الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رسائل «بليغ» السرية

رسائل «بليغ» السرية
7 سبتمبر 2016 21:49
في أحد الأيام سألتْ السيدة أم كلثوم بليغ حمدي ممازحةً إياه: «تعالى يا واد.. إيه؟ إنت صحيح عملتني كوبري علشان تبعت رسالة للبنت اللي بتحبها؟!».. هكذا سألت كوكب الشرق بليغ بعد أن وصلتها ما تهمس به العيون وتردده الألسن التي تقول إنه أضاف مقاطع في أغنية «بعيد عنك حياتي عذاب»، و«أنساك دا كلام أنساك يا سلام، أهو ده اللي مش ممكن أبداً»، قاصداً بها الفنانة الكبيرة وردة، وكان صوت أم كلثوم أفضل من يوصل رسالة بليغ إلى محبوبته دون أن تعلم! كتب النقاد عن بليغ يصفونه بأنه «ملحن الجمل المفيدة الجديدة المختصرة»، وقالوا: «لو كان للبرقيات لغة في الموسيقى لكانت ألحان بليغ حمدي هي تلك اللغة». كان بليغ «بيمشي يدلدق مزيكا»، ويتعامل معها باعتبارها حالة حب، لم يكن يهمه أن يسرق بعض الملحنين ألحانه أو يتأثروا ببعضها فتخرج في صورة ألحان كتبت عليها أسماؤهم، لكن كان همه الأول أن تصل رسالة المزيكا التي تحمل بصمته وعشقه إلى الجميع. هذه الحالة جعلت الموسيقى جزءاً منه، فصارت لغته التي يستخدمها ويوصل بها رسائله للجميع. كان بليغ يقوم في أوقات كثيرة بكتابة كلمات المقاطع الأولى أو مدخل الأغاني التي يشارك في تلحينها ويستكملها من بعده الشعراء، حتى إن وردة قالت «لا توجد أغنية بليغ لحنها لي إلا وشارك في كتابتها لكنه كان يرفض دائماً أن يكتب اسمه عليها». الحب الكبير قصة الحب الكبير الذي جمع بليغ ووردة، يمكن الاستدلال عليها من أغاني بليغ التي حمّلها رسائله. عندما رفض والدها طلب بليغ بالزواج منها، كتب مطلع أول أغنية لأجلها «وعملت إيه فينا السنين فرقتنا لا.. غيرتنا لا.. ولا دوبت فينا الحنين.. السنين». وأكمل بعدها صديقه الشاعر محمد حمزة الأغنية ولحنها بليغ الذي صار يدندنها على عوده بين أصدقائه وهم يعرفون أنه يقصد بها وردة، ورفض أن يعطيها لأحد على أمل أن يلتقي بها ثانية فتغنيها، وبعد أشهر قليلة من عودة وردة إلى مصر قامت بغنائها، وأصبحت «العيون السود» الأكثر طلباً فى الإذاعة، والأكثر مبيعاً، كما أصبحت ميثاق الحب بين بليغ ووردة. تم الزواج العام 1972 لتبدأ سلسلة من أجمل الأغاني التي صارت أفضل رسائل متبادلة بين العشاق، ولم تعد الرسائل غير مباشرة، وإنما صارت صريحة كما حدث في الكوبليه الثاني من الأغنية نفسها «كل غنوة ع الفرح كانت ع الجرح كانت ع الصبر كانت ع الحب كانت.. كتبتها وقلتها كانت عشانك». حتى في الخصام، كان الصلح يأتي برسالة من بليغ في أغنية. في إحدى المرات كانت وردة في الجزائر بعد خلاف حدث مع زوجها، وكانت أم كلثوم ستسافر إلى الجزائر لإقامة بعض الحفلات هناك، فطلب منها بليغ أن تغني أغنية «بعيد عنك حياتي عذاب» في أولى حفلاتها. ولم تفهم أم كلثوم سر هذا الإلحاح، وعندما عادت وعلمت بالأمر اكتشفت أن الأغنية كانت بمثابة رسالة غرام من بليغ إلى زوجته وردة. وجاء الانفصال بينهما، لكن الرسائل لم تنتهِ لكن تغير مرسال الغرام بينهما. كل لحن صنعه بليغ لميادة الحناوي كان رسالة غرامية مبطنة إلى وردة فجاءت أغاني: «أنا بعشقك»، و«الحب اللي كان»، و«مش عوايدك»، و«فاتت سنة» التي جاءت بعد سنة ليقول لوردة «فاتت سنة حتى الجواب منهم ما وصلش.. ماقدرشي أنا ع البعد ده أنا ما أقدرش»، حتى شادية حملت رسالة تحكي قصة العشق في أغنية «آه يا اسمراني اللون.. حبيبي يا اسمراني». الطير المهاجر لم تقتصر رسائل بليغ على العشق فقط، وإنما في مرحلة الغربة مثلاً بينما كان في باريس بعث برسالة جديدة في أغنية الطير المهاجر لنجاة وخاصة في مقطع «حبايبنا عاملين إيه في الغربة.. فرحانين ولاّ زعلانين.. مرتاحين ولاّ تعبانين»، الذي جمع فيه بين المتناقضين «الفرحانين والزعلانين.. المرتاحين والتعبانين» في نغمة واحدة وإحساس واحد مستحضراً روح المصريين الذين إذا فرحوا وضحكوا نزلت دموعهم قائلين «اللهم اجعله خير»، وفي عز أحزانهم يتغلبون على ذلك بالنكتة الساخرة. عفاف راضي أيضاً حملت رسالة مهمة عن الغربة، حيث تروي عن قصة حدثت معها قبل حفلة من حفلات أكتوبر التي كان الرئيس الأسبق مبارك سيحضرها، إذ اتصلت ببليغ في باريس وسألته عن أغنية وطنية، فقال لها: «رغم البعد عنك.. عمري ما هانسى إنك.. أمي وإني ابنك»، وكان بليغ هو كاتبها وملحنها. تقول عفاف: «شعرت عندما سمعت الأغنية أنها تصف بدقة حالة بليغ في الغربة، وإنه يوجه من خلالها رسالة إلى المسؤولين في مصر أن يهتموا بقضيته. وطلب بليغ مني ألا أذكر أنها من تأليفه إلا بعد الحفل وقررت أن أغني هذه الأغنية. ولما أذيعت وصلت رسالة بليغ حتى إن الموسيقار حلمي بكر قال لي: أنا بكيت لما سمعت الأغنية لأن بليغ عاملها بدمه». ولأن معشوقته الأولى هي مصر فكان لا بد أن يبعث برسائله إليها في أثناء حرب أكتوبر، لكن المفاجأة أنه لم تكن في خطة الإذاعة عمل أغان وطنية جديدة! فاتصل بليغ بالإعلامي وجدي الحكيم تليفونياً وهو ثائر: «يعني إيه مانعملش أغاني وطنية جديدة، أنا عايز أعمل حاجة لبلدي». رد عليه وجدي: «مش ممكن يا بليغ مش هنقدر نعمل حاجة جديدة حسب التعليمات لأن مفيش ميزانية». قال بليغ «إزاي. أنا هاتهمك بالخيانة. أنا هاجيلك الإذاعة». أبلغه وجدي الحكيم إن الأمن مانع حد يدخل قبل أن يجد اتصالاً من أمن مبنى التلفزيون يخبره إنه «الأستاذ بليغ ومدام وردة على الباب وعايزين يدخلوا لحضرتك». ونزل وجدي لاستقبالهم فوجد بليغ ثائراً ومصمماً أن يستدعي بوليس النجدة ليحرر محضراً بتهمة منعه من عمل أغان وطنية خاصة بحرب أكتوبر. ويروي وجدي: «حاولت امتصاص ثورته، واتصلت برئيس الإذاعة وقتها بابا شارو واستأذنته في دخول بليغ ووردة فأذن وصعدنا إلى مكتب بابا شارو الذي أكد لبليغ ما ذكرته من قبل إنه مفيش ميزانية، ومش هنقدر نعمل أغاني جديدة. فأخرج بليغ ورقة وقلماً وكتب: أتحمل أنا جميع المصاريف ومتنازل عن أجري وأجر وردة، وسأدفع فلوس المؤلف وجميع أجور الموسيقيين والكورال. ووقع بإمضائه. وأسقط في يد بابا شارو ولم يجد حلاً مع بليغ إلا أن يفتح له الاستديو وكان أول أغنية يسجلها «بسم الله»، وطلب بابا شارو أن يسمعها قبل إذاعتها، ذلك أنه لم تعد هناك لجنة استماع لتجيز الأغنية قبل إذاعتها، وأصبح بابا شارو هو اللجنة. وأعاد سماعها أربع مرات ثم قال لي: ماتعرفش الواد بليغ ده بيطلع الحاجات دي إزاي؟ وظل بليغ مقيماً بالإذاعة ليل نهار حتى يلحن ويسجل، وربما لأنه شعر أنه لو غادر المبنى فقد لا يستطيع أن يدخله من جديد، بل إنه كان يرسل من يشتري الطعام لكل أفراد الفرقة الموسيقية والكورال وكل الحاضرين من جيبه الخاص، واصل بليغ الليل بالنهار في تلك الأيام الخالدة، وغنت معه مصر كلها -ومازالت- «بسم الله» و«انا على الربابة باغني». وإذا بجميع الفنانين يتدفقون على الإذاعة طالبين المشاركة ويكتبون نفس الإقرار الذي كتبه بليغ». وأحياناً كانت الرسائل موسيقية، يقول بليغ: «في مشواري مع عبد الحليم حافظ أحب أن أتوقف عند أغنية «أي دمعة حزن لا»، وقتها كان ابتدا ناس تكتب في المزيكا وهي مش فاهمة حاجة. يعني واحد يقول لك الربع تون مقصور على التعبير المسرحي، أنا أردت أثبت جهلهم من خلال هذه الأغنية، فعملت مقدمتها من مقام السيكا لأبين أنه مقام يصلح أيضاً للتعبير المسرحي. يعني عبد الحليم وهو بيقول «أي دمعة حزن لا» كأنه بيؤدي مسرحية.. كأنه موقف في مسرحية. أنا اعتبرتها كدة ساعة ما بدأت ألحنها وقدمتها للناس بالصورة المسرحية دي.. أكتر واحد أحس بما قصدته من هذه الأغنية هو المرحوم الشاعر عبد الحليم نويرة، كلمني وقالي لي: «بليغ.. إيه اللي انت عامله في الأغنية دي؟ إنت عايز تقول إيه؟»، قلت له: «عايز أقول مسرح»، قال لي: «آه أنا حسيت بكدة!». أما أغنية «والنبي وحشتنا» لشادية، فكانت رسالة إلى بليغ حمدي وليست منه، فعندما عاد ذات مرة من رحلة سفر طويلة في الخارج جرت إليه خادمته، وهي سيدة عجوز كانت تقوم برعايته، وقالت له بكل طيبة قلب «يا بليغ يا ابني.. والنبي وحشتنا وانت غايب عنا.. دا احنا من غيرك ولا حاجة»، وبحسه الموسيقي التقط بليغ الجملة التي تصلح مطلعاً لأغنية، وكتبها على ورقة، ثم اتصل بصديقه الشاعر سيد مرسي طالباً منه أن يصوغها في أغنية فكانت «والنبي وحشتنا.. في غيابك عننا. دا احنا من غيرك ولا حاجة.. وناقصنا كام مليون حاجة». ......................................... * نانسي حبيب: كاتبة وناقدة فنية مصرية، أشرفت على القسم الفني في جريدة التحرير المصرية، وشغلت منصب سكرتير التحرير، حالياً تعمل مساعدة مدير النشر العام في دار الشروق. رسالة لم تصل كان بليغ يرسل رسائل عبر الأغاني التي يكتبها أو يلحنها، لكن هناك رسالة عن الوحدة الوطنية لكنها لم تصل، يرويها الكاتب الصحفي أيمن الحكيم في كتابه «موال الشجن»، إنه أثناء وجود بليغ في باريس سمع وقرأ عن فتنة طائفية في مصر. يومها ثار وغضب وهاج وماج لأنه لم يتصور أبداً أن يحدث يوماً شرخاً في علاقة مسلمي مصر وأقباطها، وهو ابن شبرا الذي عاش فيها سنيناً لم يشعر خلالها بأي فرق بين مسلم وقبطي، وتشكل جزءفي وجدانه بالموسيقى والتراتيل الكنسية، وكان يرى فيها موسيقى مصرية صوفية أصيلة. ومن هذا الغضب ولدت أغنية كتب بليغ كلماتها وانتهى من تلحينها في ساعات. تقول كلماتها «مسلم أو قبطي في بلادي.. أجدادهم ويا أجدادي. في مصر مولودين.. وفي مصر مدفونين.. من آلاف السنين.. النهارده عيد مين.. مسلمين؟ النهارده عيد مين.. مسيحيين؟ النهارده اسمه عيد المصريين». ووضع بليغ لحناً شجياً أسند توزيعه إلى ميشيل المصري، وأرسل نوت الأغنية واللحن مسجلاً على شريط كاسيت إلى إيمان الطوخي، فقد رأى أنها الأجدر عليه إحساساً والأجدر به صوتاً وأداء. وحاولت إيمان الطوخي أن تحصل على تصريح من الرقابة بكلمات الأغنية، ولكنها فوجئت بالرفض! وتناسى الجميع بعدها الأغنية التي كتبها ولحنها بليغ في ليلة غربة ونوبة غضب وحملت رسالة ثأر لكرامة الوحدة الوطنية. بودع الدنيا معك آخر رسائله كتبها ولحنها في باريس ليودع بها الجميع، الوطن والحبيبة والدنيا، وكانت آخر ما غنته وردة لبليغ: «بودعك.. بودع الدنيا معك. قتلتني.. جرحتني.. وغفرت لك قسوتك. بودعك من غير سلام ولا كلام. ولا كلمة مني تجرحك».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©