الثلاثاء 21 مارس 2023 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
عربي ودولي

الإسكندرية حامية الرسالات الثلاث منذ 23 قرناً

22 أكتوبر 2005

الإسكندرية ـ آمال حسين:
زمان·· كان 'شط اسكندرية' بساطاً مباركاً سجد وركع عليه أتباع كل الديانات! لم تفرق عروس البحر بين مسيحي ويهودي ومسلم·· احتوت بذراعيها كل من نظر إلى السماء مناجياً ربه·· وأنعشت بنسيمها كل الفلسفات الدينية التي كادت ـ في عصور الظلام ـ أن تذبل وتندثر! ، وجد فيها الرهبان والأحبار والأئمة ضالتهم الفكرية، فكانت لهم منبراً آمناً، يرتقيه على السواء أصحاب كل الكتب المقدسة·· وليس من العجيب أن يدين لها بالفضل كل من عرف بالله·· ففي تاريخ كل دين حلقة فاصلة، كان للإسكندرية فيها دور جوهري في إعلائه وحمايته، حتى صارت رمالها ـ بتعبير أديب من أبنائها ـ زاخرة ببركة كل الأديان·
عبر تاريخها الطويل ـ الذي امتد ثلاثة وعشرين قرناً من الزمان ـ كان للمدينة الساحلية الفاتنة حضور ثقافى من نوع خاص، وشأن فريد مع الحضارة، ففي ماضيها العريق اجتمعت ثقافات العالم القديم: الفرعونية، والشرقية، واليونانية·· والتي تشكلت عبر عشرات القرون، لتهب الإسكندرية مزيجاً ثقافياً مميزاً، يعرف قيمته كل مشتغل بتاريخ الفكر الإنساني·
وقد ذاع صيت الإسكندرية على الصعيد الثقافي، عندما أرسى بطليموس الأول سوتير أساس مكتبتها القديمة، ومتحفها العلمي، وفوض أكبر مفكري ذلك العصر ديمتريوس الفاليرى لإدارتها والإشراف عليها·· وعندما تولى الحكم بطليموس الثانى فيلادلفوس
(246 ـ 221 قبل الميلاد) تضاعفت شهرة الإسكندرية القديمة، وازدهرت كأهم مركز علمي على مستوى العالم في ذلك الحين، إذ حفل كل من الموسيون أو المتحف العلمي والمكتبة بنحو أربعمائة ألف كتاب ومخطوط··
بين العلم والتعصب!
كانت تلك بمثابة المقدمات العلمية التي أهلت الإسكندرية لقبول التنوع الديني الوافد إليها بعد فترة وجيزة، وقد بدأت التربة الثقافية للمدينة في الارتواء بأفكار وتأملات رجال الدين، مع حلول العصر المسيحي المبكر، الذي افتخرت فيه الإسكندرية بتقديم نجمين لامعين للعالم المسيحي في ذلك الوقت، عرفا فيما بعد بلقب (أباء الكنيسة)، وهما كليمان أو كليمنت، وأوريجين، كان الأول وثنياً قبل أن يؤمن بالمسيحية، بل ويحصل من العلم والمعرفة على قدر وفير، يؤهله للقيام بدور هام في التوفيق بين التعاليم الدينية التي جاءت بها الديانة المسيحية من جانب، والثقافة اليونانية من جانب آخر·· أما زميله أوريجين، الذي لم يكن في سعة علم كليمنت، وإحاطته العميقة بالأدب اليوناني، فقد كانت لديه قدرة أكبر على استيعاب الأسس الفلسفية، وفهماً أدق لروح البحث العلمي·· وهكذا وضع آباء الكنيسة الملامح الأصيلة للمسيحية، بفضل المناخ العلمي الذي وفرته لهم الإسكندرية، والتشجيع الدائب من قبل حكامها لكل صاحب رأي وكلمة·
لكن ذلك لا ينفي تلك الصفحة الدامية في صراع المسيحيين مع الوثنية، والتي أسفر تعصب بعض الأساقفة فيها ضد مكتبة الإسكندرية ـ بوصفها في رأيهم معقلاً للثقافة الوثنية ـ عن تخريبها، بل قام بعض عوام المسيحيين باعتقال عالمة رياضية شهيرة في ذلك الوقت، وتدعى هيباثيا ـ ابنة الرياضي الفيثاغوري العظيم ثيون ـ وقاموا برجمها ثم تمزيقها في معبد القياصرة، وبعدها أشعلوا النار في المكتبة القديمة، لتنتهي ـ لفترة مؤقتة ـ حقبة ثرية من تاريخ العلم والثقافة في الإسكندرية·
اليهود يجهلون العبرية!
ثم يأتي بعد ذلك فضل الإسكندرية في الحفاظ على الديانة اليهودية، فإلى جانب الدور العلمي العظيم الذي قام به فيلون السكندري ـ من خلال تأويلاته الأفلاطونية لأسفار التوراة، والتي ساهمت في إجلاء كثير من المناطق الغامضة في الدين اليهودي ـ كان اليهود يجهلون كيفية قراءة النصوص التوراتية، لعدم معرفتهم باللغة العبرية في ذلك الحين، فأتى الحكام البطالسة باثنين وسبعين حبراً من أحبار اليهود إلى الإسكندرية، ليعكفوا على القيام بما أطلق عليه (الترجمة السبعينية للتوراة)، وهي الترجمة اليونانية التي ظلت معتمدة من قبل اليهود في كل أنحاء العالم حتى يومنا هذا، والتي تتفوق على بقية القراءات العبرية، ولولا تأويلات فيلون الأفلاطونية للتوراة، وتلك الترجمة، لانطمست اليهودية واختفى أثرها· عناد قبل الرباط!
ومع الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص، ودخوله الإسكندرية في العام الهجري الثاني والعشرين، الموافق العام الميلادي ،642 استهلت الإسكندرية حقبة جديدة من تاريخها الثقافي، ولا شك أن الخليط الحضاري والثقافي القوي الذي اتسمت به الإسكندرية في ذلك الحين، زاد من صعوبة فتحها وضمها للدولة الإسلامية، إلى الحد الذي جعلها أكثر المدن في مصر تستعصي على جيش المسلمين الفاتحين، ربما لكونها آنذاك أقرب إلى الروح اليونانية، وكانت تلقب من قبل اليونانيين باسم: الإسكندرية المتاخمة لمصر!
وفى العقود الأولى من العصر الإسلامي السكندري، تميزت نظرة المسلمين للإسكندرية بطابع خاص، فقد جسدت قيمة الرباط ومعنى الجهاد، وروى البلاذرى عن الواقدى، أن ابن هرمز الأعرج القارئ قال: خير سواحلكم رباطاً هو الإسكندرية! بل وخرج إليها من المدينة المنورة مرابطاً، إلى أن وافاه فيها اليقين عام مائة وسبعة عشر هجرية··
وفي زمن الفاطميين تأكدت قيمة الإسكندرية كرباط سني، إذ اجتمع فيها أعلام المسلمين من السنة، أمثال الطرطوشى صاحب كتاب سراج الملوك، والمحدث الكبير أبي طاهر السلفي، وحتى عندما وصل الأيوبيون للحكم، وصار للمدينة استقلالها الفكري والسياسي، ظلت الإسكندرية الإسلامية رباط جهاد، وإليها هرب الشاعر الصوفى العظيم ابن الفارض من ملاحقة الملك الكامل، واختبأ ـ أي ابن الفارض ـ في منارتها، وجعل منها مركزاً مشعاً للصوفية، مثلما كانت الإسكندرية في عصور سابقة معقلاً للفيثاغورية!
منتخبات الاسكندرانيين
ومع أن هناك طبيبا عربيا تولى تدريس الطب فى الإسكندرية قبل ظهور الإسلام بقليل، وهو ابن أبجر الكناني، فقد بدا جلياً أثر الحضارة العربية الإسلامية في الإسكندرية، على الصعيد المعرفى، بعد الفتح الإسلامي، في عدة جوانب·· ففى حقل العلم، حافظت مكتبة الإسكندرية في العهد الإسلامي على مؤلفات العلماء اليونانيين، وشجعت على استمرار البحث العلمى على أيدي نخبة من علماء الإسكندرية في ذلك الوقت في مجالات الطب والفلك والهندسة واللغويات·· ففي مجال الطب، ظهر الأثر السكندري في أمرين: الأول: انتقال مجالس التعليم الطبي من الإسكندرية إلى بغداد، حيث استقر لقرون طويلة منهج البحث الطبي عند الأطباء العرب والمسلمين هناك، على النهج الذى خطته الإسكندرية من قبل، حتى أن أحد المستشرقين، وهو الألمانى ماكس مايرهوف رصد هذا الانتقال التاريخي للتعليم الطبي، في بحث واسع يحمل عنوان (من الإسكندرية إلى بغداد) حول التواصل العلمي بين الإسكندرية والحضارة الإسلامية في هذا المجال··
أما الأمر الثانى فهو بروز التأثير السكندري في تاريخ الطب العربي الإسلامي، من خلال الاستفادة بمؤلفات كانت مكتبة الإسكندرية تحتفظ بها وتصنفها بعناية، وقد عرف المسلمون من خلال تلك المؤلفات تراث أبقراط وجالينوس، ولم يكن المسلمون يرخصون للطبيب بممارسة مهنة الطب قبل دراسة مجموعة مؤلفات أبقراط بالكامل، إلى جانب مؤلفات جالينوس التي عرفت باسم (منتخبات الاسكندرانيين) التي كانت تلي مجموعة أبقراط مباشرة في الأهمية·· ثم قام الأطباء العرب والمسلمين، بترجمة هذه المؤلفات إلى اللغة العربية، لاستئناف الدراسات الطبية التي قام بها أبقراط وجالينوس، ولم ينكر المسلمون في ذلك الوقت فضل هذين العالمين، بل كانوا يلقبونهم دائماً في المحافل العلمية بكلمة (الفاضل)·· وهكذا تواصلت جهود الفاضلين أبقراط وجالينوس في مجال الطب الإنسانى على يد أعلام أطباء من المسلمين، من أمثال: ابن سينا، والرازى، وابن النفيس·· وغيرهم، ومن ثم فلولا مكتبة الإسكندرية، وكبار علمائها وأطبائها في ذلك الوقت، لم يكن ليستمر علم الطب مع استلام العرب المسلمين عهدة العلم من اليونانيين في الإسكندرية! وعلى نفس المنوال سار التقدم في مجالات الفلك والرياضيات ، خلال العهد الإسلامي في الإسكندرية·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الاتحاد 2023©