الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سان جون بيرس.. طاهي الشعر

سان جون بيرس.. طاهي الشعر
17 يناير 2019 03:20

جيل براسنيتزار

إنّه لمن النّادر أن يكون شاعراً قد رتّب لخلوده على مثل ذلك النّحو من الدقّة والهوس، حتّى يظلّ نصبه المرمريّ متوهّجاً على ضفاف الزّمن. ففي سنة 1972 كان هذا الشّاعر قد تصوّر كلمة بكلمة أعماله الكاملة التي سوف تنشر ضمن منشورات «جماعة الثريّا» الأدبيّة، العريقة، أو «لا بلياد»، ولم يترك لأيّ كان إمكانيّة أن يقوم مقامه للاحتفاء بها. وإنّه لمن المستغرب أن تكون خطبه قد احتلّت في ذاك العمل النّفيس حيّزاً أهمّ من ذلك الذي حظيت به أشعاره.

بالكاد أذكر ذلك اللّقاء البعيد الذي جمعني به في «إكسانبروفونس»، لقد تبدّى لي بملامح رجل مسنّ، في أجواء فاغمة برائحة الشّاي، وبحضور مدبّرة منزل قاسية، يومها.. لم تكن له رغبة أخرى غير الحديث عن عمله الدبلوماسيّ، عن ميلاّران وجمعيّة الأمم، وعن حقده على الجنرال دي غول.. وكان مسهباً في حديثه ذاك، غير أنّه لم يلفظ ولو كلمة واحدة عن شعره.
مواقع كثيرة وقيّمة على شبكة الإنترنت تزخر بشعر سان جون بيرس، ولم تترك مقارباتها لهذا الشعر، بالنّظر إلى غزارتها، مزيداً لمستزيد، ويكفي أن نقوم بفتح إحدى تلك المواقع حتّى نتلقّف بملء الكيان السّيل الخطابي الجارف لهذا الشّاعر، وحتّى يتمدّد نفَسُهُ فينا مثل ريح عاتية تكتسح الأرض لتكشطها.
لقد عدّه النقّاد سارقاً للنّار وصاحب العُزلات المنيفة الشّامخة، غير أنّه لم يكن أبداً سارقاً حتّى يتقاسم ما لديه مع البشر، ولكن كان هو ذاته النّار، وبصوته الرّحيب المجلجل في وجه العالم، يكون قد تنبّأ بالشّعر. مثل محيط رحيب من الحماس الغامر، ما انفكّ ذلك الشّعر يقلّب بمياه بحر البدايات أصداف صوره المفرطة، التي يكون قد ظفر بها في أصقاع مطيّبة وتحت سماوات خالدة.

نبوءات بيرس
نستذكر سان جون بيرس فتمثل أمامنا أسطورة المتنبّئ الخبير بمكامن الينابيع الفيّاضة، المتكهّن بكلمات مذهولة.. الوافد من كلّ الأقاصي.. إنّه يكتب كي يمنح جواباً للبشر، جواباً للإنسان. لقد كان ذلك الجواب مختزلاً، ولكنّه كم كان مجلجلاً.
لا شكّ في أنّه كان وسيطاً. فكيف قيّض لهذا الشّعر المتباهي والمبهرج حدّ الإسراف، البالغ التأنّق في اندفاعاته، النّفيس في بلاغته.. أن يظلّ نابضاً وعصيّاً على الموت؟ كيف لا يزال هذا الشّاعر يلامسنا، وكيف لا تزال كلماته، متى قرأناه، تتهطّل علينا مثل مطر نديّ منهمر من السّماء؟
تكمن الإجابة بالنّسبة لي في هذه الجملة: «إنّي أخاطبك يا روحي.. يا روحي المعتّمة بطيب جواد»، فالرّوائح والأعاصير والرّشاش والطّيور والسّفن وعطر الكاكاو وتنفّس الرّمل، يغدو جميعها في تجلّياته الشّعريّة أبعد من المقاييس التي اعتادها البشر، كما تظلّ كلمات بيرس مهما كانت خطابيّة.. كلمات متجسّدة. إنّ نشيد هذا الملك ليخاطبنا بنديّة، فيملؤنا شرفاً ونبلاً. فكم من مرّة كنت قد لعنت بيرس وقصائده الخطابيّة المنمّقة، لأسلم له قيادي في كلّ مرّة وأنقاد لسحر كلماته. كنت في كلّ مرّة أعود لأجثو أمام قدميه، فإذا به يعود مع كلّ فصل بالطيور الخضراء المهذارة لقصائده، وهي تنتصب فوق قبضة يده. كتمثال شامخ ومهيب في أفق الشّعر، يظلّ هذا الشّاعر العارم منتصباً بملء قامته. وينبغي لنا الانغمار في المياه الوقورة لشعره.
سان جون بيرس هو سيّد الصّور، سيّد تلك الصّور التي تمّ طهيها على مهل في القِدر الأسود للأساطير وللمحال. ضياء متدفّق يسري في كلماته المتشامخة، وفيه تستلقي لجج شطحاته المتدافعة والعاتية.
إنّه ليتحكّم كليّة في نشيده، حتّى وإن كان يقول بأنّ مجده مُلقى على الرّمال، ويرعي ذلك النّشيد ويتعهّده كما يتعهد الفراعنة معابدهم، لأنّ قصائده هي أهراماته وشواهد ذكرياته. في لغته الأصيلة الخالصة، يرافق بيرس بتلاوته للشّعر.. البحر والرّيح والطّير..، وحسبُه.. أنّه كان الضّمير المعيب واللئيم لزمنه.

نشيد للاعتدالين
لتكن كلّ الأشياء الخارجة عن الحلم، ولتكن كلّ الأشياء عبر العالم مباركة ونحن نكدح على الطّريق.. والطّريق هي كلمات بيرس التي هي بثقل الماضي السّحيق وأعياد الذّاكرة.. فمائة ألف سنة هو عمر بيرس.
وحين يغدو سان جون بيرس غير متربّع على عرش الأقاصي أو جاثماً على ذروة المرارة، فإنّه يمنح من جديد النّهر المتلألئ.. أناشيد مشبوكة في زمن الطّفولة، وبعيداً عن وضعيّته كمتنبئ يستدعي كلّ أصداف أهازيجنا التي كانت فيما مضى موهوبة لكلّ الأشرعة في الأفق البعيد.
«لقد حلمت في المساء الأخير بجزائر كانت أكثر اخضرارا من الحلم، وكان ثمّة في الرّصيف سفن موسيقيّة عظيمة» (بيرس)، بعد ذلك.. سيغدو العسل والفلفل لا محالة.. بداخلنا.
أعماله.. يمكن أن تتّسع لها تجويفة اليد، وقد تنضاف إليها أيضاً.. السّماء العميقة والأشجار العملاقة..
تضرّع.. تراتيل للرّياح، موج متدافع، موج صاخب.. إنّ شعره لينتصب طوداً متشامخاً في وجه اللّيل السّحيق، ولكنّه يظلّ رغم ذلك.. شعراً شمسيّاً، يأبى قتامة اللّيل، ويطمح إلى أن يكون حلماً للخلق عند كلّ تخوم البشر، تأتي الأشياء الشّاردة فتعشّش داخله.. لتتحدّث عن العمر المهيب، ولكن من زاوية متعالية.

المدينة
يغطّي سقوفهم الأردواز، وقد يكون القرميد
حيث تعشّش الطّحالب.
و تنسكب عبر أنابيب المداخن أنفاسهم
دهونا..
و رائحة رجال مستعجلين،

يا لك من مدينة تعتلي السّماء..
دهون.. أنفاس مكرّرة
ثمّ دخان شعب مريب، ذلك أنّ
كلّ مدينة تطوّق المزابل.
على مِنور الحانوت وعلى براميل قمامة الملجأ،
فوق رائحة النّبيذ الأزرق لحيّ الملاّحين،
وفوق النّافورة المنتحبة في فناءات الشّرطة،
وفوق التماثيل الحجريّة المصفرّة، وفوق الكلاب الضّالّة،
فوق الصبيّ الذي يصفّر،
فوق المتسوّل الذي يرتجف خدّاه داخل فكّيه الغائرين،
فوق القطّة المعتلّة التي تحمل ثلاثة تجاعيد في جبهتها...
يحلّ المساء وسط أبخرة البشر،
وعبر النّهر تنصبّ المدينة في البحر مثل الخُراج...
كروزُوِي.. هذا المساء.. بالقرب من جزيرتك
سوف ترسل السّماء التي تتدانى.. مدائحها للبحر،
وسوف يضاعف الصّمت من هتافه للنّجوم الضالّة.
لتُنزل السّتائر.. ولا تشعل الضّوء:
إنّه المساء الذي يحلّ فوق جزيرتك ومن حولها.. هنا وهناك،
في كلّ مكان تستدير فيه مزهريّة البحر استدارة تامّة،
إنّه المساء بألوان الأجفان،
على الطّرقات المحبوكة.. للسّماء والبحر.
كلّ الأشياء مالحة، كلّ الأشياء لزجة وثقيلة مثل مصل نابض.
يتهدهد الطّائر في ريشه تحت حلم ناعم.
الفاكهة الجوفاء التي تعجّ بالحشرات،
تسقط في مياه الأجوان وهي تفتّش عن صوتها.
الجزيرة تغفو في المياه المديدة والمرتعشة، المطهّرة بالتيّارات السّاخنة
وبالسّائل الرّخو لذكور السّمك، حين اختلاطها بالأوحال المهيبة.
تحت الشّجيرات المائيّة التي اتّسعت لها الجزيرة،
السمك المتواني وسط الوحل أطلق برؤوسه النّحيفة فقّاعات،
فيما ظلّ سمك آخر مبقّع كالزّواحف.. على قيد السّهر.
لقد غدت الأوحال ملقّحة.
أنصت إلى حسيس كائنات جوفيّة داخل قواقعها.
ثمّة قطعة من سماء خضراء ودخان عابر
إنّه سرب متشابك من البعوض.
تحت أوراق الشّجر.. يتنادى الجراد بهدوء،
فيما أنّ كائنات لطيفة أخرى، مصيخة لإيقاع المساء،
ترسل نغما أرقّ من الإعلان عن مطر وشيك (..)
صرخة تطلقها المياه الدوّارة والمتوهّجة..
تويجات، أفواه توتياء: الحداد الذي ينكشف ثمّ ينتشر..
إنّها أزاهير ضخمة متحرّكة على قيد السّفر، أزاهير آبدة
لن تنفكّ تنمو عبر العالم...
يا للون النّسيمات السّارية على سطح المياه السّاكنة..
ويا لجريد النّخل المرتعش..
وفي البعيد.. لا أثر لنباح كلب يدلّ على وجود كوخ: يهدي
إلى كوخ ودخان المساء والصّخرات السّوداء الثّلاثة تحت رائحة الفلفل.
ولكنّ الخفافيش تمزّق المساء الرّخو بصرخاتها الواهنة.
إيه أيّتها السّعادة المنعتقة في أعالي السّماء..
كروزُوِي.. أنت هنا.. ووجهك موهوب لآيات اللّيل،
مثل راحة يد منزعجة.
وأنت، أيتها البحار..
وأنت، أيّتها البحار، يا من تقرئين في أكثر الأحلام رحابة، هل ستتركيننا
ذات مساء إلى مِنخس المدينة، بين السّاحة العامّة وعناقيد البرونز؟

أيّها الحشد.. أكثر تمدّداً هو مجلسنا على هذا المنحدر لعصر بلا انحدار:
جليل وأخضر هو البحر كفجر في شرق البشر،
البحر المحتفل عند تخومه يرسل أنشودة من حجر،
تيقّظ واحتفال على تخومنا، تهامس و ابتهاج بعُلوِّ البشر،
البحر نفسه سهرنا، كأنّه إعلان إلهي...
شذا الوردة المأتميّ، لن يحيط بعد الآن بسياج القبر،
السّاعة النّابضة في أماليد النّخل، لن تُسكت بعد الآن روحها الغريبة...
وهل كانت شفاهنا أبداً.. مرّة؟
في نيران اللجّ رأيت الشّيء الكبير المبتهج يبتسم: البحر يحتفل بأحلامنا،
فِصحا من العشب الأخضر وكعيد يُعيّد،
البحر كلّه يعلن عيد التّخوم، تحت مِصْقرتهِ من الغيوم الكثيفة البيض،
كأرض عبور وكأرض محبوسة، كموطن لعشب مجنون
كان رهن رمية نرد..
اُغْمُر أيّها النّسيم ولادتي، ولتكن رعايتي لميدان
الحدقات الأكثر اتّساعاً.. حراب الظّهيرة تتمايل عند أبواب الفرح.
طبول الفرح تنحني أمام مزامير الضّوء.
والمحيط من كلّ ناحية يدوس حمله من الورود الميّتة.
ويرفع الوالي رأسه فوق شرفاتنا الكلسيّة.
..............................................
* ترجمة: أ. ح.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©