الحرية والمساواة
جبريل يهمس في أذن النبي فيرفض اقتراح المشركين
عاشت الإنسانية فى أغلال ظالمة جلها القهر والاستعباد خلال الحضارات القديمة التى غمرت موجاتها العاتية حياة البشر، قبل أن تسطع شمس الإسلام·· وتشابهت الحضارات والأمم التى استظلت بها الإنسانية في ذلك منذ العهد السحيق، واستمرت هذه الملامح في أوروبا حتى عهود قريبة، في أفكارها ومبادئها وغاياتها·· قامت جميعها على أسس الطغيان والديكتاتورية وغلبة روح المادية، والبعد عن السمو الإنساني·· غايتها المشتركة مجد الأشخاص لا مجد الشعوب، ورفاهية فرد وإن شقيت به أمة·· وكل ما تطمح إليه، وتفكر فيه هو استعباد الناس وتسخيرهم في سبيل نخبة الحكام من عظمة وكبرياء، وما ينشدونه من روعة المجد ومظاهر السلطان·· وجحدت جميع الحضارات حقوق الأفراد وحرياتهم، وتنكرت لكل ما تقدسه الإنسانية المهذبة اليوم من عدالة وإخاء ومساواة·
ثم خلعت على هذا الاستبداد الجائر صورا هائلة من القداسة والحق الالهي المزعوم، وأن الحاكم يتلقى الحكم هبة من السماء ونفحة من العناية الإلهية، وليس للشعوب حق لديه، وما هم إلا عبيد مسخرون ، فسكن لهذا الطغيان الثائرون، وآمن به الحائرون، وصار عقيدة مع العقيدة وصورة من كتاب البشرية المضللة اليائسة ··وفي نموذج من هذه الحالة عاشت بلاد العرب وفيها مكة المكرمة·
فى لحظة قدرها الله نزل وحى السماء إلى الأرض من جديد، يبلغ الرسالة، وينفث فى روع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه روح القوة والبطولة، ويدعوهم إلى التضحية والجهاد لتحرير الإنسانية من أغلالها، والسمو بها إلى حياة الحرية والديمقراطية والسلام، فأخذ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه (رضوان الله عليهم) يدعون للدين الجديد ويبشرون الناس بحياة أخرى·· قوامها وحدة الإنسانية، أممها وجماعاتها وإلى محو جميع الفروق الطائفية والعنصرية الظالمة التى فرقت بين الإنسان والإنسان وبين الجماعة والجماعة وبين الأمة والأمة·
نادى الإسلام بالمساواة بين الأفراد والجماعات فاعتدلت الموازين المقلوبة التى ألف الناس تقدير قيم الأشخاص على أساسها من الحسب والجاه والمال·· إلا ميزانا واحدا هو الكفاءة الشخصية والعمل الصالح والخلق الكريم·· 'يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير' وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: 'أيها الناس إنما المؤمنون أخوة·· ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم·· وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم'·
وأنكر عليه زعماء قريش هذا المبدأ، وفى حوارهم معه قالوا: كيف نجلس إليك يا محمد وأنت تجالس مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وعمار وسواهم من العبيد وعامة الناس؟ أطردهم عنك ونحن نحضر مجلسك ونسمع دعوتك·· فأبى عليه الصلاة والسلام·· فقالوا: فاجعل لنا يوما ولهم يوما·· فكاد يجيب دعوتهم ويقبل اقتراحهم ·· فنزل عليه الوحي من السماء يرتل في أذنه صلى الله عليه وسلم: 'ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم بيننا·· أليس لله بأعلم بالشاكرين، وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة'·
كفل الإسلام حريات الأفراد والجماعات وحارب الاستعباد البشري في جميع صوره وشتى مظاهره، حتى قال عمر بن الخطاب - فيما بعد - لاحد ولاته العظام (عمرو بن العاص) وقد اعتدى ابنه على رجل من الرعية: 'كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا' فحررت الممارسة الإسلامية العبيد المسترقين، فجعلها كفارة للذنوب وتقربا فذهبت الى غير رجعية ومن ازمان بعيدة له·· وكان قد وضع الحدود والقواعد الملزمة لمعاملة هؤلاء الأرقاء، كما حرر المرأة من عبودية الرجل، وحرر المجتمع من ديكتاتورية الزعماء والطغاة·· وحرر الشعوب من جور المال واستبداده، فأحل البيع وحرم الربا ودعا إلى أسمى المعاملات وأنبلها وأرقها وجاءت أول كلمة في الدعوة الإسلامية هى الحض على وحدة العقيدة (الربوبية لله) وألا يشرك الناس بالله شيئا، وبذلك رفع كرامة الإنسانية من أن تمتهن بالسجود لغير الخالق سبحانه وتعالى ، ورفع كرامة الناس من أن يذلوا للطغيان السياسي الذى يسبغ عليه أصحابه لونا زاهيا من القداسة وتأييد العناية الإلهية وشراء صكوك الغفران فقال تعالى: 'قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ'·
ووضع أسس الحكم أو نظام المجتمع بقوله تعالى: 'لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم' وقال صلى الله عليه وسلم : 'إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم' وفتح أبواب (مبدأ) النصح للحاكم لأول مرة : 'الدين النصيحة·· لله ولرسوله ولأولى الأمر' و' لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق' وأعمل النبى صلى الله عليه وسلم قواعد العقيدة والشريعة فى تؤدة وتدرج حتى أصبحت غرسا طبيعيا فى موضعه تماما فى حياة الفرد والأسرة، وشؤون المجتمع والأمة، على أسمى وجه تنشده الإنسانية ويصبو إليه المصلحون·
ودعا الناس إلى غاية مشتركة هى العمل على سعادة الإنسانية ورفاهيتها وتقدمها والتمكين لحياة التعاون والتجديد والابتكار والإبداع·· حرية بين الناس حتى بلغت ذروتها ' من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر' وعلى النهج سار الخلفاء الراشدون فكانوا المثل الأعلى فى إطلاق الحرية والعدل والمساواة، فاستعاد الفرد كرامته والمجتمع سعادته والشعب حريته، والإنسانية طمأنينتها، وعاش الجميع بنعمة الله إخوانا·
أليست غاية الإنسانية (اليوم) هى المساواة التامة بين الناس وتهيئة الفرص للرقى أمام كل فرد ونشر العدالة الاجتماعية بين الأفراد والطبقات وكفالة حريات الناس جميعا واشتراك الفرد فى شؤون المجتمع والأمة يديرها ويسوسها ويسير بها لصالح الجميع حتى يتعاون الحكام والمحكومون فى سبيل الخير العام والصالح المشترك ··أو لم يقرر الإسلام كل هذه المبادئ ويعمل بها وينتشر بها فى مشارق الأرض ومغاربها قبل أن تتلمسها الحضارات الأوروبية الحديثة بقرون عديدة قبل أن تسمع بها عبر حدودها مع دولة الإسلام فى بلاد الأندلس··؟!
ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة