الشارقة ـ إبراهيم الملا:
منذ بداياته الأولى، ومع اكتشافه المبكر لسحر اللّغة الغامضة المدسوسة في أصابع ' الأكورديون' ومفاتيحه السرية، والتي شرّعت فجأة أبواب خيالاته، وانسلّت إلى غابة روحه، وفتنتها المشمولة بالنغم، كانت البداية·
من هناك، من لجّة الإيقاع، وضربات الوتر التي تنثر غبارا من ذهب وغيوما على طول الطفولة، اكتشف 'إبراهيم الأميري' في طاقة الآلات الصامتة، كل ذاك الشغف والدوار واللوثة والانتشاء، فكان كمن يبذر ألحانه في أول الحلم، كي يقطف أناشيدها في أخر اليقظة !
من هناك أيضا،غرفت أصابعه من مياه دافقة وحكايات منهمرة وصور وترانيم ومسرّات ولواعج، ولكن الكنز المحفوف بالظلال والمسوّر بألف تعويذة وأحجية، لم يكن سوى صندوق الموسيقى، و'حصّالة النوتات التي أودع فيها شرارات قلبه وتوهجات أصابعه، وكل تلك الفيوضات المبعوثة من ضوء عميق وآسر ولا نهاية له·
يقودنا 'الأميري' في حوارنا معه، لتلك المنطقة التي يفضل أن يحتمي ويحتفي بها، وأن يناور ويرتجل فيها كما يشاء، استضافني في محترفه الموسيقي 'الأستوديو الصغير الذي بناه في منزله' والماثل أمامي الآن مثل غرفة الأصداء والهيامات الطائرة، شهادات تقدير متناثرة، وجوائز مسرحية منصوبة على الطاولة، ألحان منسكبة بحنان على أحجار البيانو، صورلممثلين معروفين على شاشة متوقفة، ومشاريع كثيرة خجلة ومتوارية في دفتر النوتات، أجهزة حديثة وأخرى تقليدية نتحاور فيما بينها بصمت، بينما آلاف الإيقاعات تتسلق سلمها الموسيقي اللاّمرئي، وتتهاوى برفق، كي يذوب بعضها في الفراغ، ويسّاقط بعضها على بلاط الغرفة دون ضجة، أما ما تبقى فيهطل على جسد العازف ويتماهى بين يديه وفي مخيلته، كي يحكي للآخرين ما فاتهم أن يجدوه في ضجيج الحياة وفي التباساتها، كيف لا ولغته المسافرة والطليقة لا حاجة لها بلسان ولا ترجمان !
جسد مكتنز بالإيقاع
إبراهيم الأميري، منذ طفولته الغضة وهو يطارد هذه الفراشات الخفية التي ترفعها الموسيقى على شهقة الآلات الرهيفة، والتي صاغها الخيال البشري على مقاس الحلم المنهمر من الطبيعة وتبدلاّتها، ومن أصوات البحر والريح والغيم وطيور الحب وحكايات ألف ليلة وليلة، ومن كل تلك الفضاءات المفتوحة على طفولة الدهشة·
ويقول إبراهيم، أنه كان يأتي مع شقيقه الأكبر بالألواح الخشبية ويخططها بقلم الرصاص، ويصنع منها ما يشبه الجيتار، وكان يأتي بخيوط الصيد كي يصنع أوتارا بدائية، ولكن رغم السهر والتعب والجروح ووخزات المسامير، ورغم النتائج غير المشجعة، إلا إنه كان يشعر بلذة المحاولة وبلذة استنطاق الجماد، وتحويله إلى جسد آخر، مكتنز بالإيقاع والرقص والشغب الأليف·
ويتابع مع امتداد هذا الشغف الموسيقي في داخلي، قلت لنفسي لماذا لا أؤلف موسيقاي الخاصة؟، كنت وقتها متأثرا بالموسيقى الكلاسيكية 'باخ وموتزارت وبيتهوفن' وكذلك بالموسيقى الغربية الهادئة، فطلبت من والدي بإلحاح أن يشتري لي آلة 'الأكورديون' التي أعطتني فسحة للتعبير عن مشاعري وهواجسي في فترة المراهقة، كانت آلة '
روح المقامات الشرقية
وعن عدم التحاقه بمدارس ومعاهد أكاديمية في ذلك الوقت، يجيب الأميري: لقد اعتمدت على الكتب والبحوث الداخلة في نطاق التثقيف الذاتي والجهود الشخصية في ملاحقة التفاصيل الهندسية والتقنية ومعرفة أسرارالنوتة الموسيقية وعمليات المكساج الصوتي، واستفدت من تجارب وخبرات بعض العازفين والموسيقيين الأكاديميين الذين تعرفت عليهم وأحاطوني برعايتهم واهتمامهم، وبالنسبة لتأليف الألحان والتوزيع الموسيقي، فإن الشخص الذي لا يستطيع الإحاطة بأساسيات وبديهيات هذا النوع من الفنون ولا يملك الصبر على تعلمها ومتابعتها، فإن عليه الانسحاب مبكرا وعدم المواصلة، لأنه الفن بحاجة لجهد معرفي خاص وصعب وملئ بالتضحيات والتنازلات الحياتية·
هذا بالإضافة إلي إنني توقفت طويلا أمام 'المقامات العربية والشرقية'، واستطعت بجهودي الفردية أن أقترب من عوالم هذه المقامات وأن أدخل إلى أجوائها وطرائق التعبير الموسيقي الفخمة والثرية التي تملكها، واستطعت أيضا من خلال التعمق في 'الكوردات' الموسيقية أن أمتلك مفاتيح تأليف وتوزيع اللحن اعتمادا على جو النصوص المسرحية والدرامية والفيلمية التي كنت مرشحا لوضع موسيقاها التصويرية·
موسيقى تجريبية
وعن الفوارق بين المسرح والدراما التلفزيونية، والفيلم القصير يشير إبراهيم إلى أن الموسيقى المصاحبة للجو المسرحي تكاد تكون أقرب للتجريب، لذلك فهو غالبا ما يميل لإضافة الإيقاعات المتصاعدة ' الكريشيندو' والأصوات البشرية والآهات والمواويل لإضفاء نوع من الحس الحركي والإيمائي الحيّ والمتشكل على الخشبة، وبخصوص الدراما التلفزيونية يقول :' غالبا ما أوازن بين الجُمل اللحنية وبين اللقطات والمشاهد في العمل، حتى يتم بثّ نوع من الروح اللحنية الثابتة في كامل المسلسل، ولكن التصاعد الدرامي والتباين العاطفي والحسي لدى الشخصيات يضطرني أحيانا لخلق التعبير الموسيقي من خلال أداة واحدة فقط كالعود مثلا، وبالنسبة للأفلام فهي تملك مساحة بصرية خصبة ومتعددة، وإذا كان الفيلم قويا وآسرا فإنه يجرني لمنطقته ويجبرني على إضفاء التعبير الموسيقي والصوتي المتوائم مع الثيمات والشيفرات البصرية·
نظرة قاصرة
وعن الإشكاليات التي مرّ بها مع منتجي الأعمال الدرامية التي تعرض حاليا في شهر رمضان يقول إبراهيم:
تتمثل مشكلة هؤلاء المنتجين والمخرجين في نظرتهم القاصرة في فهم واستيعاب دور الموسيقا في العمل الدرامي، وكذلك في نظرتهم المسبقة لي كهاوِ، مازال يعمل بمفرده في محترفه الموسيقي الشخصي، بينما لو استعان هؤلاء المنتجين أنفسهم بعازف أو موزع غريب أو أجنبي فإن معاملتهم ستنقلب مائة وثمانين درجة، وسيتم تقديره ماديا وأدبيا فوق ما يستحقه، بغض النظر عن جودة أو رداءة ما يقدمه، كل ذلك لأنه نصّب نفسه كمحترف في الوسط الموسيقي ولأنه يملك مؤسسة أو شركة تسنده وتتحول إلى جواز مرور دبلوماسي وذهبي يسهّل عليه دخول شركات الإنتاج وإدارات التلفزيون·
ولو دققت في بعض الأعمال الدرامية فسترى أن أغلب ما يؤلف لها من موسيقى تصويرية ، يعتمد على فرش مقطوعة أومقطوعتين فقط وبشكل متكررعلى كامل جسد هذه الأعمال، وهذا لا يجوز،لأنه عبارة عن استسهال وإهمال للدورالإيحائي المؤثر والمواكب للحدث، والذي تعبّر عنه الموسيقى المخلصة لجو العمل ولكامل تفاصيله·
ورغم كل الجوائز والخبرات والتجارب التي اكتسبتها، وكسبت بها ثقة التلفزيونات الخليجية، فإن التقدير الذي ألقاه من الداخل ما زال معتمدا على المحاباة والعلاقات الشخصية والصداقات، وهي أمور معنوية أجلّها وأقدرها، ولكن التأليف الموسيقي بحاجة لتمويل ودعم مادي يوازي المتطلبات الكثيرة والمعقدة التي يحتاجها هذا النوع من التأليف، وللأسف فإن الكثير من هؤلاء المنتجين مازالوا يساومونني ويدخلون معي في مناقصات وكأننا في سوق السمك!، وكل هذا لأنني لست أجنبيا و لا أملك الإمكانيات لتأسيس شركة خاصة بي·