الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غادة السمان لـ «الاتحاد الثقافي»: متى نعترف بـ «أدب الاعتراف»؟

غادة السمان لـ «الاتحاد الثقافي»: متى نعترف بـ «أدب الاعتراف»؟
25 يوليو 2019 04:35

أحمد فرحات

منذ أن أصدرت مجموعتها القصصية الأولى «عيناك قدري» في العام 1962، لفتت غادة السمان أنظار النقاد والإعلاميين العرب، ومعهم بالطبع روّاد الحداثة في الشعر العربي، من مثل يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس وغيرهم، انطلاقاً من أن معارك التجديد الكتابي وقتها، كانت على أشدّها في الفضاء الإبداعي العربي العام، شعراً ونثراً وأساليب نقدية، فأعلنوا ولادة صوت أدبي جديد ومفارق في خطابه الفني التمردي، يصطف إلى جانب تجربتي الكاتبتين الرياديتين في مجال السرد العربي المفارق: اللبنانية ليلى بعلبكي والسورية كوليت خوري. واستمرت غادة السمان في معركة الكتابة القصصية والروائية (والشعرية أيضاً) بغزارة ملحوظة وتصميم إبداعي عالٍ، خصوصاً بعد توقف ليلى بعلبكي وكوليت خوري عن الكتابة والنشر، ما جعل النقاد، وسائر المعنيين بالشأن الأدبي، يعتبرون، بل يؤكدون أن غادة السمان كانت العنوان الأجدر باستئناف بدء ذلكم المسار الأدبي الحر والمتصدي بلا عقد لكل ما يضادّ فطرة الإنسان وسليقته الطبيعية.

عرفت غادة السمّان الذروة الكتابيّة (لا تزال فيها) من خلال رواياتها: «بيروت 75»، و«كوابيس بيروت»، و«ليلة المليار»، و«سهرة تنكرية للموتى»، ما دفع تجربتها إلى أن تصير في مصاف الروايات العالمية المكتملة، خصوصاً لناحية دمج الأسئلة الواقعية بالتجليات الرمزية والوجودية والفلسفية، علاوة على الاغتراب الذاتي بتوتراته الدفينة والعلنية، وذلك كله من غير أن تخسر هويتها ككاتبة عربية أيضاً، تعالج في العمق مأساة إنسانها العربي الذي لا تفرّق فيه بين ذكر وأنثى، داخل الوطن الكبير وخارجه.
ومن فرط إعجابه برواياتها وقصصها المذكورة أعلاه، وغير المذكورة، تحدث أمامي ذات يوم في باريس الناقد المصري الكبير د. محمود أمين العالم قائلاً إن غادة السمان تستحق جائزة نوبل، على الرغم من كل الالتباسات والتعقيدات التي تقف وراء هذه الجائزة.
وما زاد من نجومية غادة السمان بعد وبعد، تألقاً وحضوراً، اشتغالها بالكتابة الصحافية، حيث برعت في تقديم فن المقالة، أيّما براعة، وثابرت في الانتظام عليه حتى اليوم.
نعم، حرّكت غادة السمان المياه الراكدة عربياً، اجتماعياً وسياسياً، فكرياً وثقافياً فحرصت، ولا تزال تحرص، على أن تكون صوت جيلها والأجيال العربية المستمرة من خلال الطرح الأدبي الحي، المؤثر والجريء في الرأي العام. ولا غرو، فهي لا تزال الكاتبة العربية الأكثر مبيعاً وانتشاراً في معارض الكتب والمكتبات العربية على اختلافها.
ألّفت غادة السمان حتى الآن ما يزيد على الأربعين كتاباً، ما بين قصة قصيرة ورواية وقصيدة وأدب اعتراف ومقالة. وتُرجمت بعض أعمالها الإبداعية إلى أكثر من عشرين لغة. وكان الناقد المصري الراحل غالي شكري هو أول من أصدر كتاباً نقدياً عن غادة السمان. وكرّت بعد ذلك سبّحة الكتب النقدية حولها حتى بلغ تعدادها الـ 21 كتاباً حتى الآن، بينها ما هو باللغة الإنجليزية: «قضايا عربية في أدب السمان»، واللغة الفرنسية: «الجنس في المجتمع العربي في قصص السمان» واللغة الإيطالية: «التمرد والالتزام في أدب السمان» وآخرها صدر منذ أسابيع في موسكو باللغة الروسية وعنوانه «غادة السمان شاعرة القصة» للناقدة البروفسورة ناتاليا شويسكايا.
للحوار مع غادة السمان نكهته فائقة الخصوصية، فهي رهينة الإبداع أو الإبداع رهينها، ليس على مستوى الكتابة فقط، وإنما على مستوى إتقان فن الحياة واختيار الأمكنة وتذوق جمالياتها. ثم إنها إنسانة جريئة، وصريحة كل الصراحة، خصوصاً لدى كلامها في هذا اللقاء، على ما تسميه بـ«أدب الاعتراف» أو الرسائل بينها وبين المبدعين الكبيرين: غسان كنفاني وأنسي الحاج. فالرسائل كما تقول غادة «تعري الحقيقة البشرية كجزء من الأدب الإنساني، وحان الوقت لاحتضان العرب لأدب الاعتراف. وثمة جوع لذلك، بدليل أن كتاب «رسائل غسان» صار في طبعته العاشرة والمطلوب الشجاعة الأدبية لاختراق حقول جديدة وفنية».
في ما يلي نص الحوار:

تبرئة واتهام
* كثيرة هي الأسئلة الأدبية والنقدية التي طرحت عليك في السابق، انطلاقاً طبعاً من تجربتك الإبداعية المفارقة والواثقة في دنيا الكتابة الروائية العربية. ما السؤال الذي ترينه مُهمّاً جداً ولم يطرح عليك بعد؟ وكيف تجيبين عن مثل ذلك السؤال؟
** هذا سؤال جذاب، وها أنا تلبية لحوارنا أرضى بازدواج شخصيتي بين سائل ومجيب!. كثيرة هي الأسئلة التي قد أطرحها على نفسي، وأولها: أنت يا غادة تعيشين في باريس منذ 35 سنة، ولكن قلبك في الوطن، تتابعين إصداراته الأدبية، تنشرين كتبك في بيروت، ينكسر قلبك كلما رحل عن عالمنا رفيق/‏‏‏‏ رفيقة حرف في بيروت وفي عالمك العربي. لماذا لا تعودين إلى بيتك البيروتي ومكتبك في «دار الطليعة» ومنشوراتك وأصدقاء أبجديتك، ما دمت على نحو ما تعيشين في باريس وبيروت معاً؟.. والإجابة عن هذا السؤال ملتبسة وهي: لم أعد أدري. أضبط نفسي بالجرم المشهود متلبّسة بالأمومة، وابني الدكتور حازم الداعوق يعمل أستاذاً جامعياً في الولايات المتحدة الأميركية ومستشاراً اقتصادياً لشركة أوروبية كبيرة، وبالتالي فوجودي في باريس يسهّل اللقاء طويلاً بيننا.. أهذا هو السبب؟ أم أنني تعبت من القفز بين المدن منذ اليوم الذي غادرت فيه وطني الأم سوريا، وعشت في بيروت لمتابعة دراسة الماجستير، وبعدها في لندن للدكتوراه، وبعدها في روما، فجنيف (طوال عامين برفقة زوجي وابني) فباريس.
حسناً، أدافع سراً في قلبي عن باريس، فالإبداعات تسافر إليها ولا يشعر المرء فيها أنه في معتقل، بل في ساحة مفتوحة للحضارات. ولكنني أكرر: في كل صباح حين أستيقظ أنوي العودة إلى الوطن وفي الليل حين أنام أضم إلى صدري جاري «برج إيفل» وأنام. أكرر: لا لم أقتلع من قلبي ياسمينة جدتي لأزرع في مكانها «برج إيفل» الباريسي، أو ساعة «البيغ بن» اللندنية، ولكنني أتهم نفسي بأن الضغط على زر لتشع الغرفة بضوء الكهرباء، أمر مهم كما عدم الهلع من انقطاع الماء كما يحدث في بيروت (الكهرباء لم تنقطع عني في باريس يوماً منذ 35 سنة) وأتساءل: ترى، هل تتدخل في الخطط الكبيرة لحياتنا قضايا صغيرة جداً كالضجر من إحضار مولّد كهربائي منزلي خاص وتفاصيل أخرى؟.. ولا أقوم بتبرئة نفسي من أي تهمة.
ولا أكتمك يا أخي أحمد بأنني أفتش عن قاتل محترف «أستأجره» ليقوم باقتراف جريمة قتل ذاكرتي.. فالوطن يطاردني، والحنين إلى ما كان يمتزج بالخوف مما قد يكون، فقد عشت عشرة أعوام من الحرب اللبنانية، ولم أعد قادرة على تكرار ذلك إلا إذا بدأت ذاكرة جديدة.

بلا تعليق
* يرى الناقد الراحل غالي شكري في كتابه «غادة السمان بلا أجنحة» «أن غادة السمان اعتمدت ثلاث أدوات في إيجاد حياتها الأدبية والكتابية هي: الصحافة والجيل والعصر، فالصحافة لم تكن حرفة للارتزاق عندها أو منبراً للوعظ، وإنما وسيلة إلى جمهور عريض من القراء المثقفين حصراً، استقطبته من خلال ما نشرت في الصحف والمجلات. أما الجيل، فالكاتبة تخاطب الأجيال العربية التي عاصرت الهزيمة السياسية والثقافية للأمة العربية، وهي في هذه الأجيال تحيا وتموت، وبها تعلق آمالها، حيث يصبح المستقبل في نظرها نقيضاً للموت. وبخصوص العصر في أدبها، فهو الزمان والمكان معاً، حيث التقدم العلمي والتقني والمعرفي عموماً يفرض وقائع جديدة على الإنسان والمجتمعات كافة، وعلى الكاتب أن يرصد هذه الوقائع المتناوبة في تجربته ورؤيته لأمور الحاضر والآتي معاً. ما تعليقك؟
** الناقد الراحل غالي شكري هو أول من أصدر كتاباً نقدياً عني، وصار عددها 21 كتاباً، بينها ما هو بالإنجليزية «قضايا عربية في أدب السمان»، والفرنسية «الجنس في المجتمع العربي في قصص السمان»، والإيطالية «التمرد والالتزام في أدب السمان»، وآخرها صدر منذ أسابيع في موسكو باللغة الروسية التي أجهلها تماماً وعنوانه «السمان شاعرة القصة»، كما تكرم الأستاذ فالح الحمراني بالكتابة عنه (وهو يتقن اللغة الروسية)، ومن تأليف البروفسورة ناتاليا شويسكايا.
ولي موقف من الكتب كلها التي صدرت عني ومن المقالات النقدية عني خاصة والنقاد عامة. أنا أحترم الناقد الذي يحترم القارئ، وكان لي حظ الوقوع بين أيدي نقاد بمستوى أدبي راق، أرتاح لنظرة بعضهم أكثر من سواهم. في المقابل، لا أعرف عن نقد كتبي إلا ما يعرفه الطائر عن قوانين الملاحة الجوية، لكنه ببساطة يطير وهذا كل شيء. وبالتالي فلا تعليق عندي على ما كتبه الراحل د. غالي شكري. كل ما أعرفه أنني كاتبة غير راضية عن نفسها، لذا ما زلت أكتب في محاولة لكتابة الرواية التي أحلم بتسطيرها، وحين أفعل سأتوقف عن الكتابة.
أما أقوال النقاد، فبعضها غاية في الأهمية الفكرية للقارئ العربي ولي، لكن الكاتب كالنحلة لا يدري حقاً كيف يصنع عسله. إنه ببساطة وجد ليسكبه قطرة بعد أخرى.
وذات يوم قد أقوم بتأليف كتاب بعنوان: «نقد نقادي» ولكن ذلك لن يدور حول جوهر رأي الناقد، بل حول وجهة نظري، وهي التي قد تكون خاطئة.

الغليان السري
* بات بدهياً، بل تقليدياً جداً القول إن غادة السمان حطّمت تابوهات عدة: اجتماعية ومعتقدية وثقافية وسياسية على المستوى العربي.. لكن ألم يفاجئك في المقابل، سيدتي الواقع العربي «بتطوره عكسياً» اليوم، أي أننا اتجهنا إلى ما يمكن أن نسميه انفجار «نمو التخلف» والعودة بمجتمعاتنا وبلداننا مئات السنين إلى الوراء؟
** لا أعتقد ذلك تماماً. من الجميل أن ينفجر المكتوم ونزداد تعارفاً مع حقيقة جزء كبير من مجتمعنا لنتحاور أو نصطدم معاً، حوارياً لا حربياً.
لقد وجدت دائماً أنه من الأفضل التعارف مع حقيقتنا أو الحقيقة الداخلية لبعضنا، ومحاولة احترام بعض التراث بعد غربلته من دون خيانة العصر.
لا نستطيع اقتراف ترف العودة إلى الوراء والتخلف، ولكن من الأفضل أن نعرف الغليان السري الذي يستغله البعض لمصالحه بذريعة المقدس.
* عرف الوطن العربي في العقود الثلاثة الفائتة ظهور عالمات اجتماع عربيات نافسن الكاتبات العربيات المرموقات في أطروحاتهن الأدبية، خصوصاً لجهة تحريك مجتمعاتنا العربية الراكدة على امتداد الوطن الكبير، حيث إن أطروحاتهن في مجالاتهن التخصّصية عدّها البعض (د.عبد الوهاب المؤدب) نوعاً من الأدب الجديد الذي لا يستهان بتأثيره الإضماري، اجتماعياً وثقافياً. ومن أبرز هؤلاء العالمات الاجتماعيات: فاطمة المرنيسي (المغرب)، ألفة يوسف (تونس)، سامية خضر صالح (مصر) إلهام خوري (فلسطين) مثالاً لا حصراً؟.. ماذا تقولين؟
** ما من منافسة «نسائية»، هذا أولاً، ثم إن العالمات الاجتماعيات ينافسن العلماء الذكور في الحقل ذاته، ولا الأدباء الذكور، بل يضفن إليه وإلى العطاء العربي.
ونظرة د. المؤدب استشراقية فولكلورية يحلو لها الفصل بين عطاء«الحريم» العربيات ودنيا «الذكور». وهذا مقياس قاصر، فالعلم يتسع للجنسين، وهو مكسب للكتّاب والكاتبات معاً. وبالتالي أنا أضم فاطمة المرنيسي وسواها من العالمات الاجتماعيات إلى العلماء الاجتماعيين العرب مع تفاوت القيم الإبداعية أمثال الكبير هشام جعيط ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وسواهم. والدراسات في علم الاجتماع تسهم في إلقاء أضواء جديدة على معارف الأديبات/‏‏‏‏ الأدباء العرب.
المنافسة غير موجودة، بل الإثراء العلمي المتضامن في حقول شتى.
* إلى أي منحى تجريبي إبداعي وصلت إليه في كتابتك الرواية اليوم؟ وهل ما زلت في تجريبيتك تستقبلين العالم بحواس نهمة وأخرى إغرابيّة مكثفة؟
** لا أدري بالضبط. حينما كنت بنتاً صغيرة في دمشق و«جرموزة»، أي «كشافة»، كان شعاري: أبذل جهدي. وهو ما زال شعاري الروحي الداخلي، أفعل ما بوسعي ولا أرصده، بل أتدفق كأي نبع لا يعرف الجهات الجغرافية التي ينسكب نحوها.
كشف الأسرار ليس سيّداً بل معرفتها
* لماذا ملت إلى كتابة الشعر ولم تكتف ببثه، مثلاً، في أنساق سردياتك القصصية والروائية المتضمنة فضاءات شعرية مكثفة؟
** أكتب ما يحلو لي كما يحلو لي حين يحلو لي. وكما يقول الكبير رسول حمزاتوف: عمّدوا بالاسم الذي تختارونه ما أخطه، فأنا أكتب صوت قلبي.

عن الاعتراف
* لن أسألك عن نشر الرسائل المتبادلة بينك وبين غسان كنفاني وأنسي الحاج، فتلك مسألة أشبعها الإعلام العربي تفنيداً وتأويلاً، ولكن سؤالي في هذا الإطار، هل تعتبرين نشر مثل هذه الرسائل بمثابة تأسيس عربي جديد لأدب المراسلات، أو أدب الاعتراف، وذلك على غرار ما نراه في آداب الأمم الأخرى المتقدمة في العالم؟ وما العناصر التي تستندين إليها في هذا المضمار الإبداعي؟
** في الغرب الخوف من كشف «الأسرار»، ليس سيداً، بل معرفتها. ما من مبدع له رسائل إلا وتمّ نشرها من دون أن يثير ذلك أي ضجة وآخرها مثلاً حين نشرت «آن بانجو» في باريس رسائل غرامية إليها من رئيس الجمهورية الفرنسية لولايتين فرنسوا ميتران. وكان زوجاً وأباً، بل وأنجبت منه ابنة ظلت سرية حتى مرضه وقرب وفاته فاعترف بها، هي «مازارين بانجو».. والجميع في فرنسا يعلم ذلك. الصحف والمجلات الفرنسية كتبت عن الرسائل كشأن أدبي، فقد كان الرئيس ميتران أديباً مرهفاً وعاشقاً. وقد التقيت به مرات في مكتبات «الحي اللاتيني» وتبادلنا التحية، واصطحب مرة فرنسواز ساغان في الطائرة الخاصة به إلى رحلة رئاسية وعادت قبله إلى باريس، لأنها أصيبت بتوعك بسبب الإدمان. ومرة كان في مطعم خاص بالأسماك في الحي اللاتيني وشاهد على مائدة مجاورة الأديبة الكبيرة مرغريت يورسنار، فأرسل حارسه ليدعوها إلى مائدته، لكنها رفضت النهوض ودعته هو إلى مائدتها، وهكذا كان.
ومن رسائل الحب المنشورة في باريس مؤخراً (عن دار غاليمار) تلك التي أرسلها الروائي الكبير ألبير كامو إلى الممثلة السينمائية ماريا كاساريس وفيها حب جميل ومتبادل بين الطرفين. ولا أدري لماذا يعتبر نشر «رسائل الحب» عندنا عملاً فضائحياً وليس بيننا من لم يطرق الحب باب قلبه. وفي حوزتي كتاب بالفرنسية صدر عن منشورات «لاتيس» الباريسية فيه رسائل حب مختارة من مبدعين وملوك كرسائل نابليون إلى جوزفين ورسائل الملك لودفيك (ملك بافاريا) إلى الموسيقار الكبير فاغنر، وكان يخاطبه بعبارة: «أيها الحبيب»، ويخاطب خطيبته في رسائله بعبارة: «سيدتي»!! ولم يتزوجا ومات ميتة غامضة في بحيرة قرب قصره «نويفنشتاين»، وقد زرته في ألمانيا.
الرسائل تعرّي الحقيقة البشرية كجزء من الأدب الإنساني، وحان الوقت لاحتضان العرب لأدب الاعتراف. وثمة جوع سري لذلك، بدليل أن كتاب «رسائل غسان» لي صار في طبعته العاشرة. والمطلوب الشجاعة الأدبية لاختراق حقول جديدة وفنية.
وأكرر، لن أمزق حرفاً مبدعاً. ورسائل أنسي الحاج لي، هي من ذلك النمط الإبداعي.
* تحركت تجربتك السردية الإبداعية في مناخ انفجار الحداثة الشعرية العربية، كما عرفناها في لبنان مع مجلة «شعر» ومجلة «الآداب»، وإن بدرجة أقل زخماً من سابقتها. فهل تعتبرين تجربتك الإبداعية هذه جزءاً لا يتجزأ من تجربة ثورة الحداثة في الشعر والأدب العربيين؟
** عينك محايدة ومثقفة، وبالتالي ربما ترى الأمور على نحو موضوعي أكثر مني، لكنني في المقابل كنت قادمة من دمشق، بل وأنشر فيها قبل وصولي إلى بيروت، وربما كانت ثورة الحداثة عربية شاسعة، وما حدث في مجلتي «شعر» و«الآداب» جزء من انفجار عربي أدبي حداثي.

مصادفة بيولوجية
* كيف كانت علاقتك القرائية والتقييمية بنتاجات الروائية اللبنانية الريادية ليلى بعلبكي، خاصة أن رموز شعراء مجلة «شعر» وقتها: يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وجبرا إبراهيم جبرا وعصام محفوظ تحمسوا لخطابها الإبداعي، نقدياً وإعلامياً؟
** وأنا أيضاً تحمست لروايتها الأولى «أنا أحيا»، وما زلت حتى اليوم أقوم بتحريضها على العودة إلى الكتابة بعد صمت طال. كما أحرّض «المحاربات القديمات» كلهن، وبينهن السورية كوليت خوري.
ومنذ فترة قصيرة وجهت النداء إليهن ليتابعن الكتابة وأسفت لأن ليلى بعلبكي توقفت من زمان عن نشر الكتب.
* ماذا تقولين في تجارب كاتبات عربيات حققن حضوراً إبداعياً متميزاً منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، أذكر منهن: هدى بركات، رشى الأمير، علوية صبح، إنعام كججي، وقبلهن حنان الشيخ على سبيل المثال لا الحصر؟.. هل مثلت نصوصهن ضيافة مستحقة على الإبداع السردي العربي الجديد؟
** أتابع كل ما يكتبنه من إبداعات متفاوتة القيمة. كما تابعت قبلاً إبداعات ذكورية.. ولا أدري لماذا تطرح عليّ أسئلة حول الكاتبات لا الأدباء (الذكور) أيضاً كالطيب صالح وعبد الرحمن منيف وحنا مينه وسواهم. ثمة مصادفة بيولوجية هي أنني أنثى، ولكن ليست للإبداع أعضاء ذكورة وأنوثة. ولا أجد مبرراً لدراسة الأدب الذي تكتبه المرأة بمعزل عن نهر الإبداع العربي الذي يضم ذكوراً وإناثاً.
وأنا أتابع الجميع، وكتابات المرأة العربية المبدعة صبّت في نهر الأدب وأغنته. وأعتقد أن مصطلح «الأدب النسائي» قد تم تجاوزه، حتى إذا افترضنا جدلاً أن الكثير من الروائيات يكتبن عن معاناة بطلة (امرأة). وماذا في ذلك؟ للكاتب، رجلاً كان أم امرأة، حق اختيار موضوعه الروائي شرط أن يرتقي به من المذكرات الذاتية الشخصية إلى الإبداع الفني الذي يبقى.
وما أكثر الذكور الذين أبدعوا وكانت بطلة الرواية امرأة، كرواية «مدام بوفاري» لفلوبير و«آنا كارنينا» لتولستوي وسواهما كثير.. ومن حق الأدب الذي تكتبه المرأة معاملته على النحو ذاته من دون تمييز «عنصري جنسي».
من طرفي، حين أطالع رواية أتجاوز اسم المؤلف وتاء التأنيث مثلاً في الاسم، وأطالعها على أنها عمل أدبي. ثمة أدب أو لا أدب، إبداع أو لا إبداع. بعض الذكور أيضاً يكتب على نحو رديء كبعض النساء، وأدب الذكور ليس قوّاماً على أدب تكتبه المرأة، وبالتالي لا أجد مبرراً لاصطلاحات من مثل «الأدب النسائي» بعد اليوم، فقد تجاوزه الزمن والحقيقة التاريخية الأدبية.

رهبة الكتابة
* عودة إلى عالمك السردي: من عادة الكتابة أن ترهب العقل والنفس، فأي توتر كتابي يرهبك عقلاً ونفساً في هذا الزمن؟
** قبل أن أبدأ الكتابة أشعر بالرهبة أمام الورقة البيضاء. وحين أبدأ الكتابة يأتي أبطال وبطلات رواياتي من الفضاء إلى الغرفة أو الطائرة (إذا كنت أكتب في طائرة) أو إلى القطار، وأينما كنت وأعيش معهم وأنسى رنين الهاتف وقرع جارة على بابي وأتجاوز مرحلة الرهبة إلى لحظة انسجام وتعاطف وتقمص لأبطال روايتي، ذكوراً كانوا أم نساء. وفي رواياتي الكثير من الأبطال الذكور العرب، فهم منجم من الماس والفحم، فلماذا لا تغرف أبجديتي منه؟
* أنت في أوروبا منذ زمن طويل.. ماذا قدمت لك أوروبا ككاتبة وإنسانة؟ هل عوضت عنك فقدان الوطن أو على الأقل السقوط في الحنين إليه، انطلاقاً من أن كل حنين هو هزيمة هادئة، لكنها ممضة للغاية؟
** لا أحاول التعويض عن فقد الوطن، لأنني لم أفقده، بل أفتقده. الحنين هزيمة هادئة كما تقول، وماذا في ذلك وكل هزيمة مشروع كتابي وكل جرح داخلي انتصار إضافي للأبجدية؟.
* سألت صديقي الشاعر الكبير أنسي الحاج مرة عنك، فأجاب بهذه الكلمات الموجزة: «غادة السمان زهرة أكثر غرابة. هي تمثل يد التكوين أحياناً»... ما تعليقك؟
** أنسي الحاج مبدع كبير في شعره وفي نثره.. ولطالما طاردت كتاباته في ملحق «النهار»، ثم في الصفحة الأخيرة من جريدة «الأخبار».
صحيح أنني أعيش في باريس، لكن العالم بالفعل صار قرية إعلامية صغيرة.

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©