الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ارنستو ساباتو».. ضد العمى الأخلاقي

«ارنستو ساباتو».. ضد العمى الأخلاقي
4 مايو 2011 19:23
قبل عامين تحول الاحتفال الذي أقامته جامعة “كارلوس الثالث” الإسبانية لتكريم الكاتب والروائي الأرجنتيني “أرنستو ساباتو” إلى مظاهرة كبرى لتأييد الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل التحرر وإدانة الأعمال الوحشية التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تلك الأعمال التي وصفها الكاتب نفسه خلال كلمته بأنها “جرائم أبشع من تلك التي يقول اليهود أنهم تعرضوا لها”، وعبر عن “رعبه وتخوفه واستيائه” إزاء ما حدث في جنين من مذابح نقلتها وسائل الإعلام دون أن تجد تلك المذابح ردود فعل تذكر من جانب السياسيين أو المثقفين في أوروبا لوقف عمليات القتل الجماعي التي تمارسها القوات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل. يستعيد المرء هذا الموقف “الساباتوي” إن جازت العبارة مع شعور ممضّ بالحزن وبالأسى الشديد لفقدان رجل من طراز نادر، فالكاتب والمثقف الأرجنتيني إرنستو ساباتو، الذي رحل عن العالم في آخر أيام أبريل “نيسان” الماضي، ليس أحد أكثر كتاب الأرجنتين المعاصرين تأثيراً وشهرة وحسب، بل مدافعاً شرساً عن حقوق الإنسان ومنافحاً عن الحق والعدالة. يومها، أعني يوم التكريم، قال ساباتو: “طوال حياتي لم أغيّر موقفي تجاه المعاناة التي لاقاها اليهود على أيدي النازي، وان كان الأمر يبدو شاذاً، فإنني اشعر بالتقزز العميق تجاه المذابح التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الآن على أيدي اليهود، وأعلن استعدادي للنضال والعمل على إنهاء تلك المذابح”. هذا الموقف الأخلاقي تجاه ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليس غريباً على الكاتب والروائي والمفكر الأرجنتيني “ارنستو ساباتو” (من مواليد عام 1911) فقد وقف مثل هذا الموقف من قبل في بلاده خلال الحكم العسكري الذي خلف من ورائه عشرات الآلاف من الموتى والمختفين، وهو ما دفع الحكومة الديمقراطية التي قامت بعد سقوط تلك الدكتاتورية العسكرية إلى تعيينه رئيساً للجنة حقوق الإنسان التي حققت في تلك الجرائم التي ارتكبها العسكر، وكان تقرير تلك اللجنة الصادر عام 1984 يحمل توقيعه تحت عنوان “أبداً لن يحدث بعد ذلك” حكماً قاطعاً وإدانة ورفضاً لتلك الجرائم السياسية، وإدانة لأي جرائم أخرى مماثلة يمكن أن تحدث في أي مكان في العالم. تأثيرات وجودية يعتبر “ارنستو ساباتو” أحد أفضل من يمثلون الكتابة الوجودية كتيار فني في الإبداع الأميركي اللاتيني. وأهم موضوعات كتاباته تدور حول “العمى الأخلاقي” الذي أصبح يسيطر على الطبقة المثقفة والسياسية، ويرى أن هذا العمى الأخلاقي السبب الرئيسي الذي يكمن وراء كل الكوارث البشرية التي يعانيها الإنسان في عالمنا المعاصر، من هنا يمكننا أن نقول إن الكاتب الأرجنتيني يعتبر ممثلاً للكاتب المتناقض مع نفسه، والذي دائماً ما يطرح في كتاباته أسئلة مقلقة، ويميل إلى النقد الحاد والمتمرد الذي كثيراً ما يصل به إلى حد الشك في عدالة قضاياه التي يعتنقها ويتحمل المعاناة من أجلها، وربما من أهم ملامح كتابته الجمل الاستطرادية والساخرة، إلا أنها سخرية سوداء، وتكاد تكون العامل المشترك في جميع كتاباته النثرية أو الروائية، ويسيطر على فكره بالطبع قضايا بلاده الأرجنتين التي ازدادت حدة خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات التي سيطرت فيها البيرونية (نسبة إلى الجنرال بيرون) التي عاشها في شبابه، وبعد ذلك ازدادت حدة في السنوات الأخيرة مما دفعه إلى العديد من الدراسات لمناقشة أزمة الحضارات المعاصرة. النفق بعد ثلاث سنوات من إصدار كتابه الأول صدرت روايته الشهيرة “النفق” التي تكاد تعتبر أول رواية وجودية في أدب أمريكا اللاتينية، ولا يسبقها عالمياً في هذا المجال سوى “الغثيان” لـ”سارتر” التي صدرت عام 1938، و”الغريب” لـ”كامو” التي صدرت عام 1946، وبالطبع كان لهذين العملين تأثيرهما على رواية “ارنستو ساباتو” الأولى. في رواية “النفق” يبدأ الراوي- البطل حكايته بجملة مرعبة: (يكفي أن أقول أنني “خوان بابلو كاستيل” الرسام الذي قتل “ماريا ايريبارني”)، فالجريمة التي تحكي الرواية قصتها جريمة عبثية لأن القاتل يحب القتيلة وقتلها ليجرب فقط ممارسته لعملية القتل، أو يجرب موقفه من حبه للقتيلة، وخلال القراءة يجد القارئ نفسه أمام عدة مستويات: الرواية تروي جريمة عاطفية لقاتل يحب القتيلة حتى الجنون، مما يجعلها أقرب إلى الروايات البوليسية مكتوبة بالعكس، أي الكاتب يكشف عن عقدتها منذ البداية، لكنه يشد القارئ إليه ليتعرف على تفاصيل الجريمة حتى النهاية، لأنه في الحقيقة يصف دواخل الإنسان العاشق المعذب باليأس الذي يوجد في نفق لا بداية له ولا نهاية. المستوى الثاني يكمن في اكتشاف عقدة أقرب إلى عقدة “أوديب”، فالقاتل يحاول أن يقدم لنا فعل قتل المرأة التي يحبها كما لو كان يقتل أمه هو شخصياً، أو يقتل نفسه بشكل أو آخر، ويمكن اكتشاف رموز الرواية من خلال كلمات مثل “كاستيل” اسم البطل “الذي يعني القلعة أو السجن” في الرواية، و”ماريا” هي المرأة الأم، وغيرها من الرموز التي يكتشفها القارئ خلال مطالعته للرواية. القراءة الثالثة التي يمكن التوصل إليها من خلال الأحداث ووصفها الاستطرادي الذي تسيطر عليه “السخرية السوداء”، أن الكاتب يتعامل مع العالم من منظار سوداوي، ويستخدم حدث الجريمة ليطرح أسئلة وجودية تسيطر على عقله، فالعقدة هنا افتقاد البطل لمبادئ أخلاقية ثابتة، بل يبحث عن مبادئ جديدة لأن المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها الحضارة المعاصرة تحللت وانتهت إلى أزمة لا حل لها، السخرية التي يكتب من خلالها “ارنستو ساباتو” في هذه الرواية وغيرها من أعماله الأخرى أقرب إلى سخرية “بورخيس” الكاتب الأرجنتيني الأشهر، وان بعض النقاد يقولون إن هذا النوع من السخرية يعتبر حالة شائعة بين الكتاب الأرجنتينيين المولودين في العاصمة “بوينس ايريس”. المقابر بعد رواية “النفق” نشر “ارنستو ساباتو” رواية بعنوان “عن الأبطال والمقابر” التي تعتبر أكثر تعقيداً، ويرى النقاد أنها أهم الروايات التي تمثل هذا الاتجاه الوجودي في الكتاب بين روائيي أمريكا اللاتينية، وخلال هذه الرواية يبرز هم الكاتب في البحث عن المطلق من خلال قصة شهوانية، وهو ما يجعل تركيبها أقرب إلى التركيب الفني عند “كافكا”، والغريب هو تكرار أسماء بعض أبطال روايته الأولى، وان كانت هذه المرة الأسماء “مأسبنة” (أي تحمل أسماء إسبانية بدلا من الإسبانية المأخوذة من كلمات إنجليزية) حيث نجد اسم “كاستيل” الذي يعني بالإنجليزية “قلعة” يتحول إلى “كاستيو” الذي يؤدي المعنى نفسه في اللغة الإسبانية، البطل مثقف ينتمي إلى الطبقة الوسطى، فيما عشيقته “اليخاندرا” تنتمي إلى الأرستقراطية التي بدأت تسير في طريق الزوال، والعلاقة بين العاشقين علاقة “تدميرية” تشبه العلاقة بين البطل وأمه أيضاً في هذه الرواية. لكن هذه العلاقة العاطفية لا تمثل سوى جزء من الأحداث المتشابكة التي يحيكها “ارنستو ساباتو” في رواية “عن الأبطال والمقابر”، فهي تحوي أحداثاً تحاول أن تربط حياة أبطال الرواية بتاريخ الأرجنتين/ الوطن الذي كان يعيش لحظة حرجه ما بين التخلف ومحاولة اللحاق بركب التحديث بعد مرور “الجنرال بيرون” بالحكم في فترته الأولى التي انتهت بانقلاب عسكري عام 1955 أدى إلى طرده إلى المنفى، وأحداث الرواية كانت معاصرة أيضاً لأحداث الثورة الكوبية. في الجريمة التي تعرضها رواية “عن الأبطال والمقابر” نجد أن البطلة “اليخاندرا” تقتل والدها ثم تقوم بإشعال النار في بيت الأسرة، وتنتحر بعد ذلك، وهي أحداث يكتشفها القارئ منذ البداية تماماً كما في رواية “النفق”، ولكننا نتعرف على الأحداث هذه المرة من خلال الرواية التي يطرحها البوليس لرؤيته للأحداث. في رواية “عبدون” يظهر في العمل الروائي كأحد أبطاله، ويحمل اسمه الحقيقي “ساباتو” الذي يواجه شخصياته الخيالية، ويدخل معها في حوارات، يحاور نفسه أيضاً كنوع من الكشف عن قناعاته ورؤاه التي تسيطر عليه. هذه الرواية تنطلق أيضاً من حدث واقعي وهو موت المناضل اليساري “التشي جيفارا”، ذلك الحدث الذي يعتبره الكاتب من خلال الرواية، إشارة إلى الأزمة التي وصلت إليها الحضارة الغربية، والكاتب من خلال هذه الرواية يريد أن يترك شهادته، شهادة مثقف يعيش هذا العصر لتحديد موقفه، وهذا يجعل هذه الرواية -حسب النقاد- أقرب إلى منشور سياسي هدفه إعلان الموقف. في حياته الممتدة الطويلة، مزج “ارنستو ساباتو” في كتاباته ما بين الدراسات والبحوث والإبداع الروائي، وان كانت الدراسات التي أنجزها أكثر بكثير من إبداعه في الرواية، حيث تنوعت أعماله في هذا المجال ما بين فلسفة الجمال والأخلاق والأيدلوجيا والسياسة والفن، وهذا جعل تلك الكتابات مثيرة لأنها تطرح أسئلة كبرى وتقدم إجابات كبرى تثير المطلعين عليها، حتى قيل أنه “لا يكتب بل يصنع أعداء”، تماماً كما صنع أعداء من بين زملائه المبدعين الذين ارتبط بهم جيلياً في مجلة “جنوب SUR” التي كانت تصدر في “بوينوس ايريس” وكان يرأس تحريرها “بورخيس”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©