الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سحر البطولات البتهوفينيّة

سحر البطولات البتهوفينيّة
23 يناير 2020 00:53

للشّاعر الفرنسي: جيل براسنيتزار
ترجمة أحمد حميدة

بعيداً عن الحديث المملّ والمنمّط عن أساليب بيتهوفن في التّأليف، والذي يجعل منه الوجه الأسطوريّ للرّجل الثّائر في الحركة الرّومانسيّة بصفة عامّة، ينبغي لنا أن نتمثّل تلك الكارثة الباطنيّة التي حلّت ببتهوفن سنة 1802 وما تلاها من محاولة انتحار. فبيتهوفن الذي بلغ سنّ الثانية والثلاثين، لم يعد ليسعفه السّحر الذي كان يمارسه على الطّبقة الأرستوقراطيّة بفيينّا، بفضل موهبته الفارقة في الارتجال وفي العزف على البيانو، إذ لم تتبقّ له سوى مؤهّلاته كمؤلّف موسيقيّ.

إنّ الصّمم الذي بالكاد استشعره منذ 1796، انهال عليه بشدّة، مع ما يعنيه ذلك من انقطاع عن العالم ومن جفاء الآخرين له. لقد باتت بعيدة أيّام التأنّق في المحافل الرّسميّة، وانقطع ذلك الرّابط - الأبويّ والاستحواذيّ في آن – الذي كان يشدّه للصّديق هايدن ولصيغ السّيمفونيّات التي أبدعها، والتي كان يعتبرها هايدن كمالاً لا يمكن خرقه أو تجاوزه، لقد انتهت الدّروس وانتهى الحضور الباذخ في الأكاديميّات، ولم يتبقّ لبيتهوفن بعد السّيطرة على تلك المحنة المفجعة، غير حريّته، إرادة المحارب، وحاجته الجامحة إلى خرق القواعد، خرق آداب السّلوك الزّائف، والقواعد الممجوجة للتّاليف، فصممه وإن كان قد جعله يركن إلى دروبه الدّاخليّة، فقد جعله يتحرّر من الأصوات الرّسميّة، ليتحوّل إلى بروميثيوس الموسيقا، يسعى إلى سرقة الشّرارة، وليمنح الإنسانيّة الطّمأنينة وإرادة التحدّي في مواجهة القدر، لذلك لن يتوقّف عن خلق بلاغة موسيقيّة جديدة، أو ما يشبه المبادئ الأخلاقيّة المتشدّدة التي تسمح باستشعار الخطيئة الجاثمة هنا وهناك في العالم، والتي يمكن صدّها بذلك الجوهر المطلق الذي تنطوي عليه موسيقاه المتوهّجة. لذلك بات حريصاً على تضميد جراح الإنسانيّة، ويعمل كحرفيّ مجرّب، لبنة فلبنة، نغمة فنغمة، لصياغة تآليفه، دون اعتبار لجماليّة اللّحن، طالما أنّ الحافز يستجيب للهندسة الكليّة لهذه التّآليف.

العنفوان البدائي
كان بيتهوفن متمرّداً أكثر من كونه جمهوريّاً، مشحوناً بحقد شرس وبحسّ إنسانيّ عميق، صارخاً كشامان انكشفت أمامه أسرار العوالم الأخرى، بل كان هو العنف ذاته، هديره الدّاخليّ والخارجيّ، ومن هنا كانت إيقاعاته الصّارمة.. العنيدة، التي أضفت على موسيقاه ذلك العنفوان البدائي السّاحر الذي لا يزال يهزّنا إلى غاية اليوم، سيكون الحمّى ذاتها، وبرأسه الكبيرة كان بوسعه أن يلعن دون تحفّظ فساد معاصريه، سواء أكانوا أم لم يكونوا من عليّة القوم، أو من ذوي السّلطان والنّفوذ.
لقد آن الأوان الآن – بعد أن تبدّت لنا ملامح أسد الموسيقا هذا – كي نتبيّن سبب افتتانه بالأبطال، كان بيتهوفن بكلّ بساطة يتوق إلى الخلاص من وضعيّة الخادم - وضعيّة كان يتردّى فيها كلّ الموسيقيين – ليسموَ بنفسه إلى مرتبة الأبطال، فكان يرى بأنّ هذا العالم المائع والقابل للتمدّد ينبغي أن يحرث، أن يصوّب مجراه وأن يتغيّر. ففي تفكيره ثمّة منطق عسكري، وهو الذي عرف عن كثب الحروب الأوروبيّة، وعاش حالات الحصار، وألّف الأناشيد الوطنيّة، لقد كان شديد الانبهار بفكرة «البطل الأسطوري» الذي يذهب إلى ساحات القتال متحدّياً الموت، لينتصر للحقيقة التي يحملها، وإن تطلّب ذلك إدخالها بالقوّة في أذهان الذّاهلين عنها.
ما بين محنة الصّمم المروّعة ومناخ تلك الحروب المزمنة، حروب نابليون في جميع أنحاء أوروبا.. سيتغيّر بيتهوفن، فعشرون سنة من الحرب ستتيح له الوقت لمراجعة تفكيره وإعادة النّظر في مُثُله. لقد توارت مُثُل قرن التّنوير، بما تحمله من أفكار أنيقة ومفهوم للشّراكة وإرادة الخروج من أسر الظّلاميّة، وأضحى بيتهوفن ينشد بعد ذلك القيم المتعالية والقويّة التي لا مكان فيها للإدراك العقلي و«الفكر المستنير».
يهيم بيتهوفن في ساحات القتال، فيرى بأنّ عظمته من عظمة الأبطال، ومن هنا تتبدّى علاقته بنابليون الذي أضحى بونابرت (إمبراطور) بعد ذلك. كان يعشق كأغلب المثقّفين الشبّان الحالمين بتغيير العالم (غوته، هاينه...)، هذا الملاك المبيد الذي جاء لفرض أفكار ومُثُل 1789 الثوريّة، وتخليص الشّعب من ربقة العبوديّة. لقد كان ينظر إلى بونابرت على أنّه المثال – الرّمز، والمخلّص الذي سيفرض الأفكار الجديدة ويطرد كلّ الطّغاة المتوّجين، الذين عاثوا فساداً في أوروبا بأكملها، بدا هذا النّسر الصّاعق المجسّد للبطل وكأنّه مبعوث أرسل ليطيح بهذا العالم القديم المفكّك والمفتّت، والذي لا يعترف بالفنّانين كبيتهوفن على أنّهم مساوون للملوك والأمراء، وصورة الشابّ بونابرت، ملاك النّقاء الذي لا يرحم، ستعشّش في مخيّلة بيتهوفن حتّى بعد «خيانة» هذا الأخير، أي عندما سيعلن نابليون نفسه إمبراطوراً.
لذلك كانت السّمفونيّة الثالثة «إيرويكا» مهداة إلى نابليون. ولئن كان بيتهوفن مقتّراً في استخدام الافتتاحيّات، فقد أقدم بكليّته على صياغة الموسيقا المشهديّة لـ «كوريولان» لما تنطوي عليه من أبعاد ملحميّة متجذّرة في الميثولوجيا القديمة. وبعد هذه السّمفونيّة الثالثة، لن تكون السّمفونيّة الغربيّة، كما كانت من قبل.

افتتاحيّة كوريولان
إنّ أغلب افتتاحيّات بيتهوفن هي عروض أوبراليّة دراميّة مصغّرة، ستسفر لاحقاً عن بروز ما سيعرف بالقصيد السّيمفوني. فأكثر من «ليونور» و«فيداليو» أو «إغمونت» ستشكّل هذه الافتتاحيّة من تسع دقائق، اختزالاً آسراً «للبطولة البتهوفينيّة»، فكرة عارمة ستتدفّق لتقبض على السّامع من حنجرته، والإيقاع الطّارق الذي يرتّل هذا العمل سيجعل منه الأخت التّوأم، لما ستكون عليه السّيمفونيّة الخامسة، حالة من التوتّر اللاّهث والمتدفّق، الموجع أحياناً، خاصّة في الجزء الأوسط من هذا العمل الذي تتخلّله إشراقات كبرى تتنزّل كدقّات المطرقة على الموضوع الموالي، المترع بنفس شعريّ ريفيّ، ويجعل من هذه الجوهرة عملاً مرعباً. ويزداد بعد ذلك هذا التوتّر ليتحوّل إلى توعّك، فإذا بالموسيقا تحاصرك وتطلق عليك النّار، فتنبثق من هديرها الحياة الحقّة، بمقاطع مغنّاة تطفو على فيض من إيقاعات آلات الكمان السّريعة واللاّذعة، تتخلّلها لحظات صمت وسكون مهيب. أمّا الخاتمة فهي أشبه بالمارش الجنائزي، ينتهي بنغمات مؤتلفة ومتكرّرة ثمّ تتوقّف عن النّبض كما قلب البطل.
إنّ هذه الافتتاحيّة تبدو أقرب إلى الضّربات الصّارمة والصّاخبة والحاسمة منها.. إلى الاحتفاء، ومع ذلك فهي احتفاء، لا بمسرحيّة لشكسبير، ولكن بذاك الرّجل الغامض، هينريش-جوزيف فون كولّين، إنّها تسرد سيرة ذاك الجنرال ومآثره البطوليّة، «كوروليان»، الذي يذكّرنا بشخصيّات كُرنايْ، والذي يُقبل على الموت في سبيل رفعة الوطن.
إنّه موضوع ذو أبعاد وعظيّة، ولكنّه كان كفيلاً بإلهام القيثارة البطوليّة لبيتهوفن، ومن المدهش حقيقة أن تأتي موسيقا الاحتفاء هذه، آسرة ومنبثقة كنيزك مكتنز ومشحون بالغضب.

الذّكاء الاصطناعي هل يؤلف السّيمفونيّة العاشرة؟!
لقد ووري بيتهوفن التّراب يوم 26 مارس 1827، في سنّ السّابعة والخمسين، وذلك قبل أن يتمّ تأليف سيمفونيّته العاشرة. والحال أنّ هذا الموسيقيّ الفذّ لم يخطّ بصددها في الحقيقة، غير بعض الملاحظات المختصرة في دفتره، وهو لا يزال على قيد الحياة. ويحاول فريق من علماء الموسيقا والمعلوماتييّن اليوم.. التّمديد في عمر هذه السّمفونيّة بفضل مكتسبات الذّكاء الاصطناعي.. ليُكشف النّقاب عن نتائج تلك الأعمال يوم 28 أبريل 2020 بمدينة بون، وليشكّل ذلك حدثاً بارزاً إبّان الاحتفال بالذّكرى المائتين والخمسين لولادة هذا الموسيقيّ. ويثير هذا المشروع من الآن الكثير من الفضول لدى عشّاق موسيقا بيتهوفن، والكثير من المخاوف لدى المتيّمين بإرثه الموسيقيّ.
كان بيتهوفن قد شرع في الاشتغال على تلك السّيمفونيّة بشكل مواز، لاشتغاله على السّيمفونيّة التّاسعة الذّائعة الصّيت، وعلى «نشيد الفرح» الذي حظي بشهرة عالميّة. غير أنّه سرعان ما ترك هذه السّيمفونيّة، قبل وفاته، لتتبقّى منها فحسب بعض الملاحظات، بعض الخطوط العريضة والتّخطيطات المدوّنة.
وتحاول فرقة الباحثين التي أشرنا إليها آنفاً، بثّ عمر جديد في هذه السّمفونيّة، اعتماداً على برنامج تدريب آليّ، برنامج يولّد عبر خوارزميّات معالجة الكلام، محاولات لإثراء وتمديد التّوزيع الموسيقيّ. وما أشبه صورة بيتهوفن بمثل هذه التّكنولوجيا «الرّؤيويّة»!
انطلق هذا المشروع بمبادرة من «دوتش تيليكوم»، المنتصبة ببون، مسقط رأس بيتهوفن. وتروم هذه المؤسسة استثمار هذا العمل لتطوير تكنولوجيّاتها الخاصّة في ميدان الاتّصال، وتحديداً في مجال الاستكشاف الصّوتيّ.
فكما اللّغة، تتشكّل الموسيقا من وحدات صغيرة- حروف أو نغمات - متى جمّعت، غداً لها معنى. وحين كان فريق الباحثين يجتمع، كان يقوم بأداء النّغمات التي كتبها بيتهوفن للسّمفونيّة العاشرة، ليتولّى الذّكاء الصّناعي أداء البقيّة. ومنذ أشهر، تمّ الكشف عن النّتائج الأولى لهذه التّجربة، فرأى الكثيرون أنّها جاءت ميكانيكيّة النّسق، تكراريّة ورتيبة، ولكن.. يبدو أنّ المحاولات الأخيرة كانت أكثر وضوحاً.
وترى كريستين سيغيرت، مديرة قسم الأرشيف في مركز البحث المقام في منزل بيتهوفن ببون، أنّ الاختبارات الأولى كانت مدهشة، وإن بدا الحاسوب بحاجة إلى مزيد التعلّم. ووفقاً لآراء هذه الأخصّائيّة في موسيقا بيتهوفن، ليس ثمّة من احتمال في أن تتسبّب تلك الاختبارات في تشويه موسيقا هذا الأخير، طالما أنّ ما يتمّ إبداعه لا يمثّل سوى جزء من عمل بيتهوفن، وأنّ المقاطع في السّيمفونيّة العاشرة، ليست غير سياقات محدودة للاشتغال على تلك الموسيقا. وكريستين سيغيرت على قناعة بأّنّ بيتهوفن، المؤلّف الموسيقيّ، لا يمكن أن يستنكر هذا الشّكل من الاختبار، لأنّ بيتهوفن في زمنه كان هو الآخر رؤيويّاً، وأنّه قام بتأليف موسيقيّ للـ «بنهامونيكوم»، وهي آلة موسيقيّة ميكانيكيّة تمّت صناعتها في بداية القرن التّاسع عشر على أيدي نيبوموك منزال، وكانت قادرة على محاكاة أصوات أربعين آلة نفخ.

خطر التّشويه
وكان العالم والمؤلّف الموسيقيّ البريطانيّ بارّي كوبير قد حاول هو الآخر استكمال الحركات الأولى من السّيمفونيّة العاشرة، ولكنّه ظلّ مرتاباً من نجاحها. ويقول بارّي كوبير بصدد ما توصّل إليه بحثه: «لقد استمعت إلى مقطع صغير، فتبيّن لي أنّ إعادة بنائه لم تكن مقنعة، قياساً لما كان يريده بيتهوفن، حتّى وإن أخذنا بعين الاعتبار النّغم المحوْسب، وغياب كلّ تباين بين الأصوات الجهيرة والأصوات النّاعمة. ولكنّه كان يعتقد في إمكانيّة تحسين ذلك الأداء.
ويرى هذا الأستاذ بجامعة مانشيستر، والمؤلّف لعديد الكتب عن بيتهوفن، أنّه في كلّ تأويل لموسيقا هذا الأخير، يكون المرء مجازفاً بتشويه روح الموسيقي ومقاصد المؤلّف. وفي مثال الحال، تكون المجازفة أكبر، بالنّظر إلى أنّه لا وجود من السّيمفونيّة العاشرة لغير مسودّة مختزلة ومحتشمة.
وقد سبق أن أقدمت شركة «هواوي» الصّينيّة في بداية 2019 على استكمال سيمفونيّة لفرانز شوبيرت، وقام أوركيستر لندن السّمفوني بأداء نصّ موسيقيّ تمّ تأليفه لهذا الغرض، بوساطة برنامج تعلّم آليّ، وأجمعت الصّحافة العالميّة حينها على أنّ موسيقا المقاطع المفقودة كانت أشبه ما تكون بموسيقا تصويريّة لفيلم أميركيّ، وأبعد ما تكون عن أسلوب المؤلّف النّمساوي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©