كان الجمهور على موعد مع الأمسية المسرحية الرائعة 'حكم الرعيان' في أول أيام مهرجان الدوحة الثقافي على مسرح قاعة 'الدفنة' بشيراتون العاصمة القطرية الدوحة·
'حكم الرعيان' مسرحية غنائية واستعراضية رومانسية، يستحضر من خلالها الرحابنة مسرحهم دون الفنانة فيروز، والمسرحية من تأليف وتلحين وإعداد مسرحي للفنان منصور الرحباني، واخراج مروان الرحباني، وشارك في التلحين والتوزيع كل من غدي، وأسامة، ومروان الرحباني، ويلعب دور البطولة فيها الفنانة لطيفة في دور 'ست الحسن' الجارية، وانطوان كرباج في دور الملك رعد الثالث ملك كرمستان، ورفيق علي أحمد في دور 'سعدون الراعي'، والفنانون ورد الخال، وعلي الزين، وأسعد الحداد، وجوزيف أصاف وآخرون إلى جانب أكثر من مائة فنان وفنانة ما بين راقص ومنشد·
و'حكم الرعيان' امتداد طبيعي للمسرحيات الغنائية الرحبانية في سبعينات القرن المنصرم، فالوجوه والأسماء تقريبا مكررة ما عدا غياب الفنانة القديرة فيروز، التي تحل محلها الفنانة التونسية لطيفة، التي استطاعت إلى حد كبير أن تشغل هذا الحيز، وهذا الدور بكفاءة واقتدار لامكاناتها الصوتية الرائعة، وتعد بداية حقيقية لها مع المسرح الغنائي يتوج نجاحها الغنائي والسينمائي·
وتعد مسرحية 'حكم الرعيان' أول عمل للرحابنة بعد 'ملوك الطوائف' ويحمل مضمونا سياسيا واضحا في اطار ريفي أو رعوي·
وهي مأخوذة من الأدب الشعبي، تمتزج الأحداث فيها بالمعاصرة والتجديد، وحافلة بالاسقاطات، ومعالم التجديد واشارات صريحة مثل العولمة، والهاتف المحمول، والارهاب، وغير ذلك من مفردات·
وتعد المسرحية رؤية درامية مسرحية للواقع العربي المعاصر، وما يكتنفه من احداث سياسية هامة، يتناولها المؤلف ممزوجة ومرتبطة بسياقاتها الاجتماعية والفلكلورية، وحافلة أيضا بالاستعارات التاريخية الحقيقية·· وتتناول تلك العلاقة الشائكة بين الحاكم والمحكومين، وعلاقة العرش بعامة الشعب، وتتناول مفاهيم العدالة، وحق الشعب، والوطنية، والصراع من أجل السلطة، في نزهة درامية مسرحية على حدود اللا منطق، والعبثية، والسخرية السوداء·
فالمؤلف ينقل المشاهد إلى مكان غير محدد جغرافيا، وغير معلوم تاريخياً، ولكن لا ينسينا هويتنا الشرقية، حيث ان الاطار العام لديكور المسرح مستوحى من المنطقة العربية، ومن تاريخنا وتراثنا المعماري المتميز، ومفردات الحياة القروية البسيطة، والملابس الشرقية الممزوجة بروح عصرية، ولكنها تبدو كرسومات الأطفال غير منطقية، ولا تنطبق على منطق هندسي·
الرواية غير واقعية، لم تحدث، ولا يمكن لها أن تحدث، وجاءت 'حدوتة' المسرحية لتكون استعراضية كالحواديت أو القصص التي ترويها الجدات حول مواقد التدفئة شتاء للصغار، وأحداثها غير قابلة للتصديق، ولا تخضع لمنطق، هكذا أراد منها ليسخر من واقع مرير يرفضه ويسخر منه·
مملكة كرمستان
تجري أحداث المسرحية في بلد يرمز له باسم 'كرمستان' يرزح تحت وطأة حاكم مستبد، متسلط ، ومزاجي، وغريب الأطوار يدعى 'رعد الثالث'، ويلعب هذا الدور الفنان كرباج القادم من مسرح فيروز والرحابنة وهو حاكم مهووس بالسلطة، وقاتل محترف، يسعى بكل ما يستطيع ابعاد من لديه الحق بوراثة العرش، وزود عرشه بمنظومة انذار مبكر ليستشعر الخطر قبل وقوعه·· ولا يتردد رعد الثالث في الاستئناس برأي 'العرافات' حتى يكتشف كل من يتآمر عليه، ويتخلص منه على الفور·· على الجانب الآخر، هناك راع بسيط ساذج اسمه 'سعدون' يلعب الدور الفنان رفيق علي احمد، ومهمته تزويد البلاط بحليب الماعز، وهو انسان يرتبط بالطبيعة، والغناء الريفي·
وتلعب دور الجارية 'ست الحسن' الفنانة لطيفة وهو دور مهم في درامية الأحداث، ذلك لانها همزة الوصل بين فضائين لا يمكن ان يتقاطعا أبدا، القصر، والبرية، وست الحسن الجارية الجميلة التي تستطيع التحرك بحرية بين هذين الفضائين وحركتها دخولا وخروجا تؤدى الى الفعل الدرامي، وتستمع الى موال شعبي من سعدون، وتنقله الى الملك رعد الثالث، وعندما يسمع 'كرستان، لو صار وحكمتك·· لمشي الديب والعنزة سوا'، يقرر الحاكم تعيين الراعي سعدون في مكانه في السلطة، على ان يدير هو سدة الحكم من خلف الكواليس، لكن اللعبة تتحول الى حقيقة، ويحكم سعدون 'الراعي' بالعدل، ويصبح أمل 'مملكة كرمستان' وشعبها، ولكن الملك القابع خلف الكواليس لا يروق له ذلك رغم ما تعيشه البلاد من امان وخير، ويقرر انهاء اللعبة والقضاء على الراعي بناء على نصيحة من زوجته 'الفنانة ورد الخال'·
هنا يرسل رعد الثالث الجارية 'ست الحسن' لتتخلص من الحاكم المزيف الذي يشكل خطرا على العرش· لكنها تعشق الراعي وتحبه وتفضله على سيدها، وينقلب السحر على الساحر، ويقرر رعد الثالث الانضمام الى المعارضة لانتزاع السلطة من سعدون 'الراعي' ويحتدم الصراع، وتعم الفوضى البلاد، وأمام حبه لوطنه، وخوفه عليه، يتخلى سعدون عن السلطة قبل ان تنتهي المهلة التي منحها إياه رعد الثالث في 'زمن اللعبة' ويطلق حكمته (إذا بدنا نبقي الاسطورة·· لازم نعرف نقل الصورة) وتنقسم البلاد الى زعامات، وكل منها يطلب السلطة، وتختصر أغنية الختام مقولة المسرحية وحكمتها (طارت الكرسي واللي على الكرسي، ونحن ملهيين·· انتبهوا كمان·· كمان الوطن بيطير)·
رؤية جديدة
رسالة المسرحية واضحة وصريحة، كما هو الحال في كل اعمال الرحابنة، لكن العبرة هنا أنها تأتي في عمق البساطة، لأنها تريد مخاطبة الشعب لا الحكام·· فالمسرحية تبحث في الآلية الكبرى للتاريخ، وحركته المتكررة دون توقف، وقد كتب منصور الرحباني النص في توليفة شكسبيرية لعدد من نصوصه التاريخية، وتشابه الاسماء، والادوار، وبعض التفاصيل·
لقد أراد رعد الثالث ان يصنع التاريخ على مزاجه الخاص، ووفق رغبته وكأن التاريخ قطعة من طين يريد ان يشكلها على هواه، كما يشاء، فتحول هو نفسه الى قطعة طين ، وفي حكم الرعيان نستشف خطأ آخر كان قد طرقه سعد الله ونوس في مسرحيته الشهيرة 'الملك هو الملك'، وأيا كانت الخطوط المسرحية لحكم الرعيان، فإن منصور الرحباني، استطاع ان يقدم رؤية جديدة ومعاصرة وحساسة تلامس حياتنا في الظروف التاريخية التي يمر بها العالم العربي بشكل عام·
لقد أراد رعد الثالث أن يتسلى بعد أن شعر بالضجر، وأراد ان يلهو ويلعب بلعبة السلطة، لكنه نسي أن هذه القضية لا يمكن اللعب بها، ووصل الى نتيجة مؤداها ان الرداء يصنع الملك، وان الرجل البسيط الذي صنعه ووضعه في مكانه في يوم ما، قد اصبح جزءا من الحالة، ولم يعد الناس يعرفون سحنة الملك الاصلي، لأنهم لا ينظرون الا الى رداء الملك وعلاماته ورموزه·
وها هي زوجة الملك نجد لها شبها في 'ماكبث'، وتحرض كلتا المرأتين زوجيهما على القتل لانهاء اللعبة، وايقاف آلة التاريخ·
حكم الرعيان·· عرض مسرحي، يحمل مرآة يضعها في وجه المتفرجين، لكنها مرآة مهمشة كتلك التي حملها ريتشارد الثالث، ليرى وجهه الحقيقي ويجده ألف وجه·· فهو تلميذ نجيب لميكاثيللي·· فقد قرأ كتابه 'الأمير' جيدا، وحفظه عن ظهر قلب، فالسياسة عنده لا علاقة لها بالأخلاق، مثلها مثل فتح الطرقات العريضة في المدن، قد تكون جميلة ومريحة، لكنها عندما شقت، حطمت في طريقها آلاف البيوت التي كان يسكنها آلاف الفقراء·
عدد اليوم
