الجمعة 17 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

شعر ملوّن

شعر ملوّن
15 أغسطس 2019 01:04

ترجمة: أحمد حميدة

يتوقّف لون القصيد على مقدار الضّوء الوامض في حبره.
إنّه يتغيّر بتغيّر الزّمن والعمر واللّغة.

عديم اللّون في البداية، حين لا يزال محض تشوّف غامض.
من بياض صفحة خاوية، يتوق إلى الرّماديّ حالِماً بحبره القادم.
شروق متردّد على الورق. لكأنّه ضباب أو دخان رقيق يتصاعد.
ومع ذلك فإنّه غالبا ما يتوق إلى الأزرق،
محلّقا في سمائه ومائه، مفتتحا على الصّفحة موجة غامضة من لا زورد.

أسود، إن كان لا شيء يسحبه خارجا عنه، فيمكث حبيس العلامات والإيماءات.
أحمر، عندما يتسارع محموما، فينتشر ويخفق.
شرارات من ذهب هنا وهناك في رقصته التي تحاكي رقص أوراق الخريف.
أخضر في ماي أمام الشّجرة،
أبيض في ديسمبر تحت الثّلوج،
ولكن بلون مبهم، متى انحنى على الصّفحة وجه حبيب.


«كلّ ذلك الأزرق.. الذي نحمل..»
يشكّل الأزرق أحد الموضوعات الأساسيّة في شعر جان ميشال مولبوا، وهو بلا شكّ اللّون الأثير لدى هذا الشّاعر، طالما أنّه خصّص له ديوانه الأكثر رواجا «حكاية الأزرق»، الصّادر سنة 1992. إنّه لون البحر ولون السّماء، ولكن أيضا اللّون الذي يستكنّ في الجسد والرّوح، لون نظرات النّساء ذوات العيون السّوداء، لون فساتينهنّ وأشرطتهنّ..، فالأزرق حينئذ هو أكثر من لون..
«إن لم يكن ثمّة من روح أو بداية، فقد يكفينا وجود هذا الأزرق، الذي يكون دوما على وشك الانفتاح على تجهّم الأيّام، وموهوبا للجميع بلا مقابل كما باطن كف خاوية، أو كعهد يعرف الجميع أنّه سيتمّ الإخلال به» (حكاية الأزرق).
ولعلّنا بحاجة إلى التّأكيد أنّه في غياب كلّ شكل من أشكال التّسامي، يظلّ اللّون الأزرق هو أشدّ الألوان إفصاحا عن ذاك التّسامي. فاللّون الأزرق بالنّسبة لمولبوا لا يماثل أبدا الألوان الأخرى، ولا بدّ هنا من التّذكير بالأهميّة الخاصّة التي يكتسيها هذا اللّون في الثّقافة الغربيّة. لقد ذكّر ميشال بستورو، أنّه إذا كان إنسان ما قبل التّاريخ قد جهل الأزرق، وإذا كان الرّومان لم يعيروه أهميّة تذكر، حتّى أنّهم كانوا لا يسمّونه بشكل دقيق، فإنّ هذا اللّون كان قد اكتسى أهميّة متزايدة في العصر الوسيط بوصفه لون العذراء مريم، ثمّ باعتباره شعاراً ملكيّاً.. وبوصفه لونا رومانسيّا بآمتياز، سوف يكون في مجال الموسيقى اللّون المترجم عن الإحساس بالبلوز.

الأبيض، الأحمر..
غير أنّ ولع مولبوا باللّون الأزرق ينبغي ألاّ يحجب عنّا أهميّة الألوان أخرى في كتاباته، ومنها.. الأبيض، اللّون الكليّ الحضور في ديوانه الرّائع «خطى على الثّلج» (2004). ويعطي هذا الدّيوان الهادئ والصّموت، الانطباع بأنّ الكلمات التي تُخطّ ُلا تنسى البياض النّاعم الذي تستلقي داخله. فالأبيض الذي يحيل على البياض وما يعنيه من فراغ، ليس باللّون المحايد أو الخاوي، فهو لون يتلألأ بألف ذبذبة ملوّنة، على غرار الثّلح حين يُرسم بريشة فنّان انطباعيّ. إنّه بياضٌ بنصاعة الصّمت في الاستهلال الموسيقى، «خطوات على الثّلج»، لكلود دي بوسّي.
أمّا الأحمر فقد برز بشكل لافت في طيف الألوان لجان ميشال مولبوا مع الصّدور الحديث للـ «الخطاف الأحمر». غير أن القراءة اليقظة تبيّن أن حضور الأحمر كان سابقا لصدور هذا الدّيوان. فالأحمر هو لون الدمّ والقلب، ولكن أيضا لون شفاه المرأة.. إنّه زورق أحمر على سطح البحر، كرة طافية في السّماء. ومنذ كتابته «في باطن كفّ الحالم» كان الأحمر يبرز مثل علامة ملتهبة في محيط أزرق كما في لوحةٍ لمِيرو.
«يروق لي إشعال سيجارة وأنا وسط البحر، إنّها نقطة دقيقة حمراء تحطّ على الأزرق، نقطة متوهّجة ساخنة ومطقطقة. إنّها تومئ إلى أنّني موجود. فأنا بذرة، شذرة من إنسان، قطعة من روح بعيون دامعة، متأهّبة للسّجود كما للتّلاشي.»(مولبوا)

الإحالة على رمبو
ندرك حينئذ أهميّة أن يكون جان ميشال مولبوا قد كتب قصيد «لون القصيد»، هذا القصيد الذي لا نعثر عليه في أيّ من دواوينه الشّعريّة المعروفة، والذي يكون قد نشر في إحدى المجلاّت الصّادرة بكميّة محدودة.
ونعثر في هذا القصيد على تناصّ بارز، وهو كما ستكتشفونه أنتم، القصيد الشّهير لرمبو «سونيت (قصيد من أربعة عشر بيتا) الحروف الصّوتيّة». واستعراض الألوان الواحد تلو الآخر في هذا القصيد يكفي ليذكّرنا بذلك البيت الذي يقرن فيه شاعر الأردانّ كلّ مقطع صوتيّ بلون، غير أنّ أوجه التناسب الذي يبحث عنه جان ميشال مولبوا.. هو من نوع آخر.

الغنائيّة.. معدّل النّثر
كما هو الأمر مع رمبو، يقرن جان ميشال مولبوا كلّ لون بدلالة رمزيّة محدّدة، ولكن أنظمة الغنائيّة المختلفة هي التي يترجمها الشّاعر إلى ألوان. وجان ميشال مولبوا الذي يعدّ منظّراً ومدافعاً عن الغنائيّة، يعرّف الغنائيّة بالفعل على أنّها «معدّل النّثر»، لذا.. فإنّ الغنائيّة لا تكتسي دائما نفس اللّون.. والإلتجاء إلى الحساب في البيت «أحمر، عندما يتسارع محموما، فينتشر ويخفق» يمنحنا إحساسا بالسّرعة، فضلا عن كونه يستدعي صورة القلب ونبضه. وفي كتاب «غريزة سماويّة» يتحدّث مولبوا في نصوصه النّثريّة الغنائيّة عن «نوبات مفاجئة من الحمّى».
أمّا البيتين التّاليين، فيقرِنان الألوان بالفصول:
«شرارات من ذهب هنا وهناك في رقصته التي تحاكي رقص أوراق الخريف.
أخضر في ماي أمام الشّجرة،
أبيض في ديسمبر تحت الثّلوج..
الإيقاع هنا هو ليس ذاته، إنّه إيقاع» بالّيه «يحكمه التأرجح الثنائيّ للـ«هنا والهناك»، فيما تشير الشّرارة إلى تلألئ خاطف، ويحيلنا بياض الثّلج على زمنيّة ساكنة وأكثر توانيا.

حكاية القصيد
وهو على قيد الكتابة
إنّ تتابع الألوان في القصيد يخطّ حكاية القصيد الذي يكون في طور الكتابة..
- يكون القصيد في البداية عديم اللّون حين لا يزال ضبابيّا في ذهن الشّاعر.
- يغدو بعد ذلك أبيض، بلون الصّفحة التي لا تزال خالية من الكتابة.
- الرّماديّ.. يسجّل التّكوين التّدريجي للقصيد، الذي يجتثّ ذاته شيئا فشيئا من ضباب أو أدخنة السّحر حتّى يكتسب شكلا ما. وصِفةُ «التّذبذب»تبيّن أنّ القصيد لم تتحدّد بعد ملامحه بشكل جليّ. والرّماديّ هو لون»الحلم«، يترجم عن الحالة الجنينيّة للقصيد قبل أن يُستكمل حبكه.
- الأزرق.. يرسم حركة تحليق. ولا يتعلّق الأمر بأزرق الحبر، وإنّما بأزرق»السّماء«و»الماء«. وكلمة «توق»تبيّن أنّ الشّاعر لا يهتمّ بالواقع المبتذل للقصيد، وأنّه يتشوّف غنائيّا إلى صيغة مثاليّة، إلى»فكرة لازورديّة ضبابيّة».
- وينبغي التّذكير أنّ تعبير اللاّزورد يحيل على قصيد شهير لمالارميه، الذي استجاب فيه هذا اللّون المثالي إلى ما كان يتطالل إليه هذا الشّاعر. ولا شكّ أنّه من اللاّزورد لم يكن ثمّة سوى «فكرة ضبابيّة»: ويكون هذا التّعبير قد قلّل ممّا كانت تحمله كلمة لازورد من إحالة إلى الأبديّة.
- الأسود.. الذي يدعونا إلى التّفكير في لون الحبر و«العلامات»، عامّة ما ينظر إليه بصورة سلبيّة. فهذا اللّون أو بالأحرى غياب اللّون، الذي يترجم هنا عن إخفاق الإثارة، عن الفراغ(اللاّشيء)، عن حالة أسر.
- الأحمر والذّهبيّ والأخضر والأبيض، ألوان تمثّل الحالات المتوالية للقصيد، القادرة على إثارة الانفعالات المختلفة، من الغضب المحموم الذي يثيره الأحمر إلى الصّفاء الهادئ للثّلج. ومتى انسجمت تلك الألوان مع الفصول، تناغم القصيد مع الطّبيعة.
- وأداة الرّبط «لكن» تحرّر البيت الأخير، حيث يتعلّق الأمر «بلون ملتبس». وتحيلنا استحالة تسمية ذلك اللّون بدقّة على الشعور بالمحبّة الذي يحاول القصيد الإفصاح عنه والذي يظلّ عصيّا على المقول. ويكون بإمكان القصيد وصف ما هو متمنّع عن الرّسم، ومتفلّت عن الرّؤية. أمّا عبارة» متى انحنى على الصّفحة وجه حبيب«فيبدو أنّها تلمح إلى تبادل نظرات محبّة، ولكنّها تحيلنا أيضا إلى وضعيّة الشّاعر وهو يكتب. «وجهٌ محبوبٌ»ألِفَ قصيده ويكون بالفعل منحنيا من فوقه لرؤيته. ويكون ختم القصيد بـ«لون ملتبس» أيضا، فيما يشبه الحلقة التكراريّة، مثل رجع صدى للّون «لحياديّ» المذكور في القصيد.
هكذا يكون القصيد انعكاسا لـ«كميّة ما من الضّياء». ولكن ما هو هذا الضّياء الذي يومض في حبره؟ هل يكون وهج اللّحظة، المتغيّر حسب المزاج والأيّام؟ هل بإمكاننا أن نرى في ذلك أنّ القصيد قد يكون مسكونا بنور ملهِم؟ ولنلاحظ خلوّ القصيد من ضمير المتكلّم «أنا»، وأيّ صيغة أخرى لضمير المتكلّم في القصيد، وفيخيّل إلينا أنّ القصيد ينكتب من ذاته، وأنّه يتمتّع بحياة خاصّة. فهو لا يكون الموضوع بقدر ما يكون الحافز. وهكذا يكون القصيد أعجوبة صغرى من ألوان وضياء، تكون في البداية عديمة اللّون، ثمّ تمرّ بكلّ الدّرجات اللّونيّة قبل أن تدرك ذلك «اللّون الملتبس» للاّمعقول وللمحبّة.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©