الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

يحظى بمكانة كبرى في حضارة العرب.. وهل يُخفى القمر؟

يحظى بمكانة كبرى في حضارة العرب.. وهل يُخفى القمر؟
1 أغسطس 2019 03:53

د. ألفة يوسف

مهما تختلف الثّقافات والحضارات، فلا يمكن لأحد أن ينكر العلاقة الوشيجة بين الإنسان وعناصر الطّبيعة المحيطة به. ومن أبرز عناصر الطّبيعة الّتي شغلت الإنسان منذ القدم، نجد أنّ القمر يحتلّ مكانة كبيرة وهامّة. ويؤكّد فراس السواح أنّ الإنسان عظّم الشمس ولكنّه لم يجد فيها ندّاً للقمر ولم تترك في نفسه من العجب والتساؤل ما تركه القمر. وقد نفسّر ذلك بأمرين، أوّلهما أنّ الشّمس مصدر حرارةٍ ووهجٍ قد يكونان مزعجيْن أحياناً، خلافاً للقمر وضوئه الهادئ المؤنس، وثانيهما أنّ الشّمس تشرق وتغيب، ولكنّ هيئتها تظلّ واحدة، خلافاً للقمر الّذي يتحوّل من هلال إلى بدر، ذهاباً وإياباً، كلّ شهر. وإنّنا نودّ أن نعرض في هذا المقال لبعض أبعاد القمر في ثقافة العرب والمسلمين. ويمكن أن نقرّ من البداية بموضع هامّ للقمر في هذه الثّقافة، ألم يرد القمر 27 مرّة في القرآن، وأليس في القرآن سورة باسم القمر؟

1-القمر والعبادة:
قبل مجيء الإسلام كان تَمَثُّل القمر إلهاً أو صورةً للإله منتشراً في شبه الجزيرة العربيّة ولدى كثير من الشّعوب الّتي كانت تعبد القمر. هذا ما تثبته كتب التّاريخ والأنثروبولوجيا. وهذا ما يثبته القرآن أيضاً في مواضع مختلفة، أبرزها وَصْفُه لرحلة إبراهيم في بحثه عن الحقيقة: «فلمّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالّين» (الأنعام،77).
ولو لم يكن القمر ممّا يعبده بعض النّاس لما نهى الله تعالى عن عبادته إذ قال: «وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (فصّلت،37). إنّ القرآن هنا يحوّل القمر من إله معبود إلى دليل على المعبود الأوحدِ اللهِ تعالى. فالقمر ليس إلاّ مخلوقاً، وهو ككلّ المخلوقات علامة تشير إلى الخالق ودليل عليه، ممّا يدخل في باب النّصبة، بعبارة الجاحظ. ولذلك نجد أنّ القمر نفسه وسائر عناصر الطّبيعة تسجد لله تعالى: «ألم تر أنّ الله يسجد له من في السّماوات ومن في الأرض والشّمسُ والقمرُ والنّجوم والجبال والشّجر والدّوابّ...» (الحجّ،18).
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الصلاة حال خسوف القمر هي من النّوافل. والحقّ أنّ الدّعوة إلى الصّلاة والدّعاء، حال كسوف الشّمس أو خسوف القمر، تقتضي بعداً تقديسيّاً. على أنّ التّقديس هنا يتحوّل من تقديس للقمر يصلّي له الأقوام السّابقة إلى تقديس لله تعالى يُصلَّى له حال خسوف القمر. وهذا ما يؤكّد مرّة أخرى تحوّل القمر من معبود إلى عنصر يذكّر بالمعبود الجوهريّ الواحد.وليس القمر في وجوده ولا في خسوفه، فحسب، علامة على وجود الله. وإنّما يستدلّ الله تعالى بدقّة الكواكب وحسن سيرها بما هو من تجلّيات حكمته وقدرته ونعمه. يقول تعالى: لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك يسبحون«(يس،40). وعموماً، يمكن القول إنّ الإسلام حافظ على الدّلالة الحافة للقمر بما هو عنصر قدّسه القدامى ليحوّل هذا التّقديس لله تعالى. وحافظ القمر بذلك على قيمته في المخيال الجمعيّ، حتّى إنّه اعتمد أداة للقسم الإلهيّ أكثر من مرّة:«كلاّ والقمر»(المدثر،32)-«والقمر إذا اتّسق»(الانشقاق،18)-«والقمر إذا تلاها»(الشّمس،2).

2-القمر والتّقويم الزّمنيّ:
يؤكّد الله تعالى مرّات كثيرة أنّ القمر من العناصر المسخّرة للإنسان. من ذلك قوله عزّ وجلّ :«وسخّر لكم الشّمس والقمر دائبين وسخّر لكم اللّيل والنّهار» (إبراهيم،33).
القمر، وهو الّذي يعنينا هنا، مسخّر لا شكّ في الإنارة ليلاً. وهذا ما يؤكّده قوله تعالى:«وجعل القمر فيهنّ نورا...»(نوح،16). ولكن أبرز وجوه تسخير القمر اعتماده جوهراً للحساب الزّمنيّ. يقول الله تعالى:«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ...«(يونس،5).
إنّ اعتماد لام التعليل في قوله «لتعلموا» يؤكّد أنّ اعتماد القمر في التّقويم الزّمنيّ جوهريّ في ثقافة المسلمين. وهم بذلك يندرجون في نفس ثقافة شعوب الشّرق القديم الّتي اعتمد جميعها القمر في دورات الحساب الزّمنيّ، وهذا شأن البابليّين والسّومريّين والمصريّين القدامى والعرب في الجاهليّة.
ولعلّ اعتماد القمر في التّقويم متّصل بتحوّله من هلال إلى بدر في أربعة عشر يوماً. فالقمر، خلافاً للشّمس، متحوّل في ذاته، من خلال منظور الإدراك الحسّيّ، بعيداً عن حسابات الفلكيّين وتطوّر علوم الفضاء. ولهذا السّبب نجد مخيال الشّعوب القديمة يربط حياة المرأة الفيزيولوجية بالطّبيعة القمريّة، لاتّصالها بدورة شهريّة معادلة لدورة القمر.
على أنّ التّقويم القمريّ اكتسب لدى المسلمين قيمة أخرى. فهو مرتبط بشهر رمضان بما له من قيمة تعبّديّة وروحانيّة. أليست رؤية الهلال هي الّتي تحدّد انطلاق الصّيام؟ قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؟». بل إنّ قوله تعالى:«فمن شهد منكم الشّهر فليصمه»(البقرة،185) هو أيضاً محيل على القمر، ذلك أنّ ابن منظور يؤكّد أنّ «الشّهر هو القمر، سُمّي بذلك لشهرته وظهوره...والشّهر العدد المعروف من الأيّام سمّي بذلك لأنّه يُشهر بالقمر وفيه علامة ابتدائه وانتهائه».
والاستناد إلى التّقويم القمريّ في تحديد شهر رمضان يفسّر اختلاف حلول هذا الشّهر من فصل إلى فصل وفق السّنوات. ويفسّر أيضاً ما يتبع تحوّل زمن شهر رمضان من تحوّل زمن الحجّ: «يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ...» (البقرة،189). واللّطيف أنّ هذا التّحوّل الّذي يزعج بعض المسلمين المعاصرين اليوم يحمل دلالة روحانيّة عميقة قوامها أنّ هذا الشّهر يشقّ الفصول كلّها، فلا ينحصر في زمن ثابت إشارةً إلى عظمته وعمقه ومفارقته. ومن هنا نفهم نهي القرآن عن النّسيء وهو الشّهر الّذي كان العرب يضيفونه إلى السّنة القمريّة كلّ مدّة بما يجعلها تماثل السّنة الشّمسيّة، فتظلّ المواسم الزّراعيّة والتّجاريّة والدّينيّة في حينها دون تغيير. يقول تعالى:«إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا«(التّوبة،37).

3-القمر والبعد العجائبيّ:
الوجه التّقديسيّ القديم للقمر منحه قيمة مطلقة، واعتماده في الحساب الزّمنيّ القائم على التّحوّل جعله يجمع في مخيال الشّعوب القديمة بين المطلق والنّسبيّ في آنٍ واحد. القمر إذن يجمع بين وجهي تمثّل الإنسان للكون: الثّابت والمتحوّل معاً. وليس عجيباً، والحال تلك، أن يتّصل القمر بكثير من الأساطير الّتي تتجاوز المقاربات العقليّة وتقرب من الخوارق والعجائب. فالبابليّون والهنود مثلاً يعتقدون أنّ لمراحل تطوّر القمر تأثيراً في ما يجري من أحداث في حياتهم، وحتّى الغربيّون يذهبون إلى أنّ لاكتمال القمر دوراً في إخراج بعض الأمراض النّفسيّة والعقليّة من موضع الكمون إلى موضع الفعل. ونجد في المخيال الإسلاميّ صدى لاتّصال القمر بما هو متجاوز للعقل والمنطق الحسّيّ المحدود. ولعلّ أبرز نموذج هو ما ينقله لنا القرآن من قوله تعالى:«اقتربت السّاعة وانشقّ القمر» (القمر،1). واختلف المفسّرون في هذه الآية، فاعتبرها البعض محيلة على معجزة للرّسول، إذ ورد في أمّهات الكتب أنّ أهل مكّة سألوا النّبيّ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر.
واعتبر بعض المفسّرين الآخرين أنّ الآية القرآنيّة هي إنذار باقتراب السّاعة وانشقاق القمر الّذي هو من أشراطها. على أنّ هذا الاختلاف ليس مفيداً في مقامنا لأنّ التّفسيرين كليهما يحيل على بعد خارق ذي صلة بالقمر. وسواء أكنّا بإزاء معجزة دنيويّة أم بإزاء مقدّمة للمعجزة الأخرويّة، فإنّنا في الحالتين بإزاء تمثّل لما وراء العقل والمنطق. وربّما يجد هذا البعد الخارق المتّصل بالقمر صدى له في إقرار الرّسول أنّ خسوف القمر آية من آيات تخويف الله تعالى لعباده.
إنّ البعد الأسطوري المتّصل بالقمر يقيم بينه وبين انفعالات البشر صلات لامنظورة أثبتتها الشّعوب القديمة، وتواصلت في مخيال المسلمين الثّقافيّ طيلة قرون. وليس من الصّدفة أن تكون منطقة «بدر» هي مكان الغزوة الأولى الّتي انتصر فيها المسلمون على الكفّار. وغزوة بدر هي الّتي شهدت في المخيال التّراثيّ إرسال الله تعالى للملائكة لمساندة المحاربين المسلمين.

4-القمر والشّعريّة:
قوام اللّغة الشّعريّة المجاز. ومن أكثر الأساليب البلاغيّة دوراناً على الألسن، التّشبيه وما يتّصل به شأن الاستعارة. والنّاظر في شعر العرب من الجاهليّة حتّى الإسلام يلاحظ اعتماداً كبيراً لصورة القمر في أشعار الغزل أساساً، ولكن أيضاً في أشعار المدح والفخر.
لا يتّسع المقام طبعاً لعرض هذه الأبيات جميعها، فهي تستدعي كتباً ومجلّداتٍ. ولكنّنا نودّ أن نعرض في سرعة إلى عنصرين شعريّين، أحدهما دلاليّ والثّاني ثقافيّ نفسيّ.
أمّا البعد الدّلاليّ، فمنطلقه التّأمّل في التّشابيه والاستعارات باعتماد صورة القمر، فإذا جلّها يلجأ إلى صورة البدر، ربّما لأنّه يمثّل الصّورة الأكمل والأرقى للقمر، وربّما لأنّه في استدارته يذكّر بالوجه وببياضه الّذي كان لدى العرب من مقاييس الجمال. يقول عنترة:
وبدت فقلت البدر ليلة تمّه قد قلّدته نجومها الجوزاء
وكثيراً ما يُستعمل البدر محيلاً على نوره ومقترناً بمقابله أي الظّلام، فيكون الأوّل ذا دلالة حافة إيجابيّة والثّاني ذا دلالة حافة سلبيّة. ومن أشهر الأبيات في هذا قول أبي فراس:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي اللّيلة الظّلماء يُفتقد البدر
واعتماد البدر صورة جوهريّة للتّشبيه لا ينفي اعتماد صورة الهلال أيضاً، رغم أنّ الهلال قد يكون ذا دلالة سلبيّة أحياناً، شأن قول الشّاعر:
وكن كالشّمس تظهر كلّ يوم ولا تك في التّغيّب كالهلال
وأمّا البعد الثّقافيّ لشعريّة القمر، فلطيف لأنّه متغيّر وفق الحضارات. ذلك أنّ العرب القدامى يذكّرون القمر ويؤنّثون الشّمس لا فحسب لغويّاً، وإنّما في تمثّلاتهم، حتّى إنّ البعض يرى أنّ الشّمس والقمر كانا زوجين يُعبدان، الشّمس هي الأنثى و«اللاّت» أو «آلهة» اسم من أسمائها، و«إل» أو «إله» اسم من أسماء القمر. وفي مقابل ذلك نجد ثقافات الشّرق الأقصى تميّز بين الـ«يين»(yin) الّذي يحيل على القمر والأنثويّ، واليانغ (yang) الّذي يحيل على الشّمس والذّكوريّ. والفرق بين التّمثّلين أنّ العرب يميلون إلى اعتبار الذّكوريّ جوهراً، ومن هنا إعلاؤهم من شأن القمر بتذكيره، وفي مقابل ذلك نجد الثّقافات الشّرقيّة تعدّ الأنثويّ سابقاً بما هو الأصل، فتربط القمر بالأنثويّ. والأكيد أنّ وجود الزّوجين معاً يثبت أنّ الأنثويّ والذّكوريّ كلاهما وجهان للواحد. ولذلك لا عجب أن نجد شعراء العرب لا يتحرّجون من اعتماد البدر في تغزّلهم بحبيباتهم وفي مدحهم للسّلاطين والملوك أيضاً.
وعموماً، يمكن أن نقول إنّ القمر يحظى في حضارة العرب المسلمين بمكانة كبرى. ورغم تطوّر الأزمان وبلوغ الإنسان القمر، فإنّ اللّغة والاستعارات والمخيال الجمعيّ ما زالت إلى اليوم تضفي على القمر سحراً وفتنةً وغموضاً. ولعلّ العرب ما زالوا إلى اليوم يستحضرون، حال إعجابهم بشخصيّة متميّزة، قولَ عمر بن أبي ربيعة:«قد عرفناه وهل يخفى القمر؟».

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©