الأربعاء 22 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ريلكه: تلك بذورك المشعّة والمتوهّجة

ريلكه: تلك بذورك المشعّة والمتوهّجة
23 يناير 2020 00:53

ترجمة: أحمد حميدة

صانع القوالب الذي كنت أمرّ أمام دكّانه كلّ يوم، علّق أمام باب الدكّان قناعين. كان القناع الأوّل لوجه الفتاة الغريقة، شُكّل في المشرحة لأنّه كان رائعا، ولأنّه كان يبتسم بطريقة خادعة تومئ إلى أنّه كان يَعرِف، وبأسفله الوجه الآخر الذي يعَرِفُ حقيقة: تلك العقدة الصّلبة من الأحاسيس المتوتّرة التي كانت بحاجة إلى من يقطعها، ذلك التّكثّف القاسي لموسيقيٍّ كان لا ينفكّ يحاول الانفلات. إنّه وجه ذلك الذي أغلق القدر مسمعه حتّى لا تكون هناك أصوات أخرى خارج أصواته هو، وحتّى لا تضلّله الأصوات العابرة والمربكة، وهو الذي كان يمتلئ بصفاء تلك الأصوات وبآمادها: وحتّى تكون الحواسّ العاجزة عن التقاط الصّوت هي وحدها التي تعيد العالم إليه دون ضجيج، عالم معلّق في حال الترقّب، غير مكتمل، في زمن ما قبل انبثاق الصّوت.

مُنهِي العالم!.. فكما الأمطار المتساقطة على الأرض، والمياه التي تتجمّع مصادفة.. ثمّ تنهض من كلّ مكان بطريقة غير مرئيّة، سعيدة بالاستجابة لقانونها الفيزيائيّ، فتصعد وتطفو لتشكّل السّماء: كذلك ارتفعت من خارجك في مراقي انحدارنا وسقوطنا، لتنبثق تلك الموسيقى السّاحرة التي أسرت العالم.

موسيقاك: كان ولا بدّ أن تطوف حول الكون لا حولنا نحن. كنّا سنشيد لك أرغنٌ في وطن السّكينة، ليأتي ملاك ويحملك أمام الآلة المتوحّدة ما بين جبال الصّحراء حيث يرقد ملوك وأميرات ونسّاك، ولكنّه فجأة.. سيطير مخافة أن تبدأ بالعزف.

وعندها كنت ستنتشر كالنّهر طافيا في الفراغ، معيدا إلى الكون ما يقدر الكون وحده على تحمّله. وبعيدا.. سيكون البدو قد لاذوا بالفرار على صهوات جيادهم مرعوبين من أصوات قوى غيبيّة، فيما سيلقي التجّار بأنفسهم على الأرض عند تخوم موسيقاك التي ستأخذهم أخذ عاصفة هوجاء، وحدها بعض الأسود ستأتي ليلا لتتجوّل حولك بعيدا وخلسة، مذعورة من نفسها، مهدّدة بالدّم العاصف فيها.

فمن سيجتثّك بعد ذلك من تلك الآذان النّهمة؟ من سيطرد خارج قاعات العزف ذوي الأسماع العقيمة؟ تلك بذرورك المشعّة والمتوهّجة، وهم يقفون دونها مثل البنات، يلهون معهنّ، أو يتركوهنّ، ثمّ ينامون تغشاهم الطّمأنينة.

ولكن يا مولاي، إذا أقبل عليك إنسان عفيف بآذان عذراء وتمدّد فوق صوتك، فإنّه حتما سيموت غبطة، أو سيتبدّى الأبد في خياله، ودماغه المخصّب سوف ينفجر من فرط عسر الولادة.

الشاعر الألماني
راينر ماريا ريلكه
(1875 - 1926)

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©