الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

علمانية الهند.. روح الفيدا وفلسفة الآباء المؤسسين

علمانية الهند.. روح الفيدا وفلسفة الآباء المؤسسين
25 يناير 2017 23:49
إميل أمين (القاهرة) هل لا يزال للعلمانية مكان ومكانة في الهند؟ يبدو في واقع الأمر أن العلمانية لا تزال تتمتع بدعم وزخم كبيرين في الهند، وآية ذلك ما جرت به المقادير صباح الاثنين الثاني من يناير الجاري.. ما الذي جرى في صبيحة ذلك اليوم؟ الشاهد أن المحكمة العليا في الهند قد حظرت على الساسة استغلال الديانة والطائفة لجمع أصوات الناخبين، وذلك في حكم سوف يجبر ولا شك غالبية، إن لم يكن كل الأحزاب السياسية التي تعمل على الساحة الهندية، على تعديل أوراقها وتبديل أفكارها، وبلورة خطط استراتيجية جديدة تخوض بها غمار العملية الانتخابية. في ذلك اليوم تحدث كبير القضاة في المحكمة الأعلى في الهند «تى. إس. ثاكور» بالقول: «إنه لا يسمح لأي سياسي بالسعي وراء الأصوات باسم الطائفة أو العقيدة أو الديانة»، ومضيفاً: «إن عملية الانتخابات يجب أن تكون ممارسة علمانية». هل يتصل الحكم بالدستور الرسمي للهند؟ إنه كذلك بالفعل، فالدستور ينص على الهند «دولة علمانية»، لكن الأحزاب السياسية وفي الفترة الأخيرة دأبت على العزف على الأوتار الدينية والطائفية، واعتبارها أدوات للاستقطاب السياسي، ومعياراً رئيساً لاختيار المرشحين، والتقرب من الناخبين. يعن لنا التساؤل: كيف استطاعت العلمانية الهندية أن تحافظ على مكانتها في عالم تتصاعد فيه التيارات اليمينية وتزداد شراسة الجماعات الأصولية، وجميعها تجعل من التمايز العرقي والطائفي مرتكزات ومنطلقات رئيسة لها؟ ربما يتوجب علينا أن نذكر القارئ بأن الهند هي مهد حضارة «وادي السند»، ومنطقة طريق التجارة التاريخية والعديد من الإمبراطوريات، وقد نشأت على الأراضي الهندية أربعة أديان رئيسة هي الهندوسية والبوذية والجاينية والسيخية، في حين أن الزرادشتية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، وصلت إليها في الألفية الأولى الميلادية، وشكلت هذه الديانات والثقافات التنوع الثقافي والإثني للمنطقة. غير أن الحديث على هذا النحو يبدو متناقضاً، ذلك أن الأديان هي مطلقات، والسياسات من الأمور الدنيوية النسبية، فكيف استطاعت إذن المطلقات الدينية خاصة أن تتعايش في الهند، وتصل بها اليوم إلى مجتمع ديموقراطي متعدد متناغم قولاً وفعلاً؟ ربما يكون الجواب متضمناً في كلمة واحدة هو «العلمانية»، والتي عرفتها الهند في وقت مبكر من تاريخها وحضارتها.. هل من تعريف مبدئي للدولة العلمانية؟ الروح الهندية بحسب الموسوعة البريطانية الشهيرة، الدولة العلمانية هي كيان سياسي، السلطة فيه محايدة تجاه مواطنيها، منزوعة الهوى الديني، بعيدة عن الحكم على الأفراد بحسب الهوية العقائدية أو الإيمانية. الثابت أن جذور العلمانية يرجعها الكثير من الكتاب والمفكرين إلى الفلسفة اليونانية القديمة، وبخاصة لجهة فلاسفة بأعينهم مثل «أبيقور»، ولاحقاً خرجت بمفهومها الحديث خلال عصور التنوير الأوروبية على يد عدد من المفكرين أمثال «توماس جيفرسون» و«فولتير» وغيرهما، لكن هل يعني هذا أن جذور العلمانية غير قائمة أو كامنة في الروح الهندية منذ أوقات وعصور بعيدة جداً حتى عن عصور النهضة الغربية؟ يستدعي الجواب غوصاً تاريخياً وثقافياً في بحور الفلسفة والتاريخ والعقائد الدينية، وتحديداً من أجل الوصول إلى الـ«Vedas»، ومعناها ومبناها وما تمثله في النفس الهندية منذ وجدت وإلى وقت ظهور هذه الكلمات إلى النور. الـ«فيدا» هي الرؤية المقدسة للديانة الهندوسية، وهو كتاب يقع في 800 مجلد تقريباً، تم تأليفه طيلة 1000 سنة وقيل 3 آلاف سنة، وهي النصوص المقدسة من الترانيم والتراتيل لدى الآريين الهنود لتكريم الآلهة. الفكرة الجوهرية للـ«فيدا» أنها تنسحب من ضيق الأيديولوجيا و«التنميط» أو «النمذجة»، وتدفع المرء للحوار المنطقي المتواصل، المبني على التساؤلات والاستفسارات وليس القبول بأي تصريح كحقيقة نهائية. والمؤكد أنه إذا أردنا ترجمة هذه الكلمات بلغة عصورنا الحاضرة وإشكالية الصراع بين المطلق الديني والنسبي العلماني، لاستطعنا القول إن الـ«فيدا» هي رفض لفكرة امتلاك طرف بعينه الحقيقة المطلقة، وإنها دعوة للتفكير في الأشياء النسبية بمعايير نسبية لا بمنظور مطلق، وهذا هو التعريف الأقرب والأدق للعلمانية. وفي مفاهيم «الفيدا» لا توجد رؤية نهائية أو ثابتة يمكن إدراجها في كتاب بعينه، وطالب الحقيقة في هذه الفلسفة الهندية يجب أن يسأل بذهن تحقيقي، أي بحثاً عن الحقيقة وطريقه يمر عبر المعرفة الصادقة على أيدي المعلمين المتنورين، ويذكرنا هذا بتعبير جميل في مقطوعة معروفة من «غيتا» (الكتاب المقدس في الديانة الهندوسية) تقول كلماتها: «أعرف ذلك بالسجود وبالتحقيق وبالخدمة، العاقل الذي يدرك الحقيقة، ويرشدك إلى تلك المعرفة». من هذا المنطلق يمكن القول إن مفهوم الديانة الهندية الذي ينبع من فكرة الفيدا يخلو من التعصب والتصلب لأطروحات عقائدية بعينها، ولا يوفق بين المدارس الفكرية المختلفة، وإنما يسعى لقبولها أثناء البحث عن الحقيقة والطريقة المناسبة للحياة. وكلمة «دهرما» الهندية الشهيرة التي عادة ما يخلط المرء بينها وبين الديانة، ويظن أحياناً بكونهما «مرادفتين» تعني في الواقع طريقة للحياة كاملة تحافظ على المجتمع. تستدعي هذه الخلفية الفلسفية لروح الهند التساؤل: «هل كانت العلمانية على هذا النحو الطريق الأنسب والأقوم للهند، والتي كفلت لها رحلة الصعود إلى معارج الدول ذات الديموقراطيات العريقة؟ دعونا نذكِّر من جديد بأن الهند يتجاوز اليوم عدد سكانها مليار نسمة ومائة مليون، تتوزع انتماءاتهم العرقية بين الآريين واليونانيين، المغول والشعوب المنحدرة من وسط آسيا، أصول عربية وتركية وأفغانية، وألسنة تتجاوز 400 لغة منطوقة، فهل كان لنسق آخر غير العلمانية أن يقود الهند؟ يبدو أن الآباء المؤسسين للهند المعاصرة وفي المقدمة منهم غاندي ونهرو وأتباعهم من قيادات الصف الأول، قد حرصوا كل الحرص على الالتزام بقيم التعايش الديني، وتكريسها في الدستور الهندي. كان هذا التوجه كفيلاً بأن تنهي الهند عقوداً طويلة من الصراعات، واعتبرت مبادئ الليبرالية العلمانية في الوثيقة الأساسية، العمود الفقري للهند الحديثة، كان ذلك يعني بوضوح قطع الطريق على التعصب والإبعاد، الإقصاء والتخوين، وقد حمل «نهرو» أول رئيس للهند بعد الاستقلال راية العلمانية وجعلها شعار حزب المؤتمر وتم رسمياً تبني مبدأ الدولة العلمانية في الدستور باعتباره الطريق الأمثل لتحقيق الحداثة السياسية والوحدة الوطنية. على أن سؤالاً يراود خاطر وعقل القارئ.. هل علمانية الهند، ضرباً من ضروب إقصاء الدين، وبمعنى أكثر مباشرة هل هي علمانية إلحادية؟ الجواب عند نهرو نفسه إذ يقول: «عندما نتكلم عن علمانية الهند فالبعض يظن بأن ذلك معارض للدين، وهذا خطأ واضح». ما تعنيه علمانية الهند بشكل حقيقي هو أن الدولة تقدر العقيدة الدينية للجميع بالتساوي، وتمنحهم فرصاً متساوية في كل شيء، ولدى الهند تاريخ عريق من التعايش الديني. دستور الهند الحديث من هذا المنطلق تأثر واضعو دستور الهند الحديث، بالدساتير السابقة للدول الديموقراطية العلمانية، لا سيما المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، وتصورا الهند حتى في تمهيد الدستور «جمهورية ديموقراطية» ذات سيادة... ما الذي تضمنه هذه الجمهورية لجميع القاطنين فيها؟ حكماً إنها تضمن لهم طائفة من الأمور الحقوقية الإنسانية والتي تتفق عليها ومعها كل الأديان والمذاهب والعقائد السماوية، وحتى الشرائع الوضعية وفي المقدمة منها: - العدل: الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. - الحرية: للفرد والتعبير والاعتقاد والثقة والعبادة. - المساواة: للمكانة والفرص. - الإخاء: الذي يضمن الكرامة للفرد والوحدة والانسجام للشعب. ولأجل توفير المساواة لكل المواطنين ضمن الدستور الهندي في الفقرة (14) في الجزء الذي يعالج الحقوق الأساسية، المساواة أمام القانون قائلاً: «لا تنكر الدولة لأي أحد المساواة أمام القانون أو الوقاية المتساوية عن طريق القوانين داخل إقليم الهند»، وحتى أن الفقرة (15) هي أكثر أهمية حيث تحرم التميز على أساس الديانة والعرق أو الطبقة أو الجنس أو مكان الولادة. يسمح الدستور العلماني الهندي بالتعددية الدينية، وتنص الفقرة (295) من الدستور الهندي، على أن كل من يحاول بسوء نية وبقصد مبيت المس بالمشاعر الدينية لفئة من المواطنين سواء بالكلمة المكتوبة أو المنطوقة، أو باستخدام علامات معينة، أو سب ومحاولة القيام بذلك سيكون تحت طائلة القانون، الذي يعاقب إما بالسجن لمدة ثلاث سنوات على الإساءة للمشاعر الدينية، أو الغرامة أو بهما معاً. ومع الرؤية المعمقة للعلمانية الهندية يمكننا القول إن هناك ملمحاً لما نطلق عليه «علمانية جغرافية» على الأراضي الهندية... ماذا نقصد بذلك؟ من بواعث الارتياح أنه لا توجد في الهند اليوم مناطق سكنية لمجموعات معتمدة على الطبقة أو الديانة على أساس الأغلبية.. بمعنى أنه لا توجد «جيتوهات» طائفية دينية، أو عرقية على الأراضي الهندية. لقد نجح المهاتما غاندي في تأصيل روح العلمانية وإن لم يستخدم اللفظة ذاتها، وذلك عندما نظر إلى التسامح وعدم استخدام العنف على أنه صفة محورية للهندوسية، وهذا ما يقرره البروفيسور الأميركي «سكوت هيبارد» في كتابه «السياسة الدينية والدول العلمانية... مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية»، وكان ذلك هو الأساس الذي بنيت عليه رؤيته الشمولية للمجتمع الهندي، وقد وضع خليفته نهرو «القومية العلمانية» بناء على تلك الأفكار، من خلال منح عضوية الانضمام إلى الأمة لجميع من يعيشون داخل حدود أراضي الدولة. علمانية حقيقية هل علمانية الهند ذات التسعمائة مليون هندوسي علمانية صورية أم حقيقية؟ كان يمكن للمرء أن يعتبرها علمانية غير حقيقية لو لم تطابق أفعالهم أقوالهم، لكن اختيارهم للهندي المسلم «أبا بكر زين العابدين عبد الكلام» لرئاسة الهند في الفترة من (2002 إلى 2007)، يؤكد لنا أننا أمام تجربة حقيقية غير منحولة لعلمانية تنظر للنسبي بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. يتساءل البروفيسور العراقي «رشيد الخيون» في إحدى أطروحاته الفكرية عن الهند قائلاً: «كيف كان سيصبح حال الهند لو لم تأخذ بما طرحه غاندي ونهرو من علمانية جعلت هذا العدد الهائل من الأعراق والأديان يتعايش ولا لأحد منة على الآخر بوجوده؟». ويضيف في نقد لاذع، يلقي به على مسامع دول عربية وربما إسلامية أخرى فهمت العلمانية فهماً مغلوطاً: «ماذا لو أخذت الهند بآراء أبي الأعلى المودودي» مؤسس الجماعة الإسلامية (1941) بمدينة لاهور ومنها نقش سيد قطب، ما نظر له من حاكمية وجاهلية، وماذا لو تعلم هندوسي متعصب من مقالات قراءات المودودي؟ هل فهم الهنود ما عجز كثير من العرب عن فهمه في عقودنا الأخيرة؟ تجربة الهند تثبت أن العلمانية ليست كما يروج لها على أساس أنها المضاد الطبيعي للدين والتدين، بل أثبتت أنها ربما كانت الطرح العقلاني الأعلى والأرقى الذي يصون حقوق الجماعات دون تنابذ أو تمايز بين أغلبية وأقلية عددية، كما أكدت تجربة الهند أن العلمانية أداة جيدة وطيعة لمجابهة آفات الأيديولوجية التي تعزز الكراهية وتعمق الفرقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©