ومونتيني وبودلير وعشرات غيرهم وأضاءها بشكل غير مسبوق. لقد تحول النقد الأدبي على يديه إلى فعالية محترمة جداً، بل وإبداعية، وليست فقط مجرد تعليقات على الروائع الكبرى. بمعنى أن النقد الأدبي نفسه تحول إلى منتج للروائع الفكرية والنقدية والأدبية.
أخيراً، كان آخر كتاب أصدره ناقد سويسرا والغرب كله بعنوان: جمال العالم. وقد صدر عن غاليمار عام 2016 بأكثر من ألف وأربعمئة صفحة! وهو يحتوي على ما يقارب المئة دراسة نقدية عن كبار أدباء الغرب وفنانيه. والمقصود بذلك أن الآداب والفنون تشهد على جمال العالم. ومهمة الناقد الأدبي أن يحتفل بهذه الشهادات التي لا تقدر بثمن. إن الروائع الأدبية الكبرى تشهد على كرامة الوجود البشري وتدافع عنها ضد كل قوى الشر والتدمير والظلام. هذا هو الدرس الكبير الذي خلفه لنا جان ستاروبنسكي. إنه يتمثل في بضع كلمات: أن نقول نعم لجمال العالم، أن نحتفي بجمال العالم، على الرغم من كل الشرور والمجازر والفواجع التي قد تحصل في العالم! ولكن هل كان سيحتفل بجمال العالم إلى مثل هذا الحد، لولا أنه عاش كل حياته في أرقى وأجمل بلد في العالم: سويسرا؟
تحية لهذا الناقد الفذ الذي غادرنا مؤخراً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©