د· رسول محمَّد رسول:
بعد نحو أكثر من عامين ونصف العام على التغيير السياسي في العراق يبدو المشهد العراقي اليوم أكثر تعقيداً وتمرداً على المعتاد من التوقعات السياسية، وما زالت لغة الحذر هي السائدة لدى كل الأطراف المرتبطة بالعراق سواء كانت عراقية داخلية أم عربية أم حتى دولية، وفي خلال كل ذلك كانت العلاقة بين العراق والدول العربية هي الأكثر جدلاً بين التقارب والتباعد أو بين التوافق والانفلات· وتمثل جامعة الدول العربية أحد الأطراف العربية الرئيسة التي ارتبطت بموضوع العراق منذ نيسان 2003 لكنها آثرت التعبير عن علاقتها بصور كانت عصية الوضوح نظراً لتعقد المشهد العراقي في أغلب حيثياته·
ليس من المعقول القول أن تدخُّل الجامعة العربية في الشأن العراقي جاء متأخراً؛ فمنذ التاريخ أعلاه كانت للجامعة متابعتها للشأن العراقي يوماً بيوم؛ وقد تجلى ذلك في فتح الجامعة أبوابها بالقاهرة لأكثر من فصيل سياسي ومجتمعي عراقي مثل تكوينات حزب البعث العاملة في دول الوطن العربي، وتكوينات دينية سياسية كهيئة علماء المسلمين وبعض التيارات الدينية الشيعية كالتيار الخالصي العراقي فضلا عن مجموعات عشائرية عراقية· إلا أن الجامعة، وهذا أحد أخطائها، ظلَّت تهتم بالعراق من منظور هذه النخب العراقية، ولا تستمع لأي صوت عراقي آخر سوى هذه الأصوات التي كانت لها منظوراتها المنافية للاحتلال وللتغير السياسي على الطريقة الأمريكية في العراق·
عُزلة
هذا الأسلوب أدى، من بين ما أدى، إلى عُزلة الجامعة العربية عن عراق التيارات الأمريكية أو الراغبة بالتغيير الجذري في العراق التي انطوت تحت مفهوم (تحرير العراق) في وقت وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في سلوك جامعة الدول العربية هذا مرتعاً خصباً لها لأن تعزل العراق عن أي كيان مؤسساتي عربي من شأنه التأثير في سير المشروع الأمريكي بالعراق·
ومن هنا تأتي محاولة الجامعة العربية بغض النظر عن دوافعها المتعلقة بالتدخل الإيراني إيجابية لأنها تحطم حجب عزلتها عن الداخل العراقي الساعي إلى الانخراط في نظام سياسي جديد بالعراق، ومن الطبيعي أن أية مَهمة للجامعة العربية في العراق الجديد ستحاط بصعوبات وعوائق مرة المذاق ليس لأن الوضع العراقي شائك ومعقد فحسب إنما لأن شعور العراقيين، وربما الكثير من العرب هو كذلك أيضا·
وفي وقت ظلت الدول العربية فيه شبه معزولة عن العراق الجديد بسبب ضبابية مواقفها بصدد مستقبل العراق ما أدى إلى استفحال امتداد التدخُّلات الإيرانية في العراق على نحو كبير وفاعل حتى أفاقت هذه الدول وأعلنت على الملأ أنها منزعجة من إيران بسبب تدخلها التفصيلي واليومي في الشؤون العراقية، وهذا ما كان مدعاة لوزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير سعود الفيصل توصيف التأثير الإيراني على العراق جهاراً، وهو الأمر الذي أدى إلى رد فعل عراقي جاء صارخاً في شخصانيته من جانب وزير الداخلية العراقي بيان جبر في نظر المراقبين أدى إلى حصر الموقف السعودي في رد فعل بدا متعقلناً وذلك عندما حثَّت السعودية جامعة الدول العربية على تحرك فوري من قبل أمانة الجامعة لإرسال وفد أولي إلى بغداد للتمهيد إلى زيارة عمرو موسى إلى هناك من أجل عقد (مؤتمر مصالحة) بين الفُرقاء العراقيين مسبوقاً بتحذير أعلنه عمرو موسى مفاده أن حرباً طائفية وشيكة في العراق قاب قوسين أو أدنى من الوقوع لتبرير تدخُّل الجامعة العربية في العراق الجريح·
حوار وليس مصالحة
حكومياً، رحَّب العراقيون بالدور المفترض للجامعة العربية، بل رحَّبوا بزيارة عمرو موسى، إلا أن تعديلاً على الخطاب الذي تحدث به وفد الجامعة العربية برئاسة أحمد بن حلي قد جرى ورحب به الحكوميون العراقيون الذين رفضوا مفهوم (المصالحة الوطنية) ورغبوا بمفهوم (الحوار الوطني)، وقال إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء: نحن نعتقد أن مفهوم المصالحة الوطنية يقدح في ذهن المواطن العراقي بأنها مصالحة مع (حزب البعث) الذي حكم العراق، وهذا بالنسبة لنا خط أحمر، وانعكس ذلك على طرح وفد الجامعة العربية عندما تحوَّل خطابه من مفهوم مؤتمر مصالحة الى مفهوم (مؤتمر الحوار الوطني)؛ لأن هناك قناعة كاملة تولَّدت لدى جميع القوى السياسية العراقية بأنه لا مصالحة مع (حزب البعث)، ومع الذين تلطَّخت أيديهم بدماء العراقيين·
لقد كانت رؤية الوفد العربي في العراق قد اتسمت بالحيادية والموضوعية حتى اللحظة، فقد اطلع على آراء ومواقف أكثر القوى العراقية فاعلية ونشاطاً في المشهد العراقي، وبينما بقيت الأطراف المناهضة للمشروع الأمريكي بالعراق، ومنها هيئة علماء المسلمين، تطالب بشروط للمصالحة أو الحوار وهي: جدولة الانسحاب، تحديد مفهوم الإرهاب، الاعتراف بالمقاومة، أبدت بعض الأطراف الأخرى مواقف لا تقل تشدُّداً عن سابقتها في مطالبها؛ ففي لقائه مع وفد جامعة الدول العربية بالنجف طالب الزعيم الشيعي المتشدِّد مقتدى الصدر الجامعة العربية باستنكار واضح للعمليات الإرهابية التي يدبرها أبو مصعب الزرقاوي (أمير تنظيم القاعدة في العراق) والأفعال التي ارتكبها نظام الرئيس السابق صدام حسين قبل القيام بأية وساطة سياسية في العراق· وحدَّد التيار الصدري مطالبه أولاَ: بإصدار استنكار ضد جرائم الاحتلال والجرائم الإرهابية ضد المدنيين والمقدَّسات وأعمال ما يسمى بالزرقاوي· ثانياً: إصدار استنكار ضد أفعال صدام والمطالبة بإعدامه أو محاكمته محاكمة عادلة بأياد عراقية شريفة·
إدانة الماضي ·· والحاضر
ومن جهته، استمع الوفد الى وجهة نظر الائتلاف العراقي الموحَّد التي أكدت على وحدة العراق واستقلاله واستقراره وضرورة قيام الجامعة العربية بإدانة صريحة لجرائم النظام البائد وما ارتكبه من جرائم ضد الشعب العراقي طيلة العقود الثلاثة المنصرمة، والتنديد بالعمليات الإرهابية وعدم الاكتفاء باستنكارها كفعل وإنما التأكيد على إدانة الفاعلين لها، وأبدى عبد العزيز الحكيم، رئيس الائتلاف، خلال اجتماعه مع الوفد العربي كل الاستعداد للتعاون مع الجامعة العربية ووفدها على مختلف الأصعدة لفتح صفحة جديدة، خصوصاً على الصعيد الإعلامي مؤكداً أن المؤسسات الإعلامية العراقية مفتوحة لهم لإبداء وجهة نظرهم في العراق الجديد، كما أكد رئيس الائتلاف على ضرورة قيام الجامعة العربية بإدانة ما يصدر من فتاوى ضد شيعة العراق من قبل الإرهابيين الذين حكموا على أغلبية الشعب العراقي بالكفر ووجوب أبادتهم وقتلهم·
وبينما كان الوفد العربي في بغداد أجرت الجمعية الوطنية تعديلات بدت جوهرية، جاءت كاستجابة لعدد من التيارات التي ترفض الدستور وتطالب بتعديله وفق مطالبها، وكان من بين المطالب إضافة ما يعزز أهمية الجامعة العربية في الدستور، وهو ما أعلنه إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء عندما قال: إن أهم الفقرات التي جرى تعديلها أو إضافتها إلى مسوَّدة الدستور ليست موضع اختلاف في مضامينها بين القوى السياسية وهناك فقرة تتعلق بتثبيت وحدة وسيادة العراق وهي ( العراق دولة اتحادية واحدة ذات سيادة كاملة وهذا الدستور ضامن وحدته)· وفقرة أخرى هي جاء فيها: (العراق بلد متعدِّد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسِّس وفعال في جامعة الدول العربية، وملتزم بميثاقها وهو جزء من العالم الإسلامي·
مهما كانت المبررات التي دفعت الجامعة العربية للمجيء إلى العراق، ومهما كانت النتائج التي ستترتب على زيارة عمرو موسى إلى البلارفي المستقبل، فإن تحرُّك الجامعة نحو العراق يعتبر بادرة طيبة في مجال كسر طوق العزلة المزدوج الذي تعرض له العراق، قدر تعلق الأمر بمحيطه العربي والإسلامي·