الأربعاء 22 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بيتهوفن.. الموغل في إنسانيّته

بيتهوفن.. الموغل في إنسانيّته
23 يناير 2020 00:53

بقلم جون بونّور
ترجمة أحمد حميدة

غالباً ما تتوفّق الأسطورة في دحر التّاريخ، فيكون تجذّرها في مخيال النّاس دوماً.. علامة على الانتصار الأسمى للفنّ. هذا ما نقرأه في كتاب إيمّانوال بوانزود عن بيتهوفن، الصّادر سنة 1836. وملفّ بيتهوفن الذي يعاد فتحه باستمرار منذ رحيله، ما آنفكّ يرسّخ في الأذهان تلك الصورة الأسطوريّة عنه، ألا وهي صورة مؤلّف موسيقيّ فذّ، وفنّان عبقريّ نسيج وحده، مضى سادرا بفنّه إلى ذرى سامقة لم يدركها غير القليل ممّن حلّقوا عاليا في فضاء الإبداع.
كان بيتهوفن قد تحوّل، وهو لا يزال حيّا يرزق، إلى ما قد نسمّيه اليوم بالمؤلّف الموسيقيّ «الأسطورة». ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان هذا الفنّان الذي قدّمته الأسطورة إنسانا بائسا ومتوحّدا، ليرافَق إلى مثواه الأخير بحشد من المشيّعين قُدّر يومذاك بعشرين ألفا من عشّاق موسيقاه، حتّى أنّ الشّاعر غريي بارزار رأى فيه حينها «الإنسان.. الموغل في إنسانيّته». ورغم ما عرف عنه من حدّة طبع وغلاظة، كان بيتهوفن مرافَقا طيلة حياته ببعض الأصدقاء المخلصين، أمثال أنطون شيندلار، سكرتيره الخاصّ الذي كان يخدمه بلا أجر، والذي حاك عنه، لأسباب شخصيّة، العديد من الحكايات الرّمزيّة. قد لا نأخذ تلك الحكايات على محمل الجدّ، ولكنّها ساهمت إلى حدّ ما في إشاعة العديد من الأطروفات والمُلح عن معلّمه، وكان لها دورها في تغذية الأسطورة.. وهو أيضا ذلك الإنسان السؤول، المحبّ للاستطلاع.. الذي استفسر بيتهوفن عمّا يريد تبليغه في «سوناتته على البيانو على درجة الرّي مينور»، فأجابه بنبرةِ ساحرٍ متكهّنٍ: «اِقرأ عاصفة شكسبير..». وثمّة أيضا حكايات عازف البيانو فرديناند ريس القابلة للتّصديق.. وهو الذي ألّف بمعيّة هانس فنغلار، سيرة ذاتيّة لبيتهوفن صدرت سنة 1838، وإنّه لمن المؤكّد أنّها قد عرفت حينها انتشارا واسع النّطاق، وكذا.. أنسالم هوتّانبرينّر الّذي آزر بيتهوفن، ووقف إلى جانبه في لحظاته الأخيرة، وترك لنا من وحي تلك اللّحظات رواية مشبعة رومانسيّة عن ميتته: هيجان العاصفة، دمدمة الرّعد، وبيتهوفن الذي يفتح عينيه للمرّة الأخيرة ليلوّح بقبضته مهدّدا، قبل أن يلفظ أنفاسه ويودع الرّوح. يبدو حينئذ أن الأمانة العلميّة في سرد الأحداث التي حفّت بحياة هذا الموسيقيّ، كانت متجاهَلة من قبل كتّاب السّيرة في ذلك العصر، إذ على غرار أسلوب بلوتارك، كان هؤلاء يميلون إلى تمجيد مآثر أبطالهم، وينسبون إليهم حِكَمًا، سرعان ما كانت تتحوّل إلى أمثال سائرة. وهذه بعض من تلك الأخبار التي غدت شائعة، وساهمت إلى حدّ كبير في في إطالة أمد أسطورة بيتهوفن: كان هذا الموسيقي يرغب في إهداء سيمفونيّته «إيروييكا» إلى نابليون بونابرت، ولكنّه ما إن علم بنيّة هذا الأخير تتويج نفسه إمبراطورا، حتّى سارع إلى إتلاف ذلك الإهداء، وقد يكون قال بشأنه: «إنّه لا يعدو كونَه إنسانا، وها هو يسعى إلى التّعالي، ليكون بالنّهاية طاغية، مثل غيره من الأباطرة». وأثناء نزهة جمعته بجوته عند مياه تيبليتز، يكون بتهوفن قد التقى هو ومرافقه أفرادا من الأسرة الملكيّة يتقدّمهم إمبراطور النّمسا، فأمّا جوته، مبالغا في الطّاعة، فقد بادر بنزع قبّعته وإلقاء تحيّة لا تخلو من تذلّل إلى الامبراطور، فيما تعمّد بيتهوفن، بقبّعته المسمّرة فوق رأسه، تجاهل الموكب الملكي، وآثر الانحراف عن الطّريق. هذا.. دون أن نتغافل عن حكم شائعة تنسب إليه، مثل «إنّي لأوثر الشّجرة على الإنسان»، أو «ذلك الذي سيدرك حقيقة موسيقاي، سوف يتحرّر من كلّ الأحزان التي يتردّى فيها الآخرون»، أو «ينبغي أن تتجاوز محبّتنا للحريّة كلّ ما سواها»، أو أيضا «ليس للإنسان من مكانة أرفع من كونه إنسانا خيّرا»، «هل تعتقدون أنّني أفكّر في كمان مقدّس، حين تهمس إليّ الرّوح وأكتب ما تمليه عليّ»، «الموسيقا حِراب نرمي بها إلى أبعد مسافة ممكنة كي نستشرف أنوار الحقيقة».
إنّ هذه المُلَح والأمثال السّائرة غير المحدّدة السّياق، تقدّم لنا ملمح شخصيّة يسهل الاقتراب منها ومحاصرتها، إنّها صورة رجل ديمقراطيّ، وإنسانيّ، أبّهيّ، طليق، روحانيّ، محبّ مثل المراهق، عفيف مثل الناسك، متجلّد في المصائب. ويمثّل صممه بالطّبع عنصرا مميّزا في تشكيل ذلك الملمح، مسبغا على شخصيّته مفارقةً فاجعة. فإن يكون مصاباً في قلبه، أو فاقداً لإحدى رجليه، فتلك بليّة لم تكن لتعدلها مصيبة الصّمم. وأيّ مصيبة هي أن يكون الموسيقيّ أصمَّ.. ولم يكن الرّجل ليحتاج إلى أكثر من ذلك، حتّى تتجسّد فيه صورة البطل الرّومانطيقيّ، التي كان يتشوّف إليها معاصروه، صورة إنسان معذّب، كان فنسنت دندي يرى فيها أبلغ علامةٍ في حياة بيتهوفن، علامةٍ قد تجعله أرفع مكانةً من موزار. وسوف تكبر صورة هذا البطل طيلة القرن التّاسع عشر لتلقي بظلالها على المشهد الموسيقيّ الأوروبيّ برمّته. كما ستسهم الرّسومات والأقنعة الجنائزيّة بالطّبع في الانتشار المتزايد لتلك الأسطورة بين النّاس.

موسيقيّ الشّعب الألمانيّ
فيما كانت أسطورة بيتهوفن بفرنسا تكتسي أبعاداً موسيقيّة وأخلاقيّة، تشكّلت وفقها صورة موسيقيّ جمهوريّ، جاءت موسيقاه الموهوبة للجماهير نابضة بضرورات جماليّة صرفة، موجّهة إلى ذوي النّفوس الرّهيفة المتسامية، فإنّ الأمر في ألمانيا كان، ولأسباب سياسيّة بيّنة، على خلاف ذلك تماما. فبعد نشأة الرّايش سنة 1870، اعتُبر بيتهوفن بالطّبع أحد العناصر الأساسيّة المكوّنة للإرث الثّقافي والحضاريّ الألمانيّ. وأثناء ذلك، كان بيسمارك قد أفصح عن إيثاره «هذا الموسيقيّ الألمانيّ الذي كان يمنحه سعادة حقيقيّة». حينها استمعنا إلى موسيقى بيتهوفن تُعزف مع النّشيد الوطني الألماني.
ومع تنامي الحركة النّازيّة ونشأة الرّايش الثّالث، اِنطلقت السّلطة الحاكمة الجديدة بألمانيا في حملة محمومة لتجميل صورة بيتهوفن ورفعه إلى مرتبة البطل الوطنيّ القومي. غير أنّ بعض الجزئيّات المتعلّقة بنقاوة الجنس الآري، وضعت تلك الحملة قاب قوسين، باعتبار الأصل الفلامانيّ لبتهوفن، الّذي جعل من الصّعب تقديمه على أنّه جرمانيّ أصيل. بل إنّ سمرته أيّام شبابه، دفعت البعض على تكنيته بـ «الإسبانيّ». ومع ذلك، حسمت السّلط النّازيّة الأمر، بإقرارها صفاء جنسه ونقاوة معدنه، وانتماءه إلى العنصر الآريّ. وعلى هذه الصّورة، تمّ قبول بيتهوفن في المجتمع النّازيّ، وغدت موسيقاه كليّة الحضور في الاحتفالات الرّسميّة. ورغم الاعتراف بأنّه كان متعاطفا في شبابه مع الأفكار الوافدة من فرنسا، فقد ألمح أحد الدّعاة الرّسميين للنّازيّة (موزر) إلى أنّ «بيتهوفن اختطف إعصار الحرب من نابليون في غمرة عاصفة أرسلت من السّماء، وبذل كوطنيّ رِينَانيٍّ كلّ ما في وسعه، لمواجهة حملة الرّعب العظيم التي أطلقها الطّاغية.. نابليون». كما تمّ تشبيه بيتهوفن بالموسيقيّ المحارب، القاهر لأعداء الشّعب الألمانيّ بمعيّة الأمير برسفال. وغالبا ما نعثر في هذيان منظّر النّازيّة ألفرد روزنبارغ على ذكرٍ لبيتهوفن يبدو فيه محاربا روحانيّا ومنارة هادية للشّعب الألمانيّ. ويفسّر كلّ ذلك سعي النّازيين إلى إتلاف أعمال مثل «افتتاحيّة كوروليان» (المهداة إلى نابليون) وحذفها تماما من السّيمفونيّة التّاسعة في الاحتفالات الرّسميّة. أمّا هتلر، فقد كان على المستوى الشّخصي لا يميل كثيراً إلى سماع موسيقى بيتهوفن، بقدر ما كان يؤثر موسيقى فغنار ويستسيغها.

هالة كونيّة وإنسانيّة
بعد رحيل النّازيين، تمّت العودة من جديد إلى صورة بيتهوفن في أبعادها الأمميّة والإنسانيّة. أمّا النّوتات الأربع الأولى من السّيمفونيّة الخامسة، التي بنغماتها الثلاث الطّويلة، ونغمتها الرّابعة القصيرة، شكّلت على سبيل الصّدفة الرّقم 5 (الذي يتّخذ هيأة الرّقم 5 في التّرقيم الرّومانيّ) في أبجديّة المورس، فقد غدت مقترنة عند الحلفاء بعلامة النّصر. ونحن نذكر الصّورة الشهيرة لتشرشل الذي لوّح فيها بتلك العلامة حين انتصر الحلفاء على الدّول الفاشيّة. كما تحوّل «نشيد الفرح» لبيتهوفن، في أعقاب تلك الحرب المدمّرة، إلى نشيد أوروبيّ، قامت بتسجيله الأوركسترا السّمفونيّة لبرلين بقيادة فون كريان.
وكان تلامذة المدارس حينها، وفي بلدان عديدة، ينشدون تلك الأغنية المثاليّة الرّائعة، التي جاءت ترجمتها الفرنسيّة كالآتي: «إيه.. كم رائعا هو ذلك الحلم الذي يُقبل لإنارة عينيّ، كم ساطعة هي الشّمس التي تنهض في السّماوات الرّحيبة الصّافية». وفي سنة 1955 عندما فتحت أوبرا الدّولة في فيينّا من جديد، بعد إزالة الأضرار التي ألحقها بها قصف طيران الحلفاء، تمّ اختيار أوبرا «فيديليو» لبيتهوفن، لتكون نشيد مقاومة للهمجيّة واحتفاء بالحريّة المستعادة، ولم يكن هذا الحدث ليخلو من تناقضات، لأنّه تحقّق في بلد كان-ولنذكّر بذلك- شديد التحمّس للأنشلوس(قرار ضمّ النّمسا بالقوّة إلى ألمانيا في 12 مارس 1938). هذا.. دون ذكر قائد الأوركسترا كارل بُوهِمْ، الذي عُرف بتواطئه مع النّظام النّازي.
ولن يتوقّف في النّصف الثّاني من القرن العشرين الاِحتفاء ببيتهوفن، الذي سوف يظلّ، ولزمن طويل، المنارة الشّامخة في تاريخ الموسيقا الكلاسيكيّة. فنراه يظهر في الأشرطة الصّوتيّة لعديد الأفلام، وأحيانا بشكل مبهر كما في شريط «البرتقالة الآليّة» لستنلاي كوبريك، الذي تجسّد فيه القطعة الموسيقيّة المشوّهة من السّيمفونيّة التّاسعة، الحماسة الفاسدة لألاَكسْ، البطل المختلّ في الشّريط. ومع ذلك، ففي العقود الأخيرة، بات من اللاّفت تراجع مكانة الموسيقات العتيقة، وبروز حالة من الاِرتياب إزاء التّمجيد المتحذلق لتلك الموسيقا. ويفسّر ذلك العزوف إلى حدّ كبير تراجع مكانة موسيقا بيتهوفن في تلك الأثناء، غير أنّ الرّجوع إلى آلات العصر(آلات القرن التّاسع عشر)، وتوظيفها بطريقة مستحدثة، ساعد أيضا على تشكيل صورة صوتيّة مبتكرة جديدة. ويلمّح البعض إلى أنّ ذلك الأسلوب الحميم، الجليل في تناول الموسيقا (الذي يهمّ خاصّة المعلّقين اللاّحقين لعهد بيتوفن) ساهم في «إفساد» تطوّره. وذلك هو موقف سيوران، وبشكل ما، المؤدّي الكبير لموسيقا بيتهوفن يهودي مينوهين، الذي اعتبر أنّه مع بيتهوفن، كانت طبيعة الموسيقا بصدد التغيّر، قبل أن تتدرّج نحو حالة شبيهة بـ «الاحتجاز» الأخلاقي للمستمع، أو ما يشبه السّلطة الشّموليّة. وكان ذلك موقف تولستوي قبل قرن من الآن، في روايته «سوناتا إلى كروتزر»، التي رأى فيها حبّ الموسيقا شبيها بالهوس المرضي.

أيقونة الحريّة
ومهما يكن من أمر، فإنّ الصّورة التي تتبقّى، هي صورة بيتهوفن المدافع عن الحريّة وحقوق الإنسان والتقدّم الاجتماعيّ. ولا زلنا نذكر يوم 25 ديسمبر 1989، الذي قاد فيه ليونار برنشتاين أداء السّمفونيّة التّاسعة أمام جدار برلين بعد فتحه، وكيف أنّه عوّض حينها كلمة فرح في النّشيد الافتتاحي بكلمة الحريّة، وكيف أنّ شركة «دوتش غراموفون» قامت بتسويق تسجيل الحفل، مقحمة في الغلاف تذكارا عن ذلك الحدث، فكان على صورة قطعة من الجدار. وفي سنة 1981، وبمناسبة تنصيب فرنسوا ميتّران، عزف دانيال بارنبويم مع الأركسترا السّيمفوني لباريس في الهواء الطّلق، الحركة الأخيرة من السّيمفونيّة أمام «البانتيون». وكذا جان ماري لوبان، في المهرجان الذي انتظم للإعلان عن ترشّحه للانتخابات الرّئاسيّة، والذي بُثّ فيه «نشيد الفرح». وقد تمّ عزف «نشيد الفرح» هذا في مناسبات شتّى وفي أماكن مختلفة مثل كاتالونيا، هونغ كونغ، أوديسّا، نوررنبارغ، تونس وغيرها، وفي كلّ تلك المناسبات كانت حشود الشّباب تفصح عن تطلّعها إلى الحريّة، وبيتهوفن هو الذي كان يُلتجأ إليه وليس موسيقيّ آخر.
وفي مقدّمة كتابه «أساطير» كان رولان بارت قد كتب هذه الجملة الشّهيرة، الملغّزة في آن: «الأسطورة.. خطاب». وتظلّ هذه القولة المرنة، المتعدّدة الدّلالات والاِستعمالات، تعيش مع الزّمن.. مع زمنها. فبيتهوفن المعاصر يبدو بعيدا عن ذلك الإنسان المتوهّج الذي جسّمته التّماثيل النّصفيّة لبوردال، والنزعة الإنسانيّة المنمّقة إلى حدّ ما لرومان رولان، أو الاِدّعاءات القوميّة للرّايخ الأوّل والثّاني والثّالث. وفي ذلك دليل على ثبات تلك الأسطورة وتواصلها، وعلى أن سحرها لم ينقض بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©