الإثنين 27 مارس 2023 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حقوق الإنسان في الاسلام

31 أكتوبر 2005
حــــرية التفــــــكير
بحسب المرء أن يطالع الآيات القرآنية ليجزم عن يقين بأن القرآن الكريم قد جعل من فريضة التفكير حقا إسلاميا أصيلا ، وكيف لا يكون كذلك والفكر الحر المنزه عن الهوى والتقليد هو المنوط به تدبر آيات الله في الكون للإقرار بوحدانيته والوصول إلى الإيمان به ، مصداقا لقوله تعالى: 'إن في خلق السماوات والأرضِ واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون' ·
من هذا المنطلق لم يكن غريبا أن يحمل الإسلام حملة شعواء على الذين يتبعون الظنون والأوهام ، فقال تعالى: 'وإِنَّ الظن لا يغني من الحق شيئا' ، مثلما نحا أيضا باللائمة على أؤلئك الذين يقلدون الآباء ويعطلون مداركهم الفكرية ، فيقولون: 'إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون' ، فهؤلاء جعلهم القرآن كالأنعام ، بل هم أضل سبيلاً: 'لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون'·
كما ثار أيضا على هؤلاء الذين يتبعون الهوى أو يقلدون الكبراء والرؤساء ، أولئك الذين يحاولون يوم القيامة أن يتنصلوا من غيهم وضلالهم فيقولون: 'إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا' ، وفي المقابل دعا إلى حرية التفكير وإلى إعمال العقل وإعمال النظر، فصاح في الناس صيحته العقلية المقنعة : 'قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين'·
وقد عبر القرآن الكريم عن العقل الذي يفكر ويستخلص الرأي ويتبنى الموقف بناء على التفكير والروية ، بكلمات متعددة ، مثل الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم ، وغيرها من الملكات الذهنية ، مثل قوله تعالى:'الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض' وقوله تعالى أيضا: 'أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج'·
وليس أدل على إعلاء الإسلام لحرية التفكير من اعتماده في إثبات العقيدة الإسلامية على الأدلة العقلية، ومن ثم قال علماء الإسلام: 'إن العقل الصريح أساس النقل الصحيح' ، فقضية وجود الله قامت بإثبات العقل، وقضية نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم - ثبتت عن طريق العقل أولا ، لأن العقل هو الذي يقول: هذا رسول قامت البينة على صدقه ودلت المعجزات على صحة نبوته، مثلما يقول في المقابل: هذا كذاب ودجال لأنه ليس معه بينة وليس معه معجزة·
ويدخل في سياق كفالة الإسلام للحرية الفكرية أيضا دعوته لكل من أراد اعتناقه إلى أن يتفكر ويبحث بعقله وبالأدلة العقلية والمحسوسة أولا ، ثم يتدبر نصوص القرآن حتى يكون إيمانه عن قناعة وروية ولا يتطرق إليه الشك ، ولذلك أعطى الرسول عليه الصلاة والسلام مهلة شهرا لصفوان بن أمية ، ولم يكرهه على الإيمان حتى جاءه مختاراً آمناً مطمئناً ، ومن ثم صار النبي بعدها أحب إليه من كل شيء بعد أن كان أبغض الناس إليه·
ويذهب الإسلام إلى مدى أبعد في صيانة الحرية الفكرية حين ينص صراحة على تقريرها لغير المسلمين من أهل الديانات الأخرى، الذين صاروا أهل ذمة وعهد من اللّه ورسوله والمسلمين، فهم بموجب ذلك الأمان على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم لهم مطلق الحرية في مباشرة طقوسهم الدينية، ولا يجوز إكراههم على اعتناق دين أو مذهب أو فكر لا يريدونه، أو أن نستغل ظروفهم لنشترط عليهم شروطاً تجعلهم يدخلون في الإسلام مكرهين ·
ولا شك أن الحرية الفكرية لا تقيدها قيود ولا توضع لها ضوابط، لأن التفكير أمر نفسي لا يطلع عليه أحد، فالإنسان يطلق لتفكيره العنان فيسبح في مجالات الحياة المختلفة كيفما أراد، اللهم إلا إذا تكلم أو فعل ما فكر فيه ، فإذا لم يترجم فكره إلى كلام أو فعل فلا عقاب على تفكيره ، مصداقا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: 'إن اللّه تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم'·
أما إذا خرج نطاق التفكير إلى حيز التعبير أو الفعل ، فينبغي على المسلم أن يلتزم بما جاء به دينه من قيم ومبادئ وثوابت، وعلى رأسها الإيمان بوحدانية اللّه تعالى وصفاته وبالبعث والنشور والحساب والجنة والنار، وغيرها من القضايا الإيمانية والعقائدية القطعية الثبوت بالنص ، وإلا يكون قد خرج عن دائرة الإسلام : إما مرتداً أو مشركاً فاسقاً ·
وفي ظل هذه الحرية الفكرية الناضجة وإعلاء الإسلام لقيمة العقل ، لم يكن غريبا أن يجوب المسلمون شتى بحور العلم والبحث والاجتهاد والاستنباط والاكتشاف ، مما أثمر ثروة علمية ومعرفية في مختلف العلوم والمعارف ، سواء في مجال العلوم الشرعية أو العلوم الطبيعية ، التي ندب إليها التشريع الإسلامي وحثّ عليها ، مصداقا لقوله تعالى فلولا نفُر من كل فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدينِ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
كما ترتب على هذه الحرية الفكرية أيضا نشوء العديد من المذاهب والمدارس الفقهية والفكرية بما صاحبها من جدل علمي ، ومن ثم كان من حق أي مسلم أن يختار ما يشاء من الآراء والمذاهب التي تنسجم مع طبيعته وتكوينه الفكري ، شريطة ألا تتنافى مع مبادئ الإسلام أو تتعارض آراؤها مع ثوابته وأركانه الأساسية ، أما فيما عدا ذلك فللمسلم أن يكون سنياً سلفياً أو أشعرياً أو ماتريديّاً ، وأن يكون معتزلياً ، ذلك أن قواعد العلوم وصحة المناظرة تميز ما في هذه النحل من مقادير الصواب والخطأ أو الحق والباطل ، ولا تكفر أحداً من أهل القبلة·
عماد محجوب
عماد محجوب
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الاتحاد 2023©