إعداد - محمد عبد الرحيم:
يبدو ان أوروبا أصبحت في طريقها لأن تعتمد الحل 'الانجلوسكسوني' لمواجهة مشكلة الاحتباس الحراري في العالم والمتمثل في إنشاء سوق يسمح للشركات وسائر الأعمال التجارية في الاتجار واجراء التعاملات في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفي الأسبوع الماضي اشاد كبار مسؤولي البيئة في الاتحاد الأوروبي بالنجاح الذي حققه نظام التعاملات التجارية في الانبعاثات الذي كان قد تم اطلاقه في بداية هذا العام في مؤتمر تم عقده في لندن·
وتقول كاثرين داي المديرة العامة للبيئة في المفوضية الأوروبية حسبما ورد في صحيفة الاندبندنت الأوروبية مؤخرا 'لقد بدأنا العمل بسلسلة جديدة من التفاعلات التي أدت الى تغيير كامل في الثقافة التجارية· فلقد خرج موضوع ثاني أكسيد الكربون من سيطرة ضابط البيئة في الشركة ليدخل غرفة المراقب المالي والمدير التنفيذي'· ومن الواضح ان هذا النظام مازال يعتبر بمثابة الخطوة الأولى في خطط بروكسل الطموحة· فهو يغطي الصناعة الثقيلة في هذه الآونة الا ان المفوضية اعربت عن اعتزامها على تمديد مظلة المشروع لكي يشمل مجال الطيران· ومن الواضح ايضاً ان المفوضية باتت ترغب في رؤية الاجزاء الأخرى من العالم وهي تنضم الى هذه الآلية التجارية الأوروبية أو تؤسس الآليات الخاصة بها إذ ان المشكلة في النهاية تعتبر أزمة عالمية تخص الجميع·
وفي الوقت الذي يمكن ان تندرج فيه انبعاثات السيارات والحافلات والقطارات ضمن 'نظام الاتجار في الانبعاثات فمن المؤكد ان يأتي اليوم الذي سيطبق فيه هذا المشروع على ربات البيوت· لذا فبعد بضع عقود من الآن ربما نجد الزوجة وهي تسارع الى فتح جهاز الانترنت من أجل شراء بطاقة ائتمان الكربون قبل المضي قدماً في طبخ وجبة العشاء للعائلة· والى الآن فإن معظم ربات البيوت ما زلن اقل معرفة او اهتماماً بهذا المنطق التجاري الجديد الذي تم اعتماده في حل مشكلة الارتفاع في درجات حرارة العالم·
يذكر ان أوروبا ومعظم دول العالم الصناعي - باستثناء الولايات المتحدة الأميركية - كانت قد صادقت على بروتوكول اتفاقية كيوتو وهو الأمر الذي يلزم هذه الدول الموقعة على تقليل انبعاثات غازات الدفيئة فيها بمقدار يقل بمعدل 12,5 في المائة من مستويات عام 1990 بحلول العام ·2012 ولقد جاءت استجابة أوروبا لهذا التحدي متمثلة في إنشاء 'نظام التعاملات في الانبعاثات' والذي يعتمد على آليات السوق· وهذه الميكانيكية تعتمد على تخصيص كوبونات مالية للانبعاثات في الصناعة·
وهذه الكوبونات تساوى كل منها انبعاث طن واحد من ثاني أكسيد الكربون ويمكن التعامل به تجارياً فيما بعد· ويمكن لأي شركة شراء المزيد من الكوبونات اذا لم تستطع الايفاد بالالتزامات المحددة تجاه الانبعاثات او ان تنتهج عوضا عن ذلك اي نوع من التكنولوجيا الجديدة أو تغيير أساليب العمل المتبعة بحيث تعمل على تقليل حجم الانبعاثات ومن ثم بيع الائتمان الفائض لديها مرة أخري في السوق·
وبموجب النظام الحالي الذي سيغطى الفترة الى عام 2007 فإن العبء يقع بأكمله على قطاع توليد الطاقة بينما تم ادخال بعض الصناعات الأخرى التي تعتمد على الطاقة مثل مصانع الصلب والفولاذ ومصنعي الورق في المشروع· ومن الغريب ان هذه الفكرة أتت من الولايات المتحدة الأميركية التي استخدمت هذه الآلية من أجل السيطرة على انبعاثات الغازات التي تسبب التلوثات المرئية في الهواء مثل الضباب·
وحتى هذا الوقت من العام الحالي فإن نظام الاتجار في الانبعاثات الأوروبي تداول في عدد 150 مليون كوبون بقيمة مالية بحوالى 2,5 مليار يورو '1,7 مليار جنيه استرليني' وهو رقم هامشي مقارنة مع ما يجرى في سوق النفط الخام الا ان التعاملات في مجال الانبعاثات ما زالت تعتبر حديثة عهد كما ان اطلاق هذا النظام اتسم بكثير من الهدوء وافتقد الى الصخب والترويج· وسوف يتم وضع 2,2 مليار كوبون تجاري في التداول سنوياً في الفترة ما بين هذا العام والعام ،2007 اذ تقول كاثرين داي 'لقد وضعنا سعراً للكربون اصبح بمثابة عملة جديدة'· ولقد برهنت هذه العملة على انها أقوى مما كان اي أحد يعتقد، اذ ان سعر طن الكربون قد اخترق حاجز 29,50 يورو في يوليو المنصرم ويتم التعامل به الآن بحوالى 23 يورو علماً بأن التعامل به كان قد ابتدأ أول مرة بسعر يقل عن 10 يورو· على ان السبب في قوة السعر لا يعود فقط الى قوة الطلب على الائتمان ولكنه جاء كنتيجة للطلب المتنامي على الغاز والفهم· ولما كان سعر الغاز قد ارتفع بشدة في هذا العام فلقد اصبح من غير المفضل احراق الغاز عوضاً عن الفحم في محطات الطاقة لذا فإن احراق الفحم من شأنه ان يتمخض عن انتاج انبعاثات اكبر من ثاني اكسيد الكربون اي المزيد من شراء الائتمانات· ولقد شهد سعر الكربون تقلبات شديدة الى درجة ان احد كبار اللاعبين وهي شركة 'ئي او ان' طالبت في الاسبوع الماضي بوضع قيود على السعر بحيث تعمل كصمام امان· بالاضافة الى ان اطلاق العنان لسعر الكربون من شأنه ان يشكل آثاراً مدمرة على الأعمال التجارية الأوروبية·
ولا تخفي هذه الشركة البريطانية وغيرها من شركات الطاقة الأخرى مخاوفها من النتائج السالبة المحكمة حال وقوع احداث غير متوقعة تبعث بأسعار الكربون الى مستويات عليا· وكذلك فقد اعربت هذه الشركات عن قلقها بشأن المخاطر السياسية طالما ان عدد بطاقات ائتمان الكربون المتداولة يتم تحديدها من قبل السياسيين والبيروقراطيين بينما لا توجد عوامل 'جوهرية' تحديد العدد المعروض من الكوبونات· ولقد دخل هؤلاء السياسيون اصلاً في معارك حول الكوبونات المخصصة لدولهم في الفترة الحالية 2005-·2007
ويتعين على دول الاتحاد الأوروبي التقدم بمناقصاتها من اجل نيل هذه التخصيصات التي تغطي الفترة 2008-2012 وهي الفترة التي تأتي حقيقة ضمن بروتوكول كيوتو· ولكن ما بعد العام 2012 فإننا ما زلنا لا ندري عما اذا كان نظام الاتجار في الانبعاثات سوف يقدر له البقاء اصلاً ام ان دولاً مثل الولايات المتحدة والصين والهند سوف تدخل فيه؟ وفي الوقت الذي نشهد فيه تدافع الاعمال التجارية لانتهاج التعاملات في مجال الانبعاثات الا ان هذه الاعمال التجارية لن تتلقى فيما يبدو الاجابات الخاصة بمتطلباتها المستقبلية من السياسيين لسنوات عديدة قادمة· ما الطريق ما بعد اتفاقية كيوتو مازال طويلاً وينطوي على الكثير من التعقيدات والمنعطفات·